الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج23.وج24.مفاتيح الغيب للرازي

 

 ج23.وج24.مفاتيح الغيب للرازي

ج23. مفاتيح الغيب للرازي ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

وولدك فظاهر الأمر لهم وحقيقة الأمر له بفعل ما يخافون عنده
المسألة الرابعة قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث غلاماً من الأنصار إلى عمر ليدعوه فوجده نائماً في البيت فدفع الباب وسلم فلم يستيقظ عمر فعاد ورد الباب وقام من خلفه وحركه فلم يستيقظ فقال الغلام اللهم أيقظه لي ودفع الباب ثم ناداه فاستيقظ وجلس ودخل الغلام فانكشف من عمر شيء وعرف عمر أن الغلام رأى ذلك منه فقال وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق معه إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فوجده قد نزل عليه الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فحمد الله تعالى عمر عند ذلك فقال عليه السلام وما ذاك يا عمر فأخبره بما فعل الغلام فتعجب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من صنعه وتعرف اسمه ومدحه وقال إن الله يحب الحليم الحي العفيف المتعفف ويبغض البذيء الجريء السائل الملحف ) فهذه الآية إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر وقال بعضهم نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قالت إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد وقيل دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت الآية
المسألة الخامسة قال ابن عمر ومجاهد قوله لِيَسْتَأْذِنكُمُ عنى به الذكور دون الإناث لأن قوله الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ صيغة الذكور لا صيغة الإناث وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي في الرجال والنساء يستأذنون على كل حال بالليل والنهار والصحيح أنه يجب إثبات هذا الحكم في النساء لأن الإنسان كما يكره اطلاع الذكور على أحواله فقد يكره أيضاً اطلاع النساء عليها ولكن الحكم يثبت في النساء بالقياس لا بظاهر اللفظ على ما قدمناه
المسألة السادسة من العلماء من قال الأمر في قوله لِيَسْتَأْذِنكُمُ على الندب والاستحباب ومنهم من قال إنه على الإيجاب وهذا أولى لما ثبت أن ظاهر الأمر للوجوب
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عمر الْحُلُمَ بالسكون
المسألة الثانية اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة رحمه الله لا يكون الغلام بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها وفي الجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الغلام والجارية خمس عشرة سنة قال أبو بكر الرازي قوله تعالى وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة إذا لم يحتلم لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من جهات كثيرة ( رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم ) ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها فإن قيل فهذا الكلام يبطل التقدير أيضاً بثماني عشرة سنة أجاب بأنا قد علمنا بأن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان مبنياً على طريق العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة وقد بينا أن الزيادة على المعتاد جائزة كالنقصان منه فجعل أبو حنيفة رحمه الله الزيادة كالنقصان وهي ثلاث سنين وقد

حكى عن أبي حنيفة رحمه الله تسع عشرة سنة للغلام وهو محمول على استكمال ثماني عشرة سنة والدخول في التاسعة عشرة حجة الشافعي رحمه الله ما روى ابن عمر أنه عرض على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه اعترض أبو بكر الرازي عليه فقال هذا الخبر مضطرب لأن أحداً كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يكون بينهما سنة ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته ولطاقته حمل السلاح ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما سأله عن الاحتلام والسن
البحث الثاني اختلفوا في الإنبات هل يكون بلوغاً فأبو حنيفة وأصحابه ما جعلوه بلوغاً والشافعي رحمه الله جعله بلوغاً قال أبو بكر الرازي رحمه الله ظاهر قوله وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ينفي أن يكون الإنبات بلوغاً إذا لم يحتلم كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغاً وكذلك قوله عليه السلام ( وعن الصبي حتى يحتمل ) حجة الشافعي رحمه الله تعالى ما روى عطية القرظي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال فنظروا إلى فلم أكن قد أنبت فاستبقاني قال أبو بكر الرازي هذا الحديث لا يجوز إثبات الشرع به وبمثله لوجوه أحدها أن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر لا سيما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ إلا بالاحتلام وثانيها أنه مختلف الألفاظ ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه الموسى وفي بعضها من اخضر عذاره ومعلوم أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه ولا يكون قد جرت عليه الموسى إلا وهو رجل كبير فجعل الإنبات وجرى الموسى عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا من السن وهي ثماني عشرة سنة فأكثر وثالثها أن الإنبات يدل على القوة البدنية فالأمر بالقتل لذاك لا للبلوغ قال الشافعي رحمه الله هذه الاحتمالات مردودة بما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سئل عن غلام فقال هل اخضر عذاره وهدا يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة
البحث الثالث ويروى عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار روي عن علي عليه السلام أنه قال إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه وعن ابن سيرين عن أنس قال أتى أبو بكر بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه وهذا المذهب أخذ به الفرزدق في قوله ما زال مذ عقدت يداه إزاره
وسما فأدرك خمسة الأشبار
وأكثر الفقهاء لا يقولون بهذا المذهب لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلاً وفوق البلوغ ويكون قصيراً فلا عبرة به
المسألة الثالثة قال أبو بكر الرازي دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات وقال عليه السلام ( مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ) وعن ابن عمر رضي الله عنه قال نعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله وعن زين العابدين أنه كان يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً فقيل له يصلون الصلاة لغير وقتها فقال خير من أن يتناهوا عنها وعن ابن مسعود رض الله عنه إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم ثم قال أبو بكر

الرازي إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفوراً منه وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يمنع منه في الصغر لصعب عليه الامتناع بعد الكبر وقال الله تعالى قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( التحريم 6 ) قيل في التفسير أدبوهم وعلموهم
المسألة الرابعة قال الأخفش يقال في الحلم حلم الرجل بفتح اللام يحلم حلماً بضم اللام ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم حلماً بكسر اللام
أما قوله تعالى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مّن قَبْلِ صَلَواة ِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظَّهِيرَة ِ وَمِن بَعْدِ صَلَواة ِ الْعِشَاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يعني ثلاث أوقات لأنه تعالى فسرهن بالأوقات وإنما قيل ثلاث مرات للأوقات لأنه أراد مرة في كل وقت من هذه الأوقات لأنه يكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة ثم بين الأوقات فقال مّن قَبْلِ صَلَواة ِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظَّهِيرَة ِ وَمِن بَعْدِ صَلَواة ِ الْعِشَاء يعني الغالب في هذه الأوقات الثلاثة أن يكون الإنسان متجرداً عن الثياب مكشوف العورة
المسألة الثانية قوله ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ قرأ أهل الكوفة ثَلَاثٍ بالنصب على البدل من قوله ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وكأنه قال في أوقات ثلاث عورات لكم فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه وقراءة الباقين بالرفع أي هي ثلاث عورات فارتفع لأنه خبر مبتدأ محذوف قال القفال فكأن المعنى ثلاث انكشافات والمراد وقت الانكشاف
المسألة الثالثة العورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان والأعور المختل العين فسمى الله تعالى كل واحدة من تلك الأحوال عورة لأن الناس يختل حفظهم وتسترهم فيها
المسألة الرابعة الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين أحدهما بقوله تعالى ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة وبين ما عداها بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة وأنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات
المسألة الخامسة من الناس من قال إن قوله تعالى كَرِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) فهذا يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال وصار ذلك منسوخاً بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة ومن الناس من قال الآية الأولى أريد بها المكلف لأنه خطاب لمن آمن وما ذكره الله تعالى في هذه الآية فهو فيمن ليس بمكلف فقيل فيه إن في بعض الأحوال لا يدخل إلا بإذن وفي بعضها بغير إذن فلا وجه لحمل ذلك على النسخ لأن ما تناولته الآية الأولى من المخاطبين لم تتناوله الآية الثانية أصلاً فإن قيل بتقدير أن يكون قوله تعالى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يدخل فيه من قد بلغ فالنسخ لازم قلنا لا يجب ذلك أيضاً لأن قوله كَرِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ لا

يدخل إلا من يملك البيوت لحق هذه الإضافة وإذا صح ذلك لم يدخل تحت العبيد والإماء فلا يجب النسخ أيضاً على هذا القول فأما إن حمل الكلام على صغار المماليك فالقول فيه أبين
المسألة السادسة قال أبو حنيفة رحمه الله لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس ولا أرى أحداً يعمل بهن قال عطاء حفظت اثنتين ونسيت واحدة وقرأ هذه الآية وقوله رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( الحجرات 13 ) وذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة قوله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ أُوْلُواْ الْقُرْبَى ( النساء 8 ) الآية
أما قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ففيه سؤالات
السؤال الأول أتقولون في قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ أنه يقتضي الإباحة على كل حال الجواب قد بينا أن ذلك هو في الصغار خاصة فمباح لهم الدخول للخدمة بغير الإذن في غير الأوقات الثلاثة ومباح لنا تمكينهم من ذلك والدخول عليهم أيضاً
السؤال الثاني فهل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة لهم الجواب لا وإنما أباح الله تعالى ذلك من حيث كانت العادة أن لا تكشف العورة في غير تلك الأوقات فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم إليها فذلك يحرم عليها فإن كان الخادم ممن يتناوله التكليف فيحرم عليه الدخول أيضاً إذا ظن أن هناك كشف عورة فإن قيل أليس من الناس من جوز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته قلنا من جوز ذلك أخرج الشعر من أن يكون عورة لحق الملك كما يخرج من أن يكون عورة لحق الرحم إذ العورة تنقسم ففيه ما يكون عورة على كل حال وفيه ما يختلف حاله بالإضافة فيكون عورة مع الأجنبي غير عورة غيره على ما تقدم ذكره
السؤال الثالث أتقولون هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم الجواب نعم وفي قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ دلالة عى أن هذا الحكم يختص بالصغار دون البالغين على ما تقدم ذكره وقد نص تعالى على ذلك من بعد فقال وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ والمراد من تجدد منه البلوغ يجب أن يكون بمنزلة من تقدم بلوغه في وجوب الاستئذان فهذا معنى قوله كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وقد يجوز أن يظن ظان أن من خدم في حال الصغر فإذا بلغ يجوز له أن لا يستأذن ويفارق حاله حال من لم يخدم ولم يملك فبين تعالى أنه كما حظر على البالغين الدخول إلا بالاستئذان فكذلك على هؤلاء إذا بلغوا وإن تقدمت لهم خدمة أو ثبت فيهم ملك لهن
السؤال الرابع الأمر بالاستئذان هل هو مختص بالمملوك ومن لم يبلغ الحلم أو يتناول الكل من ذوي الرحم والأجنبي أيضاً لو كان المملوك من ذوي الرحم هل يجب عليه الاستئذان الجواب أما الصورة الأولى فنعم إما لعموم قوله تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ ( النور 27 ) أو بالقياس على المملوك ومن لم يبلغ الحلم بطريق الأولى وأما الصورة الثانية فيجب عليه الاستئذان لعموم الآية
السؤال الخامس ما محل لَيْسَ عَلَيْكُمْ الجواب إذا رفعت ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ كان ذلك في محل الرفع على الوصف والمعنى هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً

مقرراً للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة
السؤال السادس ما معنى قوله طَوفُونَ عَلَيْكُمْ الجواب قال الفراء والزجاج إنه كلام مستأنف كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد وأصله من الطواف والمعنى يطوف بعضكم على بعض بغير إذن
السؤال السابع بم ارتفع بَعْضُكُمْ الجواب بالابتداء وخبره عَلَى بَعْضٍ على معنى طائف على بعض وإنما حذف لأن طَوفُونَ يدل عليه
أما قوله وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاء الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن السكيت امرأة قاعد إذا قعدت عن الحيض والجمع قواعد وإذا أردت القعود قلت قاعدة وقال المفسرون القواعد هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ولا مطمع لهن في الأزواج والأولى أن لا يعتبر قعودهن عن الحيض لأن ذلك ينقطع والرغبة فيهن باقية فالمراد قعودهن عن حال الزوج وذلك لا يكون إلا إذا بلغن في السن بحيث لا يرغب فيهن الرجال
المسألة الثانية قوله تعالى في النساء لاَ يَرْجُونَ كقوله إَّلا أَن يَعْفُونَ ( البقرة 237 )
المسألة الثالثة لا شبهة أنه تعالى لم يأذن في أن يضعن ثيابهن أجمع لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون المراد بالثياب ههنا الجلباب والبرد والقناع الذي فوق الخمار وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ أَن يَضَعْنَ جَلَابِيبِهِنَّ وعن السدي عن شيوخه ( أن يضعن خمرهن رؤوسهن ) وعن بعضهم أنه قرأ ( أن يضعن من ثيابهن ) وإنما خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع الثياب ولذلك قال وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وإنما جعل ذلك أفضل من حيث هو أبعد من المظنة وذلك يقتضي أن عند المظنة يلزمهن أن لا يضعن ذلك كما يلزم مثله في الشابة
المسألة الرابعة حقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها والبرج سعة العين التي يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء إلا أنه اختص بأن تنكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها
لَّيْسَ عَلَى الاٌّ عْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّ عْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّة ً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَة ً طَيِّبَة ً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد من رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فقال ابن زيد المراد أنه لا حرج عليهم ولا إثم في ترك الجهاد وقال الحسن نزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله الجهاد عنه وكان أعمى وهذا القول ضعيف لأنه تعالى عطف عليه قوله أَن تَأْكُلُواْ فنبه بذلك على أنه إنما رفع الحرج في ذلك وقال الأكثرون المراد منه أن القوم كانوا يحظرون الأكل مع هؤلاء الثلاثة وفي هذه المنازل فالله تعالى رفع ذلك الحظر وأزاله واختلفوا في أنهم لأي سبب اعتقدوا ذلك الحظر أما في حق الأعمى والأعرج والمريض فذكروا فيه وجوهاً أحدها أنهم كانوا لا يأكلون مع الأعمى لأنه لا يبصر الطعام الجيد فلا يأخذه ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فإلى أن يأكل لقمة يأكل غيره لقمتين وكذا المريض لأنه لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الصحيح قال الفراء فعلى هذا التأويل تكون ( على ) بمعنى في يعني ليس عليكم في مواكلة هؤلاء حرج وثانيها أن العميان والعرجان والمرضى تركوا مواكلة الأصحاء أما الأعمى فقال إني لا أرى شيئاً فربما آخذ الأجود وأترك الأردأ وأما الأعرج والمريض فخافا أن يفسدا الطعام على الأصحاء لأمور تعتري المرضى ولأجل أن الأصحاء يتكرهون منهم ولأجل أن المريض ربما حمله الشره على أن يتعلق نظره وقلبه بلقمة الغير وذلك مما يكرهه ذلك الغير فلهذه الأسباب احترزوا عن مواكلة الأصحاء فالله تعالى أطلق لهم في ذلك وثالثها روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبدالله في هذه الآية أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا فكانوا يتحرجون من ذلك قالوا لا ندخلها وهم غائبون فنزلت هذه الآية رخصة لهم وهذا قول عائشة رضي الله عنها فعلى هذا معنى الآية نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج إلى الغزو ورابعها نقل عن ابن عباس ومقاتل بن حيان نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غازياً وخلف بن مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك وأما في حق سائر الناس فذكروا وجهين الأول كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وقراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها فلما نزل قوله تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) أي بيعاً فعند ذلك امتنع الناس أن يأكل بعضهم من طعام بعض فنزلت هذه الآية الثاني قال قتادة كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا

استغنوا قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج لأنه ليس ثم رب البيت فأنزل الله تعالى هذه الرخصة
المسألة الثانية قال الزجاج الحرج في اللغة الضيق ومعناه في الدين الإثم
المسألة الثالثة أنه سبحانه أباح الأكل للناس من هذه المواضع وظاهر الآية يدل على أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان واختلف العلماء فيه فنقل عن قتادة أن الأكل مباح ولكن لا يجمل وجمهور العلماء أنكروا ذلك ثم اختلفوا على وجوه الأول كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ لك بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ) ومما يدل على هذا النسخ قوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ( الأحزاب 53 ) وكان في أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من لهن الآباء والأخوة والأخوات فعم بالنهي عن ذهول بيوتهن إلا بعد الإذن في الدخول وفي الأكل فإن قيل إنما أذن تعالى في هذا لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا من بيوتهم حضروا أو غابوا فجاز أن يرخص في ذلك قلنا لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى لأن غيرهم كهم في ذلك الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين وذلك لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المجادلة 22 ) ثم إنه سبحانه أباح في هذه الآية ما حظره هناك قال ويدل عليه أن في هذه السورة أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك بل أمر أن يسلموا على أنفسهم والحاصل أن المقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة لا إثبات الإباحة في جميع الأقات الثالث أنه لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك فيجوز أن يقال خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا فيها فلا حاجة إلى القول بالنسخ
المسألة الرابعة أن الله تعالى ذكر أحد عشر موضعاً في هذه الآية أولها قوله وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ وفيه سؤال وهو أن يقال أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه في بيته وجوابه المراد في بيوت أزواجكم وعيالكم أضافه إليهم لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفراء وقال ابن قتيبة أراد بيوت أولادهم فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء لأن الولد كسب والده وماله كماله قال عليه السلام ( إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) والدليل على هذا أنه سبحانه وتعالى عدد الأقارب ولم يذكر الأولاد لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى وثانيها بيوت الآباء وثالثها بيوت الأمهات ورابعها بيوت الإخوان وخامسها بيوت الأخوات وسادسها بيوت الأعمام وسابعها بيوت العمات وثامنها بيوت الأخوال وتاسعها بيوت الخالات وعاشرها قوله تعالى أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ وقرىء مفتاحه وفيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته وملك المفاتح كونها في يده وفي حفظه الثاني قال الضحاك يريد الزمنى الذين كانوا يحرسون للغزاة الثالث المراد بيوت المماليك لأن

مال العبد لمولاه قال الفضل المفاتح واحدها مفتح بفتح الميم وواحد المفاتيح مفتح بالكسر الحادي عشر قوله مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ والمعنى أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً وكذلك الخليط والقطين والعدو ويحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد ( أخرجوا ) سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة وعن ابن عباس رضي الله عنهما الصديق أكثر من الوالدين لأن أهل الجنة لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل بالأصدقاء فقالوا مالنا من شافعين ولا صديق حميم وحكي أن أخاً للربيع بن خيثم في الله دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل فلما عاد أخبرته بذلك فلسروره بذلك قال إن صدقت فأنت حرة
المسألة الخامسة احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله تعالى بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم فلا يكون ماله محرزاً منهم فإن قيل فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه قلنا من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له
أما قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فقال أكثر المفسرين نزلت الآية في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال عكرمة وأبو صالح رحمهما الله كانت الأنصار إذا نزل بواحد منهم ضيف لم يأكل إلا وضيفه معه فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين ومتفرقين وقال الكلبي كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة وكذلك للزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب وقال آخرون كانوا يأكلون فرادى خوفاً من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذي فبين الله تعالى أنه غير واجب وقوله جَمِيعاً نصب على الحال وأشتاتاً جمع شت وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت قاله المفضل وقيل الشت مصدر بمعنى التفرق ثم يوصف به ويجمع
أما قوله تعالى أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ فالمعنى أنه تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) قال ابن عباس فإن لم يكن أحد فعلى نفسه ليقل السلام علينا من قبل ربنا وإذا دخل المسجد فليقل السلام على رسول الله وعلينا من ربنا قال قتادة وحدثنا أن الملائكة ترد عليه قال القفال وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل السلام على من اتبع الهدى وقوله تَحِيَّة ً نصب على المصدر كأنه قال فحيوا تحية من عند الله أي مما أمركم الله به قال ابن عباس رضي الله عنهما من قال السلام عليكم معناه اسم الله عليكم وقوله مُبَارَكَة ً طَيّبَة ً قال الضحاك معنى البركة فيه تضعيف الثواب وقال الزجاج أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك ثابت لما فيه من الأجر والثواب وأنه إذا أطاع الله فيه أكثر خيره وأجزل أجره كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ أي يفصل الله شرائعه

لكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لتفهموا عن الله أمره ونهيه وروى حميد عن أنس قال ( خدمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لم فعلته ولا قال لي في شيء تركته لم تركته وكنت واقفاً على رأس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصب الماء على يديه فرفع رأسه إلي وقال ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بهن قلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله بلى فقال من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك وإذا دخلت بيتاً فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة ( الأبرار ) الأوابين )
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرىء عَلَى أَمْرٍ جَمِيعٌ ثم ذكروا في قوله عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ وجوهاً أحدها أن الأمر الجامع هو الأمر الموجب للاجتماع عليه فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز وذلك نحو مقاتلة عدو أو تشاور في خطب مهم أو الأمر الذي يعم ضرره ونفعه وفي قوله إِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ إشارة إلى أنه خطب جليل لا بد لرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أرباب التجارب والآراء ليستعين بتجاربهم فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يشق على قلبه وثانيها عن الضحاك في أمر جامع الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة وثالثها عن مجاهد في الحرب وغيره
المسألة الثانية اختلفوا في سبب نزوله قال الكلبي كان ( صلى الله عليه وسلم ) يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظر المنافقون يميناً وشمالاً فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً فنزلت هذه الآية فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته حتى يستأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان

المنافقون يخرجون بغير إذن
المسألة الثالثة قال الجبائي هذا يدل على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان وذلك يدل على أن كل فرض لله تعالى واجتناب محرم من الإيمان والجواب هذا بناء على أن كلمة إِنَّمَا للحصر وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافا ولا نزاع في أنه كفر
أما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ المعنى تعظيماً لك ورعاية للأدب أُولَائِكَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه قال الضحاك ومقاتل المراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك لأنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله فأذن له وقال له انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه لم يأذن لنا فوالله ما نراه يعدل وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن عمر استأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العمرة فأذن له ثم قال يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك وفي قوله وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ وجهان أحدهما أن يستغفر لهم تنبيهاً على أن الأولى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن لأن الاستغفار يدل على الذنب وربما ذكر عند بعض الرخص الثاني يحتمل أنه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة على تمسكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان
المسألة الثانية قال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 )
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه
أما قوله تعالى لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ففيه وجوه أحدها وهو اختيار المبرد والقفال ولا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضاً لازماً والذي يدل على هذا قوله عقيب هذا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ وثانيها لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً يا محمد ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله عن سعيد بن جبير وثالثها لا ترفعوا أصواتكم في دعائه وهو المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( الحجرات 3 ) عن ابن عباس ورابعها احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره والوجه الأول أقرب إلى نظم الآية
أما قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فالمعنى ( يتسللون ) قليلاً قليلاً ونظير تسلل تدرج وتدخل واللواذ الملاوذة وهي أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا يعني ( يتسللون ) عن الجماعة ( على سبيل الخفية ) واستتار بعضهم ببعض و ( لواذاً ) حال أي ملاوذين وقيل كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له فينطلق الذي لم يؤذن له معه وقرىء لِوَاذاً بالفتح ثم اختلفوا على وجوه أحدها قال مقاتل كان المنافقون تثقل عليهم خطبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه ويخرجون من غير استئذان وثانيها قال مجاهد يتسللون من الصف في القتال وثالثها قال ابن قتيبة هذا كان في حفر الخندق ورابعها يتسللون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعن كتابه وعن ذكره وقوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ معناه التهديد بالمجازاة

أما قوله فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الأخفش ( عن ) صلة والمعنى يخالفون أمره وقال غيره معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته فدخلت ( عن ) لتضمين المخالفة معنى الإعراض
المسألة الثانية كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية وقال أبو بكر الرازي الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها
المسألة الثالثة الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب ووجه الاستدلال به أن نقول تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف الأمر مستحق للعقاب فتارك المأمور به مستحق للعقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك إنما قلنا إن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك المأمور به مخالف وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب والأمر بالحذر عن العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضى لنزول العقاب فثبت أن مخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ومخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه فما الدليل عليه ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين أحدهما أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة للأمر الثاني أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقاً واجب القبول فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقاً واجب القبول سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكنه معارض بوجوه أخر وهو أنه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر الله تعالى وذلك باطل وإلا لاستحق العقاب على ما بينتموه في المقدمة الثانية سلمنا أن تارك المأمور به مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفاً للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر فلم لا يجوز أن يكون كذلك سلمنا ذلك لكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر فلم قلت إن مخالف الأمر لا يلزمه الحذر فإن قلت لفظة ( عن ) صلة زائدة فنقول الأصل في الكلام لا سيما في كلام الله تعالى أن لا يكون زائداً سلمنا دلالة الآية على أن مخالف أمر الله تعالى مأمور بالحذر عن العذاب فلم قلت إنه يجب عليه الحذر عن العذاب أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت إن الأمر للوجوب وهذا أول المسألة فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب ولهذا يحسن الاحتياط وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة احتمالية لا قطعية سلمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول

العقاب لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله عَنْ أَمْرِهِ لا يفيد إلا أمراً واحداً وعندما أن أمراً واحداً يفيد الوجوب فلم قلت إن كل أمر كذلك سلمنا أن كل أمر كذلك لكن الضمير في قوله عَنْ أَمْرِهِ يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى الرسول والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك الجواب قوله لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال إن هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله افعل لا يدل إلا على اقتضاء الفعل وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقاً واجب القبول قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر ذلك الدخول وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه قوله لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفاً فوجب أن يستحق العقاب قلنا هذا الإلزام إنما يصح أن لو كان المندوب مأموراً به وهو ممنوع قوله لم لا يجوز أن يكون قوله فَلْيَحْذَرِ أمراً بالحذر عن المخالف لا أمراً للمخالف بالحذر قلنا لو كان كذلك لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذاً عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ضائعاً لأن الحذر ليس فعلاً يتعدى إلى مفعولين قوله كلمة ( عن ) ليست بزائدة قلنا ذكرنا اختلاف الناس فيها في المسألة الأولى قوله لم قلتم إن قوله فَلْيَحْذَرِ يدل على وجوب الحذر عن العقاب قلا لا ندعي وجوب الحذر ولكن لا أقل من جواز الحذر وذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب قوله لم قلت إن الآية تدل على أن كل مخالف للأمر يستحق العقاب قلنا لأنه تعالى رتب نزول العقاب على المخالفة فوجب أن يكون معللاً به فيلزم عمومه لعموم العلة قوله هب أن أمر الله أو أمر رسوله للوجوب فلم قلتم إن الأمر كذلك قلنا لأنه لا قائل بالفرق والله أعلم
المسألة الرابعة من الناس من قال لفظ الأمر مشترك بين الأمر القولي وبين الشأن والطريق كما يقال أمر فلان مستقيم وإذا ثبت ذلك كان قوله تعالى عَنْ أَمْرِهِ يتناول قول الرسول وفعله وطريقته وذلك يقتضي أن كل ما فعله عليه الصلاة والسلام يكون واجباً علينا وهذه المسألة مبنية على أن الكناية في قوله عَنْ أَمْرِهِ راجعة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أما لو كانت راجعة إلى الله تعالى فالبحث ساقط بالكلية وتمام تقرير ذلك ذكرناه في أصول الفقه والله أعلم
أما قوله تعالى أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالمراد أن مخالفة الأمر توجب أحد هذين

الأمرين والمراد بالفتنة العقوبة في الدنيا والعذاب الأليم عذاب الآخرة وإنما ردد الله تعالى حال ذلك المخالف بين هذين الأمرين لأن ذلك المخالف قد يموت من دون عقاب الدنيا وقد يعرض له ذلك في الدنيا فلهذا السبب أورده تعالى على سبيل الترديد ثم قال الحسن الفتنة هي ظهور نفاقهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما القتل وقيل الزلازل والأهوال وعن جعفر بن محمد يسلط عليهم سلطان جائر
أما قوله تعالى أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فذاك كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى ما بينهما وما فيهما واقتداره على المكلف فيما يعامل به من المجازاة بثواب أو بعقاب وعلمه بما يخفيه ويعلنه وكل ذلك كالزجر عن مخالفة أمره
أما قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ فإنما أدخل قَدْ لتوكيد علمه بما هم عليه من المخالفة في الدين والنفاق ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك لأن قد إذا أدخلت على المضارع كانت بمعنى ربما فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير كما في قوله الشاعر فإن يمس مهجور الفناء فربما
أقام به بعد الوفود وفود
والخطاب والغيبة في قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات ويجوز أن يكون ما أنتم عليه عاماً ويرجعون للمنافقين وقد تقدم في غير موضع أن الرجوع إليه هو الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له فلا وجه لإعادته والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الفرقان
سبع وسبعون آية مكية
تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
اعلم أن الله سبحانه وتعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر صفات العباد المخلصين الموقنين ولما كان إثبات الصانع وإثبات صفات جلاله يجب أن يكون مقدماً على الكل لا جرم افتتح الله هذه السورة بذلك فقال تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج تبارك تفاعل من البركة والبركة كثرة الخير وزيادته وفيه معنيان أحدهما تزايد خيره وتكاثر وهو المراد من قوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) والثاني تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في ذاته وصفاته وأفعاله وهو المراد من قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) وأما تعاليه عن كل شيء في ذاته فيحتمل أن يكون المعنى جل بوجوب وجوده وقدمه عن جواز الفناء والتغير عليه وأن يكون المعنى جل بفردانيته ووحدانيته عن مشابهة شيء من الممكنات وأما تعاليه عن كل شيء في صفاته فيحتمل أن يكون المعنى جل أن يكون علمه ضرورياً أو كسبياً أو تصوراً أو تصديقاً وفي قدرته أن يحتاج إلى مادة ومدة ومثال وجلب غرض ومنال وأما في أفعاله فجل أن يكون الوجود والبقاء وصلاح حال الوجود إلا من قبله وقال آخرون أصل الكلمة تدل على البقاء وهو مأخوذ من بروك البعير ومن بروك الطير على الماء وسميت البركة بركة لثبوت الماء فيها والمعنى أنه سبحانه وتعالى باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير وباق في صفاته ممتنع التبدل ولما كان سبحانه وتعالى هو الخالق لوجوه المنافع والمصالح والمبقى لها وجب وصفه سبحانه بأنه تبارك وتعالى

المسألة الثانية قال أهل اللغة كلمة ( الذي ) موضوعة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة وعند هذا يتوجه الإشكال وهو أن القوم ما كانوا عالمين بأنه سبحانه هو الذي نزل الفرقان فكيف حسن ههنا لفظ ( الذي ) وجوابه أنه لما قامت الدلالة على كون القرآن معجزاً ظهر بحسب الدليل كونه من عند الله فلقوة الدليل وظهوره أجراه سبحانه وتعالى مجرى المعلوم
المسألة الثالثة لا نزاع أن الفرقان هو القرآن وصف بذلك من حيث إنه سبحانه فرق به بين الحق والباطل في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين الحلال والحرام أو لأنه فرق في النزول كما قال وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ( الإسراء 106 ) وهذا التأويل أقرب لأنه قال نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ولفظة ( نزل ) تدل على التفريق وأما لفظة ( أنزل ) فتدل على الجمع ولذلك قال في سورة آل عمران نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ( آل عمران 3 ) واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال أولاً تَبَارَكَ ومعناه كثرة الخير والبركة ثم ذكر عقبه أمر القرآن دل ذلك على أن القرآن منشأ الخيرات وأعم البركات لكن القرآن ليس إلا منبعاً للعلوم والمعارف والحكم فدل هذا على أن العلم أشرف المخلوقات وأعظم الأشياء خيراً وبركة
المسألة الرابعة لا نزاع أن المراد من العبد ههنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعن ابن الزبير على عباده وهم رسول الله وأمته كما قال لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ( الأنبياء 10 ) قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( البقرة 136 ) وقوله لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً فالمراد ليكون هذا العبد نذيراً للعالمين وقول من قال إنه راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى ( الأسراء 9 ) فبعيد وذلك لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف وإذا وصف به القرآن فهو مجاز وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب ثم قالوا هذه الآية تدل على أحكام الأول أن العالم كل ما سوى الله تعالى ويتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة لكنا أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة فوجب أن يكون رسولاً إلى الجن والإنس جميعاً ويبطل بهذا قول من قال إنه كان رسولاً إلى البعض دون البعض الثاني أن لفظ الْعَالَمِينَ يتناول جميع المخلوقات فدلت الآية على أنه رسول للخلق إلى يوم القيامة فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل الثالث قالت المعتزلة دلت الآية على أنه سبحانه أراد الإيمان وفعل الطاعات من الكل لأنه إنما بعثه إلى الكل ليكون نذيراً للكل وأراد من الكل الاشتغال بالحسن والإعراض عن القبيح وعارضهم أصحابنا بقوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( لأعراف 179 ) الآية الرابع لقائل أن يقول إن قوله تَبَارَكَ كما دل على كثرة الخير والبركة لا بد وأن يكون المذكور عقيبه ما يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق هذا لهذا الموضع جوابه أن هذا الإنذار يجري مجرى تأديب الولد وكما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر كان الإحسان إليه أكثر لما أن ذاك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيراً كان رجوع الخلق إلى الله أكثر فكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة وذلك لأنه سبحانه لما وصف نفسه بأنه الذي يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ولم يذكر ألبتة شيئاً من منافع الدنيا

ثم إنه سبحانه وصف ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء أولها قوله الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا كالتنبيه على الدلالة على وجوده سبحانه لأنه لا طريق إلى إثباته إلا بواسطة احتياج أفعاله إليه فكان تقديم هذه الصفة على سائر الصفات كالأمر الواجب وقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والاْرْضِ إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه بزمان حدوثها وزمان بقائها في ماهيتها وفي وجودها وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء وثانيها قوله وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فبين سبحانه أنه هو المعبود أبداً ولا يصح أن يكون غيره معبوداً ووارثاً للملك عنه فتكون هذه الصفة كالمؤكدة لقوله تَبَارَكَ ولقوله الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا كالرد على النصارى وثالثها قوله وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ والمراد أنه هو المنفرد بالإلهية وإذا عرف العبد ذلك انقطع خوفه ورجاؤه عن الكل ولا يبقى مشغول القلب إلا برحمته وإحسانه وفيه الرد على الثنوية والقائلين بعبادة النجوم والقائلين بعبادة الأوثان ورابعها قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وفيه سؤالات
الأول هل في قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء دلالة على أنه سبحانه خالق لأعمال العباد والجواب نعم من وجهين الأول أن قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء يتناول جميع الأشياء فيتناول أفعال العباد والثاني وهو أنه تعالى بعد أن نفى الشريك ذكر ذلك والتقدير أنه سبحانه لما نفى الشريك كأن قائلاً قال ههنا أقوام يعترفون بنفي الشركاء والأنداد ومع ذلك يقولون إنهم يخلقون أفعال أنفسهم فذكر الله تعالى هذه الآية لتكون معينة في الرد عليهم قال القاضي الآية لا تدل عليه لوجوه أحدها أنه سبحانه صرح بكون العبد خالقاً في قوله وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) وقال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) وثانيها أنه سبحانه تمدح بذلك فلا يجوز أن يريد به خلق الفساد وثالثها أنه سبحانه تمدح بأنه قدره تقديراً ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره فثبت بهذه الوجوه أنه لا بد من التأويل لو دلت الآية بظاهرها عليه فكيف ولا دلالة فيها ألبتة لأن الخلق عبارة عن التقدير فهو لا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وذلك إنما يظهر في الأجسام لا في الأعراض والجواب
أما قوله وَإِذْ تَخْلُقُ وقوله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فهما معارضان بقوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) وبقوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ( فاطر 3 ) وأما قوله لا يجوز التمدح بخلق الفساد قلنا لم لا يجوز أن يقع التمدح به نظراً إلى تقادير القدرة وإلى أن صفة الإيجاد من العدم والإعدام من الوجود ليست إلا له وأما قوله الخلق لا يتناول إلا الأجسام فنقول لو كان كذلك لكان قوله خَلَقَ كُلَّ شَى ْء خطأ لأنه يقتضي إضافة الخلق إلى جميع الأشياء مع أنه لا يصح في العقل إضافته إليها
السؤال الثاني في الخلق معنى التقدير ( فقوله ) وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( معناه ) وقدر كل شيء فقدره تقديراً والجواب المعنى ( أنه ) أحدث كل شيء إحداثاً يراعي فيه التقدير والتسوية فقدره تقديراً وهيأه لما يصلح له مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر ( المستوي ) الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة ( به في باب ) الدين والدنيا وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير فقدره لأمر ما ومصلحة ما مطابقاً لما قدر ( له ) غير ( متخلف ) عنه
السؤال الثالث هل في قوله فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً دلالة على مذهبكم الجواب نعم وذلك من وجوه

أحدها أن التقدير في حقنا يرجع إلى الظن والحسبان أما في حقه سبحانه فلا معنى له إلا العلم به والإخبار عنه وذلك متفق عليه بيننا وبين المعتزلة فلما علم في الشيء الفلاني أنه لا يقع فلو وقع ذلك الشيء لزم انقلاب علمه جهلاً وانقلاب خبره الصدق كذباً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فإذن وقوع ذلك الشيء محال والمحال غير مراد فذلك الشيء غير مراد وإنه مأمور به فثبت أن الأمر والإرادة لا يتلازمان وظهر أن السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وثانيها أنه عند حصول القدرة والداعية الخالصة إن وجب الفعل كان فعل العبد يوجب فعل الله تعالى وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يجب فإن استغنى عن المرجح فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويزه يسد باب إثبات الصانع وإن لم يستغن عن المرجح فالكلام يعود في ذلك المرجح ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى واجب الوجود وثالثها أن فعل العبد لو وقع بقدرته لما وقع إلا الشيء الذي أراد تكوينه وإيجاده لكن الإنسان لا يريد إلا العلم والحق فلا يحصل له إلا الجهل والباطل فلو كان الأمر بقدرته لما كان كذلك فإن قيل إنما كان لأنه اعتقد شبهة أوجبت له ذلك الجهل قلنا إن اعتقد تلك الشبهة لشبهة أخرى لزم التسلسل وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى جهل أول ووقع في قلب الإنسان لا بسبب جهل سابق بل الإنسان أحدثه ابتداء من غير موجب وذلك محال لأن الإنسان قط لا يرضى لنفسه بالجهل ولا يحاول تحصيل الجهل لنفسه بل لا يحاول إلا العلم فوجب أن لا يحصل له إلا ما قصده وأراده وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الكل بقضاء سار وقدر نافذ وهو المراد من قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَة ً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَواة ً وَلاَ نُشُوراً
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردف ذلك بتزييف مذهب عبدة الأوثان وبين نقصانها من وجوه أحدها أنها ليست خالقة للأشياء والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد وثانيها أنها مخلوقة والمخلوق محتاج والإله يجب أن يكون غنياً وثالثها أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً ومن كان كذلك فهو لا يملك لغيره أيضاً نفعاً ومن كان كذلك فلا فائدة في عبادته ورابعها أنها لا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً أي لا تقدر على الإحياء والإماتة في زمان التكليف وثانياً في زمان المجازاة ومن كان كذلك كيف يسمى إلهاً وكيف يحسن عبادته مع أن حق من يحق له العبادة أن ينعم بهذه النعم المخصوصة وههنا سؤالات
الأول قوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً هل يختص بعبدة الأوثان أو يدخل فيه النصارى وعبدة الكواكب وعبدة الملائكة والجواب قال القاضي بعيد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع فالأقرب أن المراد به عباد الأصنام ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن

لمعبودهم كثرة ولقائل أن يقول قوله وَاتَّخَذُواْ صيغة جمع وقوله ءالِهَة ً جمع والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل المفرد بالمفرد فلم يكن كون معبود النصارى واحداً مانعاً من دخوله تحت هذا اللفظ
السؤال الثاني احتج بعض أصحابنا بقوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال إن الله تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئاً وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً أجاب الكعبي عنه بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى وقال بعض أصحابنا في الخلق إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى ثم قال وقد قال تعالى أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) في وصف الأصنام أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد فإذا قالوا لا قيل فكذلك ما ذكرتم وقد قال تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) هذا كله كلام الكعبي والجواب قوله لا يطلق اسم الخالق على العبد قلنا بل يجب ذلك لأن الخلق في اللغة هو التقدير والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازاً في الله تعالى فكيف يمكنكم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد أما قوله تعالى أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا فالعيب إنما وقع عليهم بالعجز فلا جرم أن كل من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته وأما قوله تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقد تقدم الكلام عليه
واعلم أن هذه الآية لا يقوى استدلال أصحابنا بها لاحتمال أن العيب لا يحصل إلا بمجموع أمرين أحدهما أنهم ليسوا بخالقين والثاني أنهم مخلوقون والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه مخلوق فلزم أن لا يكون إلهاً معبوداً
السؤال الثالث هل تدل هذه الآية على البعث الجواب نعم لأنه تعالى ذكر النشور ومعناه أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين والعقاب إلى العصاة فمن لا يكون كذلك وجب أن لا يصلح للإلهية
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاواتِ والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَقَالُواْ مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاٌّ سْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّة ٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً

اعلم أنه سبحانه تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في الرد على عبدة الأوثان وثالثاً في هذه الآية تكلم في مسألة النبوة وحكى سبحانه شبههم في إنكار نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الشبهة الأولى قولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانه عليه قوم آخرون ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ ( النحل 103 ) واعلم أنه يحتمل أن يريدوا به أنه كذب في نفسه ويحتمل أن يريدوا به أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى ثم ههنا بحثان
الأول قال أبو مسلم الافتراء افتعال من فريت وقد يقال في تقدير الأديم فريت الأديم فإذا أريد قطع الإفساد قيل أفريت وافتريت وخلقت واختلقت ويقال فيمن شتم امرءاً بما ليس فيه افترى عليه
البحث الثاني قال الكلبي ومقاتل نزلت في النضر بن الحارث فهو الذي قال هذا القول وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ يعني عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار ( غلام عامر ) بن الحضرمي وجبر مولى عامر وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب وكانوا يقرأون التوراة ويحدثون أحاديث منها فلما أسلموا وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتعهدهم فمن أجل ذلك قال النضر ما قال واعلم أن الله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً وفيه أبحاث
الأول أن هذا القدر إنما يكفي جواباً عن الشبهة المذكورة لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه السلام تحداهم بالقرآن وهم النهاية في الفصاحة وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا ولكان ذلك أقرب إلى أن يبلغوا مرادهم فيه مما أوردوه في هذه الآية وغيرها ولو استعان محمد عليه السلام في ذلك بغيره لأمكنهم أيضاً أن يستعينوا بغيرهم لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة فلما لم يفعلوا ذلك والحالة هذه علم أن القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة وانتهى إلى حد الإعجاز ولما تقدمت هذه الدلالة مرات وكرات في القرآن وظهر بسببها سقوط هذا السؤال ظهر أن إعادة هذا السؤال بعد تقدم هذه الأدلة الواضحة لا يكون إلا للتمادي في الجهل والعناد فلذلك اكتفى الله في الجواب بقوله فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً
البحث الثاني قال الكسائي قوله تعالى فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً أي أتوا ظلماً وكذباً وهو كقوله لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً فانتصب بوقوع المجيء عليه وقال الزجاج انتصب بنزع الخافض أي جاءوا بالظلم والزور
البحث الثالث أن الله تعالى وصف كلامهم بأنه ظلم وبأنه زور أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه فقد وضعوا الشيء في غير موضعه وذلك هو الظلم وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه وقال أبو مسلم الظلم تكذيبهم الرسول والرد عليه والزور كذبهم عليهم

الشبهة الثانية لهم قوله تعالى وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً وفيه أبحاث
البحث الأول الأساطير ما سطره المتقدمون كأحاديث رستم واسفنديار جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة اكْتَتَبَهَا انتسخها محمد من أهل الكتاب يعني عامراً ويساراً وجبراً ومعنى اكتتب ههنا أمر أن يكتب له كما يقال احتجم وافتصد إذا أمر بذلك فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ أي تقرأ عليه والمعنى أنها كتبت له وهو أمي فهي تلقي عليه من كتابه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب
أما قوله بُكْرَة ً وَأَصِيلاً قال الضحاك ما يملى عليه بكرة يقرؤه عليكم عشية وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة
البحث الثاني قال الحسن قوله فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً كلام الله ذكره جواباً عن قولهم كأنه تعالى قال إن هذه الآيات تملى عليه بالوحي حالاً بعد حال فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين وأما جمهور المفسرين فقد اتفقوا على أن ذلك من كلام القوم وأرادوا به أن أهل الكتاب أملوا عليه في هذه الأوقات هذه الأشياء ولا شك أن هذا القول أقرب لوجوه أحدها شدة تعلق هذا الكلام بما قبله فكأنهم قالوا اكتتب أساطير الأولين فهي تملى عليه وثانيها أن هذا هو المراد بقولهم وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ وثالثها أنه تعالى أجاب بعد ذلك عن كلامهم بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ قال صاحب ( الكشاف ) وقول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار وحق الحسن أن يقف على الاْوَّلِينَ وأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وفيه أبحاث
البحث الأول في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وتقريره ما قدمنا أنه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بأن استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه فلهذا قال قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ وذلك لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخافيها من وجوه أحدها أن مثل هذه الفصاحة لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثانيها أن القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثالثها أن القرآن مبرأ عن النقص وذلك لا يتأتى إلا من العالم على ما قال تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) ورابعها اشتماله على الأحكام التي هي مقتضية لمصالح العالم ونظام العباد وذلك لا يكون إلا من العالم بكل المعلومات وخامسها اشتماله على أنواع العلوم وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات فلما دل القرآن من هذه الوجوه على أنه ليس إلا كلام بكل المعلومات لا جرم اكتفى في جواب شبههم بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ
البحث الثاني اختلفوا في المراد بالسر فمنهم من قال المعنى أن العالم بكل سر في السموات والأرض هو الذي يمكنه إنزال مثل هذا الكتاب وقال أبو مسلم المعنى أنه أنزله من يعلم السر فلو كذب عليه لانتقم منه لقوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقة 44 ) وقال آخرون المعنى

أنه يعلم كل سر خفي في السموات والأرض ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق ضرورة وكذلك باطن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبراءته مما تتهمونه به وهو سبحانه مجازيكم ومجازيه على ما علم منكم وعلم منه
البحث الثالث إنما ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع لوجهين الأول قال أبو مسلم المعنى أنه إنما أنزله لأجل الإنذار فوجب أن يكون غفوراً رحيماً غير مستعجل في العقوبة الثاني أنه تنبيه على أنهم استوجبوا بمكايدتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفوراً رحيماً يمهل ولا يعجل
الشبهة الثالثة وهي في نهاية الركاكة ذكروا له صفات خمسة فزعموا أنها تخل بالرسالة إحداها قولهم مَّالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وثانيتها قولهم وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ يعني أنه لما كان كذلك فمن أين له الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور وثالثتها قولهم لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يصدقه أو يشهد له ويرد على من خالفه ورابعتها قولهم أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي من السماء فينفقه فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش وخامستها قولهم أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّة ٌ يَأْكُلُ مِنْهَا قرأ حمزة والكسائي نَّأْكُلَ مِنْهَا بالنون وقرأ الباقون بالياء والمعنى إن لم يكن لك كنز فلا أقل من أن تكون كواحد من الدهاقين فيكون لك بستان تأكل منه وسادستها قولهم إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا وقد تقدمت هذه القصة في آخر سورة بني إسرائيل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه أحدها قوله انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً وفيه أبحاث
الأول أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وبيانه أن الذي يتميز الرسول به عن غيره هو المعجزة وهذه الأشياء التي ذكروها لا يقدح شيء منها في المعجزة فلا يكون شيء منها قادحاً في النبوة فكأنه تعالى قال انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً ألبتة إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول وفيه وجه آخر وهو أنهم لما ضلوا لم يبق فيهم استطاعة قبول الحق وهذا إنما يصح على مذهبنا وتقريره بالعقل ظاهر وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مستوى الداعي إلى الحق والباطل وإما أن يكون داعيته إلى أحدهما أرجح من داعيته إلى الثاني فإن كان الأول فحال الاستواء ممتنع الرجحان فيمتنع الفعل وإن كان الثاني فحال رجحان أحد الطرفين يكون حصول الطرف الآخر ممتنعاً فثبت أن حال رجحان الضلالة في قلبه استحال منه قبول الحق وما كان محالاً لم يكن عليه قدرة فثبت أنهم لما ضلوا ما كانوا مستطيعين

تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَة ِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة فقوله تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ أي من الله ذكروه من نعم الدنيا كالكنز والجنة وفسر ذلك الخير بقوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً نبه بذلك سبحانه على أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه ولكنه تعالى يدبر عباده بحسب الصالح أو على وفق المشيئة ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم ويسد عليه أبواب الدنيا وفي حس الآخر بالعكس وما ذاك إلا أنه فعال لما يريد وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس خير من ذلك مما عيروك بفقده الجنة لأنهم عيروك بفقد الجنة الواحدة وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة وقال في رواية عكرمة خَيْراً مّن ذالِكَ أي من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش
المسألة الثانية قوله إِن شَاء معناه أنه سبحانه قادر على ذلك لا أنه تعالى شاك لأن الشك لا يجوز على الله تعالى وقال قوم ءانٍ ههنا بمعنى إذا أي قد جعلنا لك في الآخرة جنات وبنينا لك قصوراً وإنما أدخل إن تنبيهاً للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته وأنه معلق على محض مشيئته وأنه ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة
المسألة الثالثة القصور جماعة قصر وهو المسكن الرفيع ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومتنزهاً ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة وقال مجاهد إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا
المسألة الرابعة اختلف الفراء في قوله وَيَجْعَلَ فرفع ابن كثير وابن عامر وعاصم اللام وجزمه الآخرون فمن جزم فلأن المعنى إن شاء يجعل لك جنات ويجعل لك قصوراً ومن رفع فعلى الاستئناف والمعنى سيجعل لك قصوراً هذا قول الزجاج قال الواحدي وبين القراءتين فرق في المعنى فمن جزم فالمعنى إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا ولا يحسن الوقوف على الأنهار ومن رفع حسن له الوقوف على الأنهار واستأنف أي ويجعل لك قصوراً في الآخرة وفي مصحف أبي وابن مسعود ( تبارك الذي إن شاء يجعل )
المسألة الخامسة عن طاوس عن ابن عباس قال ( بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس وجبريل عليه السلام عنده قال جبريل عليه السلام هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحداً قبلك ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئاً فقال عليه السلام بل يجمعها جميعاً لي في الآخرة فنزل قوله تبارك الذي إن شاء ) الآية وعن ابن عباس قال عليه السلام ( عرض عليَّ جبريل بطحاء

مكة ذهباً فقلت بل شبعة وثلاث جوعات ) وذلك أكثر لذكري ومسألتي لربي وفي رواية صفوان بن سليم عن عبد الوهاب قال عليه السلام ( أشبع يوماً وأجوع ثلاثاً فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت ) وعن الضحاك ( لما عير المشركون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالفاقة حزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لذلك فنزل جبريل عليه السلام معزياً له وقال إن الله يقرؤك السلام ويقول وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( الفرقان 20 ) الآية قال فبينما جبريل عليه السلام والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحدثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك ثم قال أبشر يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربك فسلم عليه وقال إن ربك يخيرك بين أن تكون نبياً ملكاً وبين أن تكون نبياً عبداً ومعه سفط من نور يتلألأ ثم قال هذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك الله مما أعد لك في الآخرة جناح بعوضة فنظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل نبياً عبداً ) قال فكان عليه السلام بعد ذلك لم يأكل متكئاً حتى فارق الدنيا
أما قوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَة ِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً فهذا جواب ثالث عن تلك الشبهة كأنه سبحانه قال ليس ما تعلقوا به شبهة عيلمة في نفس المسألة بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يكذبون بالساعة فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً ولا يتحملون كلفة النظر والفكر فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل ثم قال وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم وَأَعْتَدْنَا أي جعلناها عتيداً ومعدة لهم والسعير النار الشديدة الاستعار وعن الحسن أنه اسم من أسماء جهنم
المسألة الثانية احتج أصحابنا على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 ) وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية وهي قوله وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً وقوله أَعْتَدْنَا إخبار عن فعل وقع في الماضي فدلت الآية على أن دار العقاب مخلوقة قال الجبائي يحتمل وأعتدنا النار في الدنيا وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم ويحتمل نار الآخرة ويكون معنى وَأَعْتَدْنَا أي سنعدها لهم كقوله وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ ( الأعراف 44 ) واعلم أن هذا السؤال في نهاية السقوط لأن المراد من السعير إما نار الدنيا وإما نار الآخرة فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا أو يعذبهم في الآخرة بنار الدنيا والأول باطل لأنه تعالى ما عذبهم بالنار في الدنيا والتالي أيضاً باطل لأنه لم يقل أحد من الأمة أنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا فثبت أن المراد نار الآخرة وثبت أنها معدة وحمل الآية على أن الله سيجعلها معدة ترك للظاهر من غير دليل وعلى أن الحسن قال السعير اسم من أسماء جهنم فقوله وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً صريح في أنه تعالى أعد جهنم
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن السعيد من سعد في بطن أمه فقالوا إن الذين أعد الله تعالى لهم السعير وأخبر عن ذلك وحكم به أن صاروا مؤمنين من أهل الثواب انقلب حكم الله بكونهم من أهل السعير كذباً وانقلب بذلك علمه جهلاً وهذا الانقلاب محال والمؤدي إلى المحال محال فصيرورة أولئك مؤمنين من أهل الثواب محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً ثم إنه

سبحانه وتعالى وصف السعير بصفات إحداها قوله إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى السعير مذكر ولكن جاء ههنا مؤنثاً لأنه تعالى قال رَأَتْهُمْ وقال سَمِعُواْ لَهَا وإنما جاء مؤنثاً على معنى النار
المسألة الثانية مذهب أصحابنا أن البنية ليست شرطاً في الحياة فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق فيها وعند المعتزلة ذلك غير جائز وهؤلاء المعتزلة ليس لهم في هذا الباب حجة إلا استقراء العادات ولو صدق ذلك لوجب التكذيب بانخراق العادات في حق الرسل فهؤلاء قولهم متناقض بل إنكار العادات لا يليق إلا بأصول الفلاسفة فعلى هذا قال أصحابنا قول الله تعالى في صفة النار إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً يجب إجراؤه على الظاهر لأنه لا امتناع في أن تكون النار حية رائية مغتاظة على الكفار أما المعتزلة فقد احتاجوا إلى التأويل وذكروا فيه وجوهاً أحدها قالوا معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم دورهم تتراءى وتتناظر وقال عليه السلام ( إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما ) أي لا تتقابلان لما يجب على المؤمن من مجانبة الكافر والمشرك ويقال دور فلان متناظرة أي متقابلة وثانيها أن النار لشدة اضطرامها وغليانها صارت ترى الكفار وتطلبهم وتتغيظ عليهم وثالثها قال الجبائي إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلة بتعذيب أهل النار لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار فهو كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أراد أهلها
المسألة الثالثة لقائل أن يقول التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعاً فكيف قال الله تعالى سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً والجواب عنه من وجوه أحدها أن التغيظ وإن لم يسمع فإنه قد يسمع ما يدل عليه من الصوت وهو كقوله رأيت غضب الأمير على فلان إذا رأى ما يدل عليه وكذلك يقال في المحبة فكذا ههنا والمعنى سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ وهو قول الزجاج وثانيها المعنى علموا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً وهذا قول قطرب وهو كقول الشاعر مقلداً سيفاً ورمحاً وثالثها المراد تغيظ الخزنة
المسألة الرابعة قال عبيد بن عمير إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا وترعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام يجثو على ركبتيه ويقول نفسي نفسي
الصفة الثانية للسعير قوله تعالى وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً واعلم أن الله سبحانه لما وصف حال الكفار حينما يكونون بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يلقون فيها نعوذ بالله منه بما لا شيء أبلغ منه وفيه مسائل
المسألة الأولى في ضَيّقاً قراءتان التشديد والتخفيف وهو قراءة ابن كثير
المسألة الثانية نقل في تفسير الضيق أمور قال قتادة ذكر لنا عبدالله بن عمر قال ( إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح ) وسئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال ( والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ) قال الكلبي الأسفلون يرفعهم اللهيب والأعلون يخفضهم الداخلون

فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة قال صاحب ( الكشاف ) الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض وجاء في الأحاديث ( إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا ) ولقد جمع الله على أهل النار أنواع ( البلاء حيث ضم إلى العذاب الشديد الضيق )
المسألة الثالثة قالوا في تفسير قوله تعالى مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ إن أهل النار مع ما هم فيه من العذاب الشديد والضيق الشديد يكونون مقرنين في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم وقيل يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد ثم إنه سبحانه حكى عن أهل النار أنهم حين ما يشاهدون هذا النوع من العقاب الشديد دعوا ثبوراً والثبور الهلاك ودعاؤهم أن يقولوا واثبوراه أي يقولوا يا ثبور هذا حينك وزمانك وروى أنس مرفوعاً ( أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على جانبيه ويسحبها من خلفه ذريته وهو يقول يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم حتى يردوا النار )
أما قوله لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أي يقال لهم ذلك وهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثم قول ومعنى وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحداً إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان لكل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها أو لأن ذلك العذاب دائم خالص عن الشوب فلهم في كل وقت من الأوقات التي لا نهاية لها ثبور أو لأنهم ربما يجدون بسبب ذلك القول نوعاً من الخفة فإن المعذب إذا صاحب وبكى وجد بسببه نوعاً من الخفة فيزجرون عن ذلك ويخبرون بأن هذا الثبور سيزداد كل يوم ليزداد حزنهم وغمهم نعوذ بالله منه قال الكلبي نزل هذا كله في حق أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات
قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ الَّتِى وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما وصف حال العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة فقال لرسوله قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ أن يلتمسوها بالتصديق والطاعة فإن قيل كيف يقال العذاب خير أم جنة الخلد وهل يجوز أن يقول العاقل السكر أحلى أم الصبر قلنا هذا يحسن في معرض التفريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل التوبيخ هذا أطيب أم ذاك
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله وُعِدَ الْمُتَّقُونَ على أن الثواب غير واجب على الله تعالى لأن من قال السلطان وعد فلاناً أن يعطيه كذا فإنه يحمل ذلك على التفضيل فأما لو كان ذلك الإعطاء واجباً لا يقال إنه وعده به أما المعتزلة فقد احتجوا به أيضاً على مذهبهم قالوا لأنه سبحانه أثبت ذلك الوعد للموصوفين بصفة التقوى وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فكذا يدل هذا على أن ذلك الوعد

إنما حصل معللاً بصفة التقوى والتفضيل غير مختص بالمتقين فوجب أن يكون المختص بهم واجباً
المسألة الثالثة قال أبو مسلم جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور قال الله تعالى لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً ( الإنسان 9 ) فإن قيل الجنة اسم لدار الثواب وهي مخلدة فأي فائدة في قوله جَنَّة ُ الْخُلْدِ قلنا الإضافة قد تكون للتمييز وقد تكون لبيان صفة الكمال كما يقال الله الخالق البارىء وما هنا من هذا الباب
أما قوله كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً ففيه مسائل
المسألة الأولى المعتزلة احتجوا بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين الأول أن اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق فأما الوعد بمحض التفضيل فإنه لا يسمى جزاء والثاني لو كان المراد من الجزاء الأمر الذي يصيرون إليه بمجرد الوعد فحينئذ لا يبقى بين قوله جَزَاء وبين قوله مَصِيراً تفاوت فيصير ذلك تكراراً من غير فائدة قال أصحابنا رحمهم الله لا نزاع في كونه جَزَاء إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق وليس في الآية ما يدل على التعيين
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية تدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة من وجهين الأول أن صاحب الكبيرة يستحق العقاب فوجب أن لا يكون مستحقاً للثواب لأن الثواب هو النفع الدائم الخالص عن شوب الضرر والعقاب هو الضرر الدائم الخالص عن شوب النفع والجمع بينهما محال وما كان ممتنع الوجود امتنع أن يحصل استحقاقه فإذن متى ثبت استحقاق العقاب وجب أن يزول استحقاق الثواب فنقول لو عفا الله عن صاحب الكبيرة لكان إما أن يخرجه من النار ولا يدخله الجنة وذلك باطل بالإجماع لأنهم أجمعوا على أن المكلفين يوم القيامة إما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار لأنه تعالى قال فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( الشورى 7 ) وإما أن يخرجه من النار ويدخله الجنة وذلك باطل لأن الجنة حق المتقين لقوله تعالى كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً فجعل الجنة لهم ومختصة بهم وبين أنها إنما كانت لهم لكونها جزاء لهم على أعمالهم فكانت حقاً لهم وإعطاء حق الإنسان لغيره لا يجوز ولما بطلت الأقسام ثبت أن العفو غير جائز أجاب أصحابنا لم لا يجوز أن يقال المتقون يرضون بإدخال الله أهل العفو في الجنة فحينئذ لا يمتنع دخولهم فيها الوجه الثاني قالوا المتقي في عرف الشرع مختص بمن اتقى الكفر والكبائر وإن اختلفنا في أن صاحب الكبيرة هل يسمى مؤمناً أم لا لكنا اتفقنا على أنه لا يسمى متقياً ثم قال في وصف الجنة إنها كانت لهم جزاء ومصيراً وهذا للحصر والمعنى أنها مصير للمتقين لا لغيرهم وإذا كان كذلك وجب أن لا يدخلها صاحب الكبيرة قلنا أقصى ما في الباب أن هذا العموم صريح في الوعيد فتخصه بآيات الوعد
المسألة الثالثة لقائل أن يقول إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيراً لكنها بعد ما صارت كذلك فلم قال الله تعالى كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً جوابه من وجهين الأول أن ما وعد الله فهو في تحققه كأنه قد كان والثاني أنه كان مكتوباً في اللوح قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم

أما قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَالِدِينَ فهو نطير قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ( فصلت 31 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها فإذا سألوها ربهم فإن أعطاهم إياها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ وأيضاً فالأب إذا كان ولده في درجات النيران وأشد العذاب إذا اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه فإن فعل الله تعالى ذلك قدح في أن عذاب الكافر مخلد وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وفي قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ وجوابه أن الله تعالى يزيل ذلك الخاطر عن قلوب أهل الجنة بل يكون اشتغال كل واحد منهم بما فيه من اللذات شاغلاً عن الالتفات إلى حال غيره
المسألة الثانية شرط نعيم الجنة أن يكون دائماً إذ لو انقطع لكان مشوباً بضرب من الغم ولذلك قال المتنبي أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولذلك اعتبر الخلود فيه فقال لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَالِدِينَ
المسألة الثالثة قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ كالتنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة فأما في غيرها فلا يحصل ذلك بل لا بد في الدنيا من أن تكون راحاتها مشوبة بالجراحات ولذلك قال عليه السلام ( من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق فقيل وما هو يا رسول الله فقال سرور يوم )
أما قوله كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً ففيه مسائل
المسألة الأولى كلمة ( على ) للوجوب قال عليه السلام ( من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى ) فقوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ يفيد أن ذلك واجب على الله تعالى والواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه بفعله الذم أو أنه الذي يكون عدمه ممتنعاً فإن كان الوجوب على التفسير الأول كان تركه محالاً لأن تركه لما استلزم استحقاق الذم واستحقاق الله تعالى الذم محال ومستلزم المحال محال كان ذلك الترك محالاً والمحال غير مقدور فلم يكن الله تعالى قادراً على أن لا يفعل فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل وإن كان الوجوب على التفسير الثاني وهو أن يقال الواجب ما يكون عدمه ممتنعاً يكون القول بالإلجاء لازماً فلم يكن الله قادراً فإن قيل إنه ثبت بحكم الوعد فنقول لو لم يفعل لانقلب خبره الصدق كذباً وعلمه جهلاً وذلك محال والمؤدي إلى المحال محال فالترك محال فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل والملجأ إلى الفعل لا يكون قادراً ولا يكون مستحقاً للثناء والمدح تمام السؤال وجوابه أن فعل الشيء متقدم على الإخبار عن فعله وعن العلم بفعله فيكون ذلك الفعل فعلاً لا على سبيل الإلجاء فكان قادراً ومستحقاً للثناء والمدح
المسألة الثانية قوله وَعْداً يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق وقد تقدم تقريره

المسألة الثالثة قوله مَسْؤُولاً ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن المكلفين سألوه بقولهم رَبَّنَا ءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران 194 ) وثانيها أن المكلفين سألوه بلسان الحال لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته كان ذلك قائماً مقام السؤال قال المتنبي وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي كلام عندها وخطاب
وثالثها الملائكة سألوا الله تعالى ذلك بقولهم رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ( غافر 8 ) ورابعها وَعْداً مَسْؤُولاً أي واجباً يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً وإن لم تسأل قال الفراء وسائر الوجوه أقرب من هذا لأن سائر الوجوه أقرب إلى الحقيقة وما قاله الفراء مجاز وخامسها مسؤولاً أي من حقه أن يكون مسؤولاً لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة أو بحكم الوعد على قول أهل السنة
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَاؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاٌّ سْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
اعلم أن قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ راجع إلى قوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً ( الفرقان 3 ) ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى يَحْشُرُهُمْ فنقول كلاهما بالنون والياء وقرىء نَحْشُرُهُمْ بكسر الشين
المسألة الثانية ظاهر قوله وَمَا يَعْبُدُونَ أنها الأصنام وظاهر قوله فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وغيرهما لأن الإضلال وخلافه منهم يصح فلأجل هذا اختلفوا

فمن الناس من حمله على الأوثان فإن قيل لهم الوثن جماد فكيف خاطبه الله تعالى وكيف قدر على الجواب فعند ذلك ذكروا وجهين أحدهما أن الله تعالى يخلق فيهم الحياة فعند ذلك يخاطبهم فيردون الجواب وثانيها أن يكون ذلك الكلام لا بالقول اللساني بل على سبيل لسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات وكلام الأيدي والأرجل وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً وأما الأكثرون فزعموا أن المراد هو الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام قالوا ويتأكد هذا القول بقوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) وإذا قيل لهم لفظة ( ما ) لا تستعمل في العقلاء أجابوا عنه من وجهين الأول لا نسلم أن كلمة ( ما ) لما لا يعقل بدليل أنهم قالوا ( من ) لما لا يعقل والثاني أريد به الوصف كأنه قيل ( ومعبودهم ) وقوله تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( لكافرون 3 ) لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين وكيف كان فالسؤال ساقط
المسألة الثالثة حاصل الكلام أن الله تعالى يحشر المعبودين ثم يقول لهم أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق أم هم ضلوا عنه بأنفسهم قالت المعتزلة وفيه كسر بين لقول من يقول إن الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقولوا إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق وهو أنك أنت أضلتهم فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا إضلالهم إلى أنفسهم علمنا أن الله تعالى لا يضل أحداً من عباده فإن قيل لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه فإنهم قالوا وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم وهو أنه سبحانه وتعالى متعهم وآباءهم بنعيم الدنيا قلنا لو كان الأمر كذلك لكان يلزمهم أن يصير الله محجوباً في يد أولئك المعبودين ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملزماً هذا تمام تقرير المعتزلة في الآية أجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله تعالى وإن صلحت له لم تترجح مصدريتها للإضلال على مصدريتها للاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى وعند لذلك يعود السؤال وأما ظاهر هذه الآية فهو وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا
المسألة الرابعة ظاهر الآية يدل على أن هذا السؤال من الله تعالى وإن احتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى بقي على الآية سؤالات
الأول ما فائدة أنتم وهم وهلا قيل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل الجواب ليس السؤال عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب وإنما هو عن فاعله فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه
السؤال الثاني أنه سبحانه كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال الجواب هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين كما قال لعيسى قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) ولأن أولئك المعبودين لما برؤا أنفسهم وأحالوا ذلك الضلال عليهم صار تبرؤ

المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم
السؤال الثالث قال تعالى أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ والقياس أن يقال ضل عن السبيل الجواب الأصل ذلك إلا أن الإنسان إذا كان متناهياً في التفريط وقلة الاحتياط يقال ضل السبيل
أما قوله سُبْحَانَكَ فاعلم أنه سبحانه حكى جوابهم وفي قوله سُبْحَانَكَ وجوه أحدها أنه تعجب منهم فقد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وثانيها أنهم نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون ( المقدسون المؤمنون ) بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده وثالثها قصدوا به تنزيهه عن الأنداد سواء كان وثناً أو نبياً أو ملكاً ورابعها قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئاً عن الجرم بل إنه إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم
أما قوله مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ففيه مسائل
المسألة الأولى القراءة المعروفة أَن نَّتَّخِذَ بفتح النون وكسر الخاء وعن أبي جعفر وابن عامر برفع النون وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله قال الزجاج أخطأ من قرأ أَن نَّتَّخِذَ بضم النون لأن ( من ) إنما تدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كان مفعولاً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال تقول ما اتخذت من أحد ولياً ولا يجوز ما اتخذت أحداً من ولي قال صاحب ( الكشاف ) اتخذ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذ ولياً وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلاناً ولياً قال الله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) والقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو مِنْ أَوْلِيَاء والأصل أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد معنى النفي والثانية من المتعدي إلى مفعولين فالأول ما بني له الفعل والثاني مِنْ أَوْلِيَاء من للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام
المسألة الثانية ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً أولها وهو الأصح الأقوى أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك وثانيها ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما يوليهم الكفار قال تعالى فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( النساء 76 ) يريد الكفرة وقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ( البقرة 257 ) عن أبي مسلم وثالثها ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلناه والحاصل أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ورابعها قالت الملائك إنهم عبيدك فلا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبد عبداً آخر إلهاً لنفسه وخامسها أن على قراءة أبي جعفر الإشكال زائل فإن قيل هذه القراءة غير جائزة لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء قلنا المراد إنا لا نصلح لذلك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا وسادسها أن هذا قول الأصنام وأنها قالت لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله فكل ولاية مبنية على ميل النفس ونصيب الطبع فذاك على خلاف الشرع
أما قوله تعالى وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ففيه مسائل

المسألة الأولى معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا فإنه لولا عنادهم الظاهر وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى وقال آخرون إن هذا الكلام كالرمز فيما صرح به موسى عليه السلام في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( الأعراف 155 ) وذلك لأن المجيب قال إلهي أنت الذي أعطيته جميع مطالبه من الدنيا حتى صار كالغريق في بحر الشهوات واستغراقه فيها صار صاداً له عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك
المسألة الثانية الذكر ذكر الله والإيمان به ( و ) القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة
المسألة الثالثة قال أبو عبيدة يقال رجل بور ورجلان بور ورجال بور وكذلك الأنثى ومعناه هالك وقد يقال رجل بائر وقوم بور وهو مثل هائر وهور والبوار الهلاك وقد احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر ولا شك أن المراد منه وكانوا من الذين حكم عليهم في الآخرة بالعذاب والهلاك فالذي حكم الله عليه بعذاب الآخرة وعلم ذلك وأثبته في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه لو صار مؤمناً لصار الخبر الصدق كذباً ولصار العلم جهلاً ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة ولصار اعتقاد الملائكة جهلاً وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال فصدور الإيمان منه محال فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقياً والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيداً ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغاً يوجب البوار فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقياً وأن الشقي لا ينقلب سعيداً
أما قوله تعالى فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فاعلم أنه قرىء يَقُولُونَ بالياء والتاء فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة أي كذبوكم في قولكم إنهم آلهة ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت فالمعنى أنهم كذبوكم ( بقولكم ) سُبْحَانَكَ ومثاله قولك كتبت بالقلم
أما قوله فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً فاعلم أنه قرىء يَسْتَطِيعُونَ بالياء والتاء أيضاً يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم وقيل الصرف التوبة وقيل الحيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ( و ) أن يحتالوا لكم
أما قوله تعالى وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرىء يذقه بالياء وفيه ضمير الله تعالى أو ضمير ( الظلم )
المسألة الثانية أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر فقالوا ثبت أن ( من ) للعموم في معرض الشرط وثبت أن الكافر ظالم لقوله بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والفاسق ظالم لقوله وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( الحجرات 11 ) فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة

والجواب أنا لا نسلم أن كلمة ( من ) في معرض الشرط للعموم والكلام فيه مذكور في أصول الفقه سلمنا أنه للعموم ولكن قطعاً أم ظاهراً ودعوى القطع ممنوعة فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم مع أن المراد هو الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون والدليل عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وإن كان يفيد العموم لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة وذلك لا ينفي تجويز العفو سلمنا دلالته قطعاً ولكنا أجمعنا على أن قوله وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ مشروط بأن لا يوجد ما يزيله وعند هذا نقول هذا مسلم لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) فإن قيل آيات الوعيد أولى لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ومن لم يكن مستحقاً للعقاب لا يجوز قطع يده على سبيل التنكيل فإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب أحبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال قلنا لا نسلم أن السارق يقطع على سبيل التنكيل ألا ترى أنه لو تاب فإنه يقطع لا على سبيل التنكيل بل على سبيل المحنة نزلنا عن هذه المقامات ولكن قوله تعالى وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ إنه خطاب مع قوم مخصوصين معينين فهب أنه لا يعفو عنهم فلم قلت إنه لا يعفو عن غيرهم
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاْسْوَاقِ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذا جواب عن قولهم مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) بين الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن
المسألة الثانية حق الكلام أن يقال أَلاَ إِنَّهُمْ بفتح الألف لأنه متوسط والمكسورة لا تليق إلا بالابتداء فلأجل هذا ذكروا وجوهاً أحدها قال الزجاج الجملة بعد ( إلا ) صفة لموصوف محذوف والمعنى وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين وإنما حذف لأن في قوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ دليلاً عليه ونظيره قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) على معنى وما منا أحد وثانيها قال الفراء إنه صلة لاسم متروك اكتفى بقوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ عنه والمعنى إلا من أنهم كقوله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ أي من له مقام معلوم وكذلك قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مريم 71 ) أي إلا من يردها فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين وثالثها قال ابن الأنباري تكسر إن بعد الاستثناء بإضمار واو على تقدير إلا وإنهم ورابعها قال بعضهم المعنى إلا قيل إنهم
المسألة الثالثة قرىء يَمْشُونَ على البناء للمفعول أي تمشيهم حوائجهم أو الناس ولو قرىء يَمْشُونَ لكان أوجه لولا الرواية

أما قوله تعالى وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً ففيه مسائل
المسألة الأولى فيه أقوال أحدها أن هذا في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ودليله قوله تعالى لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وهذا قول الكلبي والفراء والزجاج وثانيها أن هذا عام في جميع الناس روى أبو الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ويل للعالم من الجاهل وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للمالك من المملوك وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة ) وقرأ هذه الآية وثالثها أن هذا في أصحاب البلاء والعافية هذا يقول لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق وفي العقل وفي العلم وفي الرزق وفي الأجل وهذا قول ابن عباس والحسن ورابعها هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وأنواع أذاهم على ما قال وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) والمرسل إليهم يتأذون أيضاً من المرسل بسبب الحسد وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً والأولى حمل الآية على الكل لأن بين الجميع قدراً مشتركاً
المسألة الثانية قال أصحابنا الآية تدل على القضاء والقدر لأنه تعالى قال وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً قال الجبائي هذا الجعل هو بمعنى التعريف كما يقال فيمن سرق إن فلاناً لص جعله لصاً وهذا التأويل ضعيف لأنه تعالى أضاف الجعل إلى وصف كونه فتنة لا إلى الحكم بكونه كذلك بل العقل يدل على أن المراد غير ما ذكره وذلك لأن فاعل السبب فاعل للمسبب فمن خلقه الله تعالى على مزاج الصفراء والحرارة وخلق الغضب فيه ثم خلق فيه الإدراك الذي يطلعه على الشيء المغضب فمن فعل هذا المجموع كان هو الفاعل للغضب لا محالة وكذا القول في الحسد وسائر الأخلاق والأفعال وعند هذا يظهر أنه سبحانه هو الذي جعل البعض فتنة للبعض سلمنا أن المراد ما قاله الجبائي أن المراد من الجعل هو الحكم ولكن المجعول إن انقلب لزم انقلابه انقلاب حكم الله تعالى من الصدق إلى الكذب وذلك محال فانقلاب ذلك الجعل محال فانقلاب المجعول أيضاً محال وعند ذلك يظهر القول بالقضاء والقدر
المسألة الثالثة الوجه في تعلق هذه الآية بما قبلها أن القوم لما طعنوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأنه فقير كانت هذه الكلمات جارية مجرى الخرافات فإنه لما قامت الدلالة على النبوة لم يكن لشيء من هذه الأشياء أثر في القدح فيها فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتأذى منهم من حيث إنهم كانوا يشتمونه ومن حيث إنهم كانوا يذكرون الكلام المعوج الفاسد وما كانوا يفهمون الجواب الجيد فلا جرم صبره الله تعالى على كل تلك الأذية وبين أنه جعل الخلق بعضهم فتنة للبعض
أما قوله تعالى أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ففيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة لو كان المراد من قوله وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً الخبر لما ذكر عقيبه أَتَصْبِرُونَ لأن أمر العاجز غير جائز
المسألة الثانية المعنى أتصبرون على البلاء فقد علمتم ما وعد الله الصابرين وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً

أي هو العالم بمن يصبر ومن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب
المسألة الثالثة قوله أَتَصْبِرُونَ استفهام والمراد منه التقرير وموقعه بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَة َ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً
اعلم أن قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا هو الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وحاصلها لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه أَوْ نَرَى رَبَّنَا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا وتقرير هذه الشبهة أن من أراد تحصيل شيء وكان له إلى تحصيله طريقان أحدهما يفضي إليه قطعاً والآخر قد يفضي وقد لا يفضي فالحكيم يجب عليه في حكمته أن يختار في تحصيل ذلك المقصود الطريق الأقوى والأحسن ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر إفضاء إلى المقصود فلو أراد الله تعالى تصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لفعل ذلك وحيث لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه هذا حاصل الشبهة ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قال الفراء قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا معناه لا يخافون لقاءنا ووضع الرجاء في موضع الخوف لغة تهامية إذا كان معه جحد ومثله قوله تعالى مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) أي لا تخافون له عظمة وقال القاضي لا وجه لذلك لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ومعلوم أن من حال عباد الأصنام أنهم كما لا يخافون العقاب لتكذيبهم بالمعاد فكذلك لا يرجون لقاءنا ووعدنا على الطاعة من الجنة والثواب ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً فالخوف تابع لهذا الرجاء
المسألة الثانية المجسمة تمسكوا بقوله تعالى لِقَاءنَا أنه جسم وقالوا اللقاء هو الوصول يقال هذا الجسم لقي ذلك أي وصل إليه واتصل به وقال تعالى فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( القمر 12 ) فدلت الآية على أنه سبحانه جسم والجواب على طريقين الأول طريق بعض أصحابنا قال المراد من اللقاء هو الرؤية وذلك لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمى اللقاء أحد أنواع الرؤية والنوع الآخر الاتصال والمماسة فدلت الآية من هذا الوجه على جواز الرؤية الطريق الثاني وهو كلام المعتزلة قال

القاضي تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة فيقال في الدعاء لقاك الله الخير وقد يقول القائل لم ألق الأمير وإن رآه من بعد أو حجب عنه ويقال في الضرير لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه بل المراد من اللقاء ههنا هو المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً لا أن رؤية البصر واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنا لا نفسر اللقاء برؤية البصر بل نفسره بمعنى مشترك بين رؤية البصر وبين الاتصال والمماسة وهو الوصول إلى الشيء وقد بينا أن الرائي يصل برؤيته إلى المرئي واللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني فيصح قوله لقاك الخير ويصح قول الأعمى لقيت الأمير ويصح قول البصير لقيته بمعنى رأيته وما لقيته بمعنى ما وصلت إليه وإذا ثبت هذا فنقول قوله وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا مذكور في معرض الذم لهم فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني وبين الوصول بالرؤية وقد تعذر الأول فتعين الثاني وقوله المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها بل على أن إنكارها ليس إلا من دين الكفار
المسألة الثالثة قوله لَوْلا أُنزِلَ معناه هلا أنزل قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما الذين كانوا منكرين للنبوة والبعث
أما قوله تعالى لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً فاعلم أن هذا هو الجواب عن تلك الشبهة وفيه مسائل
المسألة الأولى في تقرير كونه جواباً وذلك من وجوه أحدها أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد ثبتت دلالة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض الاستكبار والتعنت وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك المعجز ورد ذلك المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجح وهو محض الاستكبار والتعنت وثالثها أنهم بتقدير أن يروا الرب ويسألوه عن صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو سبحانه يقول نعم هو رسولي فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنا بينا أن المعجز يقوم مقام التصديق بالقول إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول اللهم إن كنت صادقاً فأحيى هذا الميت فيحييه الله تعالى والعادة لم تجر بمثله وبين أن يقول له صدقت وإذا كان التصديق الحاصل بالقول أو الحاصل بالمعجز في كونه تصديقاً للمدعى كان تعيين أحدهما محض الاستكبار والتعنت ورابعها وهو أنا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى يفعل بحسب المصالح على ما يقوله المعتزلة أن نقول إن الله تعالى يفعل بحسب المشيئة عى ما يقوله أصحابنا فإن كان الأول لم يجز لهم أن يعينوا المعجز إذ ربما كان إظهار ذلك المعجز مشتملاً على مفسدة لا يعرفها إلا الله تعالى وكان التعيين استكباراً وعتواً من حيث إنه لما ظنه مصلحة قطع بكونه مصلحة فمن قال ذلك فقد اعتقد في نفسه أنه عالم بكل المعلومات وذلك استكبار عظيم وإن كان الثاني وهو قول أصحابنا فليس للعبد أن يقترح على ربه فإنه سبحانه فعال لما يريد فكان الاقتراح استكباراً وعتواً وخروجاً عن حد العبودية إلى مقام المنازعة والمعارضة وخامسها وهو أن المقصود من بعثة الأنبياء الإحسان إلى الخلق فالملك الكبير إذا أحسن إلى

بعض الضعفاء رحمة عليه فأخذ ذلك الضعيف إلى اللجاج والنزاع ويقول لا أريد هذا بل أريد ذاك حسن أن يقال إن هذا المكدى قد استكبر في نفسه وعتا عتواً شديداً من حيث لا يعرف قدر نفسه ومنتهى درجته فكذا ههنا وسادسها يمكن أن يكون المراد أن الله تعالى قال لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به فلا جرم لا أعطيهم ذلك وهذا التأويل يعرف من اللفظ وسابعها لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل التعنت أو على سبيل الاستهزاء
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية دلت على أن الله تعالى لا تجوز رؤيته لأن رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً واستكباراً قالوا وقوله لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ليس إلا لأجل سؤال الرؤية حتى لو أنهم اقتصروا على نزول الملائكة لما خوطبوا بذلك والدليل عليه أن الله تعالى ذكر أمر الرؤية في آية أخرى على حدة وذكر الاستعظام وهو قوله لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ ( البقرة 55 ) وذكر نزول الملائكة على حدة في آية أخرى فلم يذكر الاستعظام وهو قولهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ وهل نرى الملائكة فثبت بهذا أن الاستكبار والعتو في هذه الآية إنما حصل لأجل سؤال الرؤية
واعلم أن الكلام على ذلك قد تقدم في سورة البقرة والذي نريده ههنا أنا بينا أن قوله وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا يدل على الرؤية وأما الاستكبار والعتو فلا يمكن أن يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة لأن من طلب شيئاً محالاً لا يقال إنه عتا واستكبر ألا ترى أنهم لما قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتواً واستكباراً بل قال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( الأعراف 138 ) بل العتو والاستكبار لا يثبت إلا إذا طلب الإنسان ما لا يليق به ممن فوقه أو كان لائقاً به ولكنه يطلبه على سبيل التعنت وبالجملة فقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في تحقيق معنى الاستكبار والعتو سواء كانت الرؤية ممتنعة أو ممكنة ومما يدل عليه أن موسى لما سأل الرؤية ما وصفه الله تعالى بالاستكبار والعتو لأنه عليه السلام طلب الرؤية شوقاً وهؤلاء طلبوها امتحاناً وتعنتاً لا جرم وصفهم بذلك فثبت فساد ما قاله المعتزلة
المسألة الثالثة إنما قال فِى أَنفُسِهِمْ لأنهم أضمروا الاستكبار ( عن الحق وهو الكفر والعناد ) في قلوبهم واعتقدوه كما قال إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ( غافر 56 ) وقوله وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً أي تجاوزوا الحد في الظلم يقال عتا ( عتا ) فلان وقد وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه يعني أنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو
أما قوله تعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَة َ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً فهو جواب لقولهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ فبين تعالى أن الذي سألوه سيوجد ولكنهم يلقون منه ما يكرهون وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في انتصاب يَوْمٍ وجهين الأول أن العامل ما دل عليه لاَ بُشْرَى أي يوم يرون الملائكة

( يبغون البشرى ) و يَوْمَئِذٍ للتكرير الثاني أن التقدير اذكر يوم يرون الملائكة
المسألة الثانية اختلفوا في ذلك اليوم فقال ابن عباس يريد عند الموت وقال الباقون يريد يوم القيامة
المسألة الثالثة إنما يقال للكافر لا بشرى لأن الكافر وإن كان ضالاً مضلاً إلا أنه يعتقد في نفسه أنه كان هادياً مهتدياً فكان يطمع في ذلك الثواب العظيم ولأنهم ربما عملوا ما رجوا فيه النفع كنصرة المظلوم وعطية الفقير وصلة الرحم ولكنه أبطلها بكفره فبين سبحانه أنهم في أول الأمر يشافهون بما يدل على نهاية اليأس والخيبة وذلك هو النهاية في الإيلام وهو المراد من قوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 )
المسألة الرابعة حق الكلام أن يقال يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم لكنه قال لا بشرى للمجرمين وفيه وجهان أحدهما أنه ظاهر في موضع ضمير والثاني أنه عام فقد تناولهم بعمومه قالت المعتزلة تدل الآية على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو لأن قوله لاَ بُشْرَى لّلْمُجْرِمِينَ نكرة في سياق النفي فيعم جميع أنواع البشرى في جميع الأوقات بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال بل له بشرى في الوقت الفلاني فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية علمنا أن قوله تعالى لاَ بُشْرَى يقتضي نفي جميع أنواع البشرى في كل الأوقات ثم إنه سبحانه أكد هذا النفي بقوله حِجْراً مَّحْجُوراً والعفو من الله من أعظم البشرى والخلاص من النار بعد دخولها من أعظم البشرى وشفاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم غير مرة قال المفسرون المراد بالمجرمين ههنا الكفار بدليل قوله إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ ( المائدة 72 )
المسألة الخامسة في تفسير قوله حِجْراً مَّحْجُوراً ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك ( الله ) وعمرك ( الله ) وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو ( موتور ) أو هجوم نازلة ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة قال سيبويه يقول الرجل للرجل ( يفعل ) كذا وكذا فيقول حجراً وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد فإن قيل لما ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بكونه محجوراً قلنا جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا ( ذبل ذابل فالذبل ) الهوان وموت مائت وحرام محرم
المسألة السادسة اختلفوا في أن الذين يقولون حجراً محجوراً من هم على ثلاثة أقوال القول الأول أنهم هم الكفار وذلك لأنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه ( ثم ) إذا رأوهم عند الموت ( و ) يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ( الموتور ) ونزول الشدة القول الثاني أن القائلين هم الملائكة ومعناه حراماً محرماً عليكم الغفران والجنة والبشرى أي جعل الله ذلك حراماً عليكم ثم اختلفوا على هذا القول فقال بعضهم إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم حجراً محجوراً وقال الكلبي الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين حجراً محجوراً وقال عطية إذا كان يوم القيامة يلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى

فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم بشرونا فيقولون حجراً محجوراً القول الثالث وهو قول القفال والواحدي وروي عن الحسن أن الكفار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيتعوذون منه ويقولون حجراً محجوراً فتقول الملائكة لا يعاذ من شر هذا اليوم
أما قوله تعالى وَقَدِمْنَا فقد استدلت المجسمة بقوله وَقَدِمْنَا لأن القدوم لا يصح إلا على الأجسام وجوابه أنه لما قامت الدلالة على امتناع القدوم عليه لأن القدوم حركة والموصوف بالحركة محدث ولذلك استدل الخليل عليها السلام بأفول الكواكب على حدوثها وثبت أن الله عز وجل لا يجوز أن يكون محدثاً فوجب تأويل لفظ القدوم وهو من وجوه أحدها وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ أي وقصدنا إلى أعمالهم فإن القادم إلى الشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في المقدوم إليه وأطلق المسبب على السبب مجازاً وثانيها المراد قدوم الملائكة إلى موضع الحساب في الآخرة ولما كانوا بأمره يقدمون جاز أن يقول وَقَدِمْنَا على سبيل التوسع ونظيره قوله فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ( الزخرف 55 ) وثالثها إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا ( النمل 34 ) فلما أباد الله أعمالهم وأفسدها بالكلية صارت شبيهة بالمواضع التي يقدمها الملك فلا جرم قال وَقَدِمْنَا
أما قوله إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ يعني الأعمال التي اعتقدوها براً وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان
أما قوله فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً فالمراد أبطلناه وجعلناه بحيث لا يمكن الانتفاع به كالهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه ونظيره قوله تعالى كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ ( النور 39 ) كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ( إبراهيم 18 ) كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ( الفيل 5 ) قال أبو عبيدة والزجاج الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس وقال مقاتل إنه الغبار الذي يستطير من حوافر الدواب
أما قوله أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيهاً على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى وههنا سؤالات
الأول كيف يكون أصحاب الجنة خيراً مستقراً من أهل النار ولا خير في النار ولا يقال في العسل هو أحل من الخل والجواب من وجوه الأول ما تقدم في قوله أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ ( الفرقان 15 ) والثاني يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير لأن مستقر خير من النار كقول الشاعر ف إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
الثالث التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه الرابع هذا التفاضل واقع على هذا التقدير أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيراً منه
السؤال الثاني الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك والجواب من وجوه الأول أن المستقر مكان الاستقرار والمقيل زمان القيلولة فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان ومن

الزمان في أطيب زمان الثاني أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم فإنهم يقيلون في الفردوس ثم يعودون إلى مستقرهم الثالث أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة قال ابن مسعود ( لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ) وقرأ ابن مسعود ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) وقال سعيد بن جبير إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقال مقاتل يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة
السؤال الثالث كيف يصح القيلولة في الجنة والنار وعندكم أن أهل الجنة في الآخرة لا ينامون وأهل النار أبداً في عذاب يعرفونه وأهل الجنة في نعيم يعرفونه والجواب قال الله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 62 ) وليس في الجنة بكرة وعشى لقوله تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) ولأنه إذا لم يكن هناك شمس لم يكن هناك نصف النهار ولا وقت القيلولة بل المراد منه بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع وأحسنها كما أن موضع القيلولة يكون أطيب المواضع والله أعلم
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَئِكَة ُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً
اعلم أن هذا الكلام مبني على ما استدعوه من إنزال الملائكة فبين سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له صفات
الصفة الأولى أن في ذلك اليوم تشقق السماء بالغمام وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) يدل على التشقق وقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( البقرة 210 ) يدل على الغمام فقوله تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ جامع لمعنى الآيتين ونظيره قوله تعالى وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْواباً ( النبأ 19 ) وقوله فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ ( الحاقة 16 )
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين ههنا وفي سورة ق والباقون بالتشديد قال أبو عبيدة الاختيار التخفيف كما يخفف تساءلون ومن شدد فمعناه تتشقق

المسألة الثالثة قال الفراء المراد من قوله بِالْغَمَامِ أي عن الغمام لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام وقال القاضي لا يمتنع أن يجعل تعالى الغمام بحيث تشقق السماء باعتماده عليه وهو كقوله السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( المزمل 18 )
المسألة الرابعة لا بد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلاً بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض
المسألة الخامسة قوله وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ صيغة عموم فيتناول الكل ولأن السماء مقر الملائكة فإذا تشقق وجب أن ينزلوا إلى الأرض ثم قال مقاتل تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من سكان الدنيا كذلك تتشقق سماء سماء ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ثم ينزل الرب تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس قال تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم واعلم أن نزول الرب بالذات باطل قطعاً لأن النزول حركة والموصوف بالحركة محدث والإله لا يكون محدثاً وأما نزول الملائكة إلى الأرض فعليه سؤال وذلك لأنه ثبت أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش فملائكة هذه المواضع بأسرها كيف تتسع لهم الأرض جميعاً فلعل الله تعالى يزيد في طول الأرض وعرضها ويبلغها مبلغاً يتسع لكل هؤلاء ومن المفسرين من قال الملائكة يكونون في الغمام منه والله تعالى يسكن الغمام فوق أهل القيامة ويكون ذلك الغمام مقر الملائكة قال الحسن والغمام سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه بنسخ أعمال بني آدم والمحاسبة تكون في الأرض
المسألة السادسة أما نزول الملائكة فظاهر ومعنى تَنْزِيلاً توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه
المسألة السابعة الألف واللام في الغمام ليس للعموم فهو للمعهود والمراد ما ذكروه في قوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ ( البقرة 210 )
المسألة الثامنة قرىء وَنُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ وَنُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل قراءة أهل مكة
الصفة الثانية لذلك اليوم قوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الرَّحْمَنُ قال الزجاج الحق صفة للملك وتقديره الملك الحق يومئذ للرحمن ويجوز الحق بالنصب على تقدير أعني ولم يقرأ به ومعنى وصفه بكونه حقاً أنه لا يزول ولا يتغير فإن قيل مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن فما الفائدة في قوله يَوْمَئِذٍ قلنا لأن في ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة ولا في المعنى فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام واعلم أن هذه الآية دالة على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله الثواب والعوض وذلك لأنه لو وجب لاستحق الذم بتركه فكان خائفاً من أن لا يفعل فلم يكن ملكاً مطلقاً وأيضاً فقوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ يفيد أنه ليس لغيره ملك وذلك لا يتم على قول المعتزلة لأن كل من استحق عليه شيئاً فإنه يكون مالكاً له ولا يكون هو سبحانه مالكاً لذلك المستحق لأنه سبحانه إذا استحق على أحد شيئاً أمكنه أن يعفو عنه أما غيره إذا استحق عليه شيئاً فإنه لا يصح إبراؤه عنه فكانت العبودية ههنا أتم ولأن من كفر بالله إلى آخر عمره ثم في آخر عمره عرف الله لحظة ومات فهو سبحانه لو أعطاه ألف ألف

سنة أنواع الثواب وأراد بعد ذلك أن لا يعطيه لحظة واحدة صار سفيهاً وهذا نهاية العبودية والذل فكيف يليق بمن هذا حاله أن يقال له الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وأيضاً فكل من فعل فعلاً لو لم يفعله لكان مستوجباً للذم وكان بذلك الفعل مكتسباً للكمال وبتركه مكتسباً للنقصان فلم يكن ملكاً بل فقيراً مستحقاً فثبت أن قوله سبحانه الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ غير لائق بأصول المعتزلة
الصفة الثالثة قوله وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً فالمعنى ظاهر لأنه تعالى عالم بالأحوال قادر على كل ما يريده وأما غيره فالكل في ربقة العجز ولجام القهر فكان في نهاية العسر على الكافر
الصفة الرابعة قوله وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الألف واللام في الظالم فيه قولان أحدهما أنه للعموم والثاني أنه للمعهود والقائلون بالمعهود على قولين الأول قال ابن عباس المراد عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من مقر إلا صنع طعاماً يدعو إليه جيرته من أهل مكة ويكثر مجالسة الرسول ويعجبه حديثه فصنع طعاماً ودعا الرسول فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين ففعل فأكل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من طعامه فبلغ أمية بن خلف فقال صبوت يا عقبة وكان خليله فقال إنما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي فقال لا أرضى أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه ففعل فقال عليه السلام لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فنزل وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ندامة يعني عقبة يقول يا ليتني لم أتخذ أمية خليلاً لقد أضلني عن الذكر أي صرفني عن الذكر وهو القرآن والإيمان بعد إذ جاءني مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبراً ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحارث الثاني قالت الرافضة هذا الظالم هو رجل بعينه وإن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلاناً بدلاً من اسمه وذكروا فاضلين من أصحاب رسول الله واعلم أن إجراء اللفظ على العموم ليس لنفس اللفظ لأنا بينا في أصول الفقه أن الألف واللام إذا دخل على الاسم المفرد لا يفيد العموم بل إنما يفيده للقرينة من حيث إن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف فدل ذلك على أن المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً وحينئذ يعم الحكم لعموم علته وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة لأن هذا الذي ذكرناه يقتضي العموم ونزوله في واقعة أخرى خاصة لا ينافي أن يكون المراد هو العموم حتى يدخل فيه تلك الصورة وغيرها ولأن المقصود من الآية زجر الكل عن الظلم وذلك لا يحصل إلا بالعموم وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن وإثبات أنه غير وبدل ولا نزاع في أنه كفر
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بقوله وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ قالوا الظالم يتناول الكافر والفاسق فدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة والكلام عليه تقدم
المسألة الثالثة قوله يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ قال الضحاك يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت وقال أهل التحقيق هذه اللفظة مشعرة بالتحسر والغم يقال عض أنامله وعض على يديه
المسألة الرابعة كما بينا أن الظالم غير مخصوص بشخص واحد بل يعم جميع الظلمة فكذا المراد بقوله فلاناً ليس شخصاً واحداً بل كل من أطيع في معصية الله واستشهد القفال بقوله وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً

( الفرقان 55 ) وَيَقُولُ الْكَافِرُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ( النبأ 40 ) يعني به جماعة الكفار
المسألة الخامسة قرىء يا ويلتي بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالى فهذا أوانك وإنما قلبت الياء ألفاً كما في صحارى و ( عذارى )
المسألة السادسة قوله لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ أي عن ذكر الله أو القرآن وموعظة الرسول ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق ( وغيرته ) على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة أو أراد إبليس فإنه هو الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المضل ومخالفة الرسول ثم خذله أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس ويحتمل أن يكون وَكَانَ الشَّيْطَانُ حكاية كلام الظالم وأن يكون كلام الله
وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِى ٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً
اعلم أن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وشكاهم إلى الله تعالى وقال الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أكثر المفسرين أنه قول واقع من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أبو مسلم بل المراد أن الرسول عليه السلام يقوله في الآخرة وهو كقوله فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) والأول أولى لأنه موافق للفظ ولأن ما ذكره الله تعالى من قوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ ( الفرقان 31 ) تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يليق إلا إذا كان وقع ذلك القول منه
المسألة الثانية ذكروا في المهجور قولين الأول أنه من الهجران أي تركوا الإيمان به ولم يقبلوه وأعرضوا عن استماعه الثاني أنه من أهجر أي مهجورا فيه ثم حذف الجار ويؤكده قوله تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ( المؤمنون 67 ) ثم هجرهم فيه أنهم كانوا يقولون إنه سحر وشعر وكذب وهجر أي هذيان وروى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من تعلم القرآن ( وعلمه ) وعلق مصحفاً لم يتعهده ولم ينطر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه ) ثم إنه تعالى قال مسلياً لرسوله عليه الصلاة والسلام ومعزياً له وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وبين بذلك أن له أسوة بسائر الرسل فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ثم فيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر لأن قوله تعالى جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً يدل على أن تلك العداوة من جعل الله ولا شك أن تلك العداوة كفر قال الجبائي المراد من الجعل التبيين فإنه تعالى لما بين أنهم أعداؤه جاز أن يقول جعلناهم أعداءه كما إذا بين الرجل أن فلاناً

لص يقال جعله لصاً كما يقال في الحاكم عدل فلاناً وفسق فلاناً وجرحه قال الكعبي إنه تعالى لما أمر الأنبياء بعداوة الكفار وعداوتهم للكفار تقتضي عداوة الكفار لهم فلهذا جاز أن يقول وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ لأنه سبحانه هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة وقال أبو مسلم يحتمل في العدو أنه البعيد لا القريب إذ المعاداة المباعدة كما أن النصر القرب والمظاهرة وقد باعد الله تعالى بين المؤمنين والكافرين والجواب عن الأول أن التبيين لا يسمونه ألبتة جعلاً لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال إنه جعل الصانع وجعل قدمه والجواب عن الثاني أن الذي أمره الله تعالى به هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم أو ليس له تأثير فإن كان الأول فقد تم الكلام لأن عداوتهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كفر فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة فقد أمره بما له أثر في وقوع الكفر وإن لم يكن فيه تأثير ألبتة كان منقطعاً عنه بالكلية فيمتنع إسناده إليه وهذا هو الجواب عن قول أبي مسلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن قول محمد عله السلام لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ في المعنى كقول نوح عليه السلام رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 5 6 ) وكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا ههنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) جوابه أن نوحاً عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد عليه الصلاة والسلام فلما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر فلما قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فظهر الفرق
المسألة الثالثة قوله جَعَلْنَا صيغة العظماء والتعظيم إذا ذكر نفسه في كل معرض من التعظيم وذكر أنه يعطي فلا بد وأن تكون تلك العطية عظيمة كقوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي ( الحجر 87 ) وقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( الكوثر 1 ) فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا وجوابه أن خلق العداوة سبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب والله أعلم
المسألة الرابعة يجوز أن يكون العدو واحداً وجمعاً كقوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ( الشعراء 77 ) وجاء في التفسير أن عدو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أبو جهل
أما قوله وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً فقال الزجاج الباء زائدة يعني كفى ربك وهادياً ونصيراً منصوبان على الحال هادياً إلى مصالح الدين والدنيا ونصيراً على الأعداء ونظيره حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 )
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَة ً وَاحِدَة ً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً

اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن أهل مكة قالوا تزعم أنك رسول من عند الله أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود وعن ابن جريج بين أوله وآخره اثنتان أو ثلاث وعشرون سنة وأجاب الله بقوله كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وبيان هذا الجواب من وجوه أحدها أنه عليه السلام لم يكن من أهل القراءة والكتابة فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه الغلط والسهو وإنما نزلت التوراة جملة لأنها مكتوبة يقرؤها موسى وثانيها أن من كان الكتاب عنده فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ فالله تعالى ما أعطاه الكتاب دفعة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ليكون حفظه له أكمل فيكون أبعد له عن المساهلة وقلة التحصيل وثالثها أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق فكان يثقل عليهم ذلك أما لما نزل مفرقاً منجماً لا جرم نزلت التكاليف قليلاً قليلاً فكان تحملها أسهل ورابعها أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل وعلى الصبر على عوارض النبوة وعلى احتماله أذية قومه وعلى الجهاد وخامسها أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجزاً فإنه لو كان ذلك في مقدور البشر لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً وسادسها كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم فكانوا يزدادون بصيرة لأن بسبب ذلك كان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب وسابعها أن القرآن لما نزل منجماً مفرقاً وهو عليه السلام كان يتحداهم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فبهذا الطريق ثبت في فؤاده أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة وثامنها أن السفارة بين الله تعالى وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم فيحتمل أن يقال إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) دفعة واحدة لبطل ذلك المنصب على جبريل عليه السلام فلما أنزله مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العالي عليه فلأجل ذلك جعله الله سبحانه وتعالى مفرقاً منجماً
أما قوله كَذالِكَ ففيه وجهان الأول أنه من تمام كلام المشركين أي جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار في الآية وهو أن يقول أنزلناه مفرقاً لتثبت به فؤادك الثاني أنه كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم أي كذلك أنزلناه مفرقاً فإن قيل ذلك في كَذالِكَ يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه والذي تقدم فهو إنزاله جملة ( واحدة ) فكيف فسر به كذلك أنزلناه مفرقاً قلنا لأن قولهم لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ جُمْلَة ً واحِدَة ً معناه لم نزل مفرقاً فذلك إشارة إليه
أما قوله تعالى وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً فمعنى الترتيل في الكلام أن يأتي بعضه على أثر بعض على تؤدة وتمهل وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها يقال ثغر رتل وهو ضد المتراص ثم إنه سبحانه وتعالى لما بين فساد قولهم بالجواب الواضح قال وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ من الجنس الذي تقدم ذكره من الشبهات إلا جئناك بالحق الذي يدفع قولهم كما قال تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ( الأنبياء 18 )

وبين أن الذي يأتي به أحسن تفسيراً لأجل ما فيه من المزية في البيان والظهور ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل معناه كذا وكذا
أما قوله الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ففيه مسائل
المسألة الأولى عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه ) وعنه عليه السلام ( إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن مشيهم على وجوههم )
المسألة الثانية الأقرب أنه صفة للقوم الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت وإن كان غيرهم من أهل النار يدخل معهم
المسألة الثالثة حمله بعضهم على أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم إلى القرار وأرجلهم إلى فوق روي ذلك عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال آخرون المراد أنهم يحشرون ويسحبون على وجوههم وهذا أيضاً مروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أولى وقال الصوفية الذين تعلقت قلوبهم بما سوى الله فإذا ماتوا بقي ذلك التعلق فعبر عن تلك الحالة بأنهم يحشرون على وجوههم إلى جهنم ثم بين تعالى أنهم شر مكاناً من أهل الجنة وأضل سبيلاً وطريقاً والمقصود منه الزجر عن طريقهم والسؤال عليه كما ذكرناه على قوله أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( الفرقان 24 ) وقد تقدم الجواب عنه
واعلم أنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد ونفي الأنداد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين لها وفي أحوال القيامة شرع في ذكر القصص على السنة المعلومة
القصة الأولى قصة موسى عليه السلام
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً
اعلم أنه تعالى لما قال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً ( الفرقان 31 ) أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء وعرفه بما نزل بمن كذب من أممهم فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً والمعنى لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فرد فقد آتينا موسى التوراة وقوينا عضده بأخيه هرون ومع ذلك فقد رد وفيه مسائل
المسألة الأولى كونه وزيراً لا يمنع من كونه شريكاً له في النبوة فلا وجه لقول من قال في قوله فَقُلْنَا اذْهَبَا إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده بل يجري مجرى قوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( طه 43 )

فإن قيل إن كونه وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً بل يجب أن يقال إنه لما صار شريكاً خرج عن كونه وزيراً قلنا لا منافاة بين الصفتين لأنه لا يمتنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيراً وظهيراً ومعيناً له
المسألة الثانية قال الزجاج الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويتحصن برأيه والوزر ما يعتصم به ومنه كَلاَّ لاَ وَزَرَ ( القيامة 11 ) أي لا منجى ولا ملجأ قال القاضي ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيراً ولا يقال فيه أيضاً بأنه وزير لأن الالتجاء إليه في المشاورة والرأي على هذا الحد لا يصح
المسألة الثالثة دَمَّرْنَاهُمْ أهلكناهم إهلاكاً فإن قيل الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقيب ذهاب موسى وهرون إليهم بل بعد مدة مديدة قلنا التعقيب محمول ههنا على الحكم لا على الوقوع وقيل إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم
المسألة الرابعة قوله تعالى اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب آيات الإلهية فلا إشكال وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ وإن كان للماضي إلا أن المراد هو المستقبل
القصة الثانية قصة نوح عليه السلام
وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَة ً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً
اعلم أنه تعالى إنما قال كَذَّبُواْ الرُّسُلَ إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل أو لأنه كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيباً للجميع لأن تكذيب الواحد منهم لا يمكن إلا بالقدح في المعجز وذلك يقتضي تكذيب الكل أو لأن المراد بالرسل وإن كان نوحاً عليه السلام وحده ولكنه كما يقال فلان يركب الأفراس
أما قوله أَغْرَقْنَاهُمْ فقال الكلبي أمظر الله عليهم السماء أربعين يوماً وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين فصارت الأرض بحراً واحداً وَجَعَلْنَاهُمْ أي وجعلنا إغراقهم أو قصتهم آية وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ أي لكل من سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عذاباً أليماً ويحتمل أن يكون المراد قوم نوح
القصة الثالثة قصة عاد وثمود وأصحاب الرس
وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاٌّ مْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً

المسألة الأولى عطف عَاداً على ( هم ) في وَجَعَلْنَاهُمْ أو على ( الظالمين ) لأن المعنى ووعدنا الظالمين
المسألة الثانية قرىء و ثَمُودُ على تأويل القبيلة وأما على المنصرف فعلى تأويل الحي أو لأنه اسم للأب الأكبر
المسألة الثالثة قال أبو عبيدة الرس هو البئر غير المطوية قال أبو مسلم في البلاد موضع يقال له الرس فجائز أن يكون ذلك الوادي سكناً لهم والرس عند العرب الدفن ويسمى به الحفر يقال رس الميت إذا دفن وغيب في الحفرة وفي التفسير أنه البئر وأي شيء كان فقد أخبر الله تعالى عن أهل الرس بالهلاك انتهى
المسألة الرابعة ذكر المفسرون في أصحاب الرس وجوهاً أحدها كانوا قوماً من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش فبعث الله تعالى إليهم شعيباً عليه السلام فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس خسف الله بهم وبدارهم وثانيها الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وثالثها أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا ورابعها هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وخامسها الرس أنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار وقيل ( كذبوه ) ورسوه في بئر أي دسوه فيها وسادسها عن علي عليه السلام أنهم كانوا قوماً يعبدون شجرة الصنوبر وإنما سموا بأصحاب الرس لأنهم رسوا نبيهم في الأرض وسابعها أصحاب الرس قوم كانت لهم قرى على شاطىء نهر يقال له الرس من بلاد المشرق فبعث الله تعالى إليهم نبياً من ولد يهودا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمناً فشكى إلى الله تعالى منهم فحفروا بئراً ورسوه فيها وقالوا نرجو أن يرضى عنا إلهنا وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم يقول إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي وقلة حيلتي فعجل قبض روحي حتى مات فأرسل الله تعالى ريحاً عاصفة شديدة الحمرة فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد وأظلتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص وثامنها روى ابن جرير عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا عبد أسود ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئراً فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجراً ضخماً وكان ذلك العبد يحتطب فيشتري له طعاماً وشراباً ويرفع الصخرة ويدليه إليه فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوماً فلما أراد أن يحملها وجد نوماً فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين أخرى ثم هب فحمل حزمته فظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته واشترى طعاماً وشراباً وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحداً وكان قومه قد استخرجوه وآمنوا به وصدقوه وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون لا ندري حاله حتى قبض الله النبي وقبض ذلك الأسود فقال عليه السلام ( إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة )

واعلم أن القول ما قاله أبو مسلم وهو أن شيئاً من هذه الروايات غير معلوم بالقرآن ولا بخبر قوي الإسناد ولكنهم كيف كانوا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم أهلكوا بسبب كفرهم
المسألة الخامسة قال النخعي القرن أربعون سنة وقال علي عليه السلام بل سبعون سنة وقيل مائة وعشرون
المسألة السادسة قوله بين ذلك أي بَيْنَ ذالِكَ المذكور وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ثم يقول فذلك كيت وكيت على معنى فذلك المحسوب أو المعدود
أما قوله وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ فالمراد بينا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا تبرناهم تتبيراً ويحتمل وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ بأن أجبناهم عما أوردوه من الشبه في تكذيب الرسل كما أورده قومك يا محمد فلما لم ينجع فيه تبرناهم تتبيراً فحذر تعالى بذلك قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الاستمرار على تكذيبه لئلا ينزل بهم مثل الذي نزل بالقوم عاجلاً وآجلاً
المسألة السابعة ( كلاً ) الأول منصوب بما دل عليه ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ وهو أنذرنا أو حذرنا والثاني بتبرنا لأنه فارغ له
المسألة الثامنة التتبير التفتيت والتكسير ومنه التبر وهو كسارة الذهب والفضة والزجاج
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَة ِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً
واعلم أنه تعالى أراد بالقرية سدوم من قرى قوم لوط عليه السلام وكانت خمساً أهلك الله تعالى أربعاً بأهلها وبقيت واحدة و ( مطر السوء ) الحجارة يعني أن قريشاً مروا مراراً كثيرة في متاجرهم إلى الشأم

على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء أَفَلَمْ يَكُونُواْ في ( مرار ) مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى ونكاله ( ويذَّكرون ) بَلْ كَانُواْ قوماً كفرة لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً وذكروا في تفسير يَرْجُونَ وجوها أحدها وهو الذي قاله القاضي وهو الأقوى أنه محمول على حقيقة الرجاء لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف ومشاق النظر والاستدلال إلا لرجاء ثواب الآخرة فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق والمتاعب وثانيها معناه لا يتوقعون نشوراً ( وعاقبة ) فوضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن وثالثها معناه لا يخافون على اللغة التهامية وهو ضعيف والأول هو الحق
وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاٌّ نْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً
اعلم أنه سبحانه لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته وفي إيراد الشبهات في ذلك بين بعد ذلك أنهم إدا رأوا الرسول اتخذوه هزواً فلم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ويقول بعضهم لبعض أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( إنْ ) الأولى نافية والثانية مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينهما
المسألة الثانية جواب ( إذا ) هو ما أضمر من القول يعني وإذا رأوك مستهزئين قالوا أبعث الله هذا رسولاً وقوله إِن يَتَّخِذُونَكَ جملة اعترضت بين ( إذا ) وجوابها
المسألة الثالثة اتخذوه هزواً في معنى استهزؤا به والأصل اتخذوه موضع هزء أو مهزوءاً به
المسألة الرابعة اعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول أتوا بنوعين من الأفعال أحدهما أنهم يستهزئون به وفسر ذلك الاستهزاء بقوله أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً وذلك جهل عظيم لأن الاستهزاء إما أن يقع بصورته أو بصفته أما الأول فباطل لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحسن منهم صورة وخلقة وبتقدير أنه لم يكن كذلك لكنه عليه السلام ما كان يدعي التمييز عنهم بالصورة بل بالحجة وأما الثاني فباطل لأنه عليه السلام ادعى التميز عنهم في ظهور المعجز عليه دونهم وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ودلالته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية واستهزؤا بالرسول عليه السلام وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في كل الأوقات إلا السفاهة والوقاحة وثانيهما أنهم كانوا يقولون فيه إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وذلك يدل على أمور الأول أنهم سموا ذلك إضلالاً وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم وفي استعظام صنيعه ( صلى الله عليه وسلم ) في صرفهم عنه وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن هذا هو الحق فمن هذا الوجه يبطل قول أصحاب المعارف في أنه لا يكفر إلا من يعرف الدلائل لأنهم جهلوه ثم نسبهم الله تعالى إلى الكفر واضلال وقولهم لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا يدل أيضاً على ذلك الثاني يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان ولولا ذلك لما قالوا إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا

وهكذا كان عليه السلام فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب الثالث أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا ألبتة على دلائل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد لأن قولهم لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا إشارة إلى الجحود والتقليد ولو ذكروا اعتراضاً على دلائل الرسول عليه السلام لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة الرابع الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزؤا به أولاً ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره فتارة بالوقاحة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه أولها قوله وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم إِن كَانَ بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر وثانيها قوله تعالى سَبِيلاً أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً والمعنى أنه سبحانه بين أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة فكل ما دعاهم الهوى إليه انقادوا له سواء منع الدليل منه أو لم يمنع ثم ههنا أبحاث
الأول قوله أَرَأَيْتَ كلمة تصلح للإعلام والسؤال وههنا هي تعجيب من جهل من هذا وصفه ونعته
الثاني قوله اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ معناه اتخذ إلهه ما يهواه أو إلهاً يهواه وقيل هو مقلوب ومعناه اتخذ هواه إلهه وهذا ضعيف لأن قوله اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ يفيد الحصر أي لم يتخذ لنفسه إلهاً إلا هواه وهذا المعنى لا يحصل عند القلب قال ابن عباس الهوى إله يعبد وقال سعيد بن جبير كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده
الثالث قوله أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك
الرابع نظير هذه الآية قوله تعالى لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ( الغاشية 22 ) وقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) وقوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( البقرة 256 ) قال الكلبي نسختها آية القتال وثالثها قوله أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أم ههنا منقطعة معناه بل تحسب وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع ألبتة فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية وها هنا سؤالات

السؤال الأول لم قال أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ فحكم بذلك على الأكثر دون الكل والجواب لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل
السؤال الثاني لم جعلوا أضل من الأنعام الجواب من وجوه أحدها أن الأنعام تنقاد لأربابها وللذي يعلفها ويتعهدها وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يميزون بين إحسانه إليهم وبين إساءة الشيطان إليهم الذين هو عدو لهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يحترزون من العقاب الذي هو أعظم المضار وثانيها أن قلوب الأنعام كما أنها تكون خالية عن العلم فهي خالية عن الجهل الذي هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه مع التصميم وأما هؤلاء فقلوبهم كما خلت عن العلم فقد اتصفت بالجهل فإنهم لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون بل هم مصرون على أنهم يعلمون وثالثها أن عدم علم الأنعام لا يضر بأحد أما جهل هؤلاء فإنه منشأ للضرر العظيم لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ورابعها أن الأنعام لا تعرف شيئاً ولكنهم عاجزون عن الطلب وأما هؤلاء الجهال فإنهم ليسوا عاجزين عن الطلب والمحروم عن طلب المراتب العالية إذا عجز عنه لا يكون في استحقاق الذم كالقادر عليه التارك له لسوء اختياره وخامسها أن البهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم أما هؤلاء فإنهم يستحقون عليه أعظم العقاب وسادسها أن البهائم تسبح الله تعالى على مذهب بعض الناس على ما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الأسراء 44 ) وقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ إلى قوله وَالدَّوَابّ ( الحج 18 ) وقال وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وإذا كان كذلك فضلال الكفار أشد وأعظم من ضلال هذه الأنعام
السؤال الثالث أنه سبحانه لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث الرسول إليهم فإن من شرط التكليف العقل الجواب ليس المراد أنهم لا يعقلون بل إنهم لا ينتفعون بذلك العقل فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم إنما أنت أعمى وأصم
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِى َّ كَثِيراً

اعلم أنه تعالى لما بين جهل المعرضين عن دلائل الله تعالى وفساد طريقهم في ذلك ذكر بعده أنواعاً من الدلائل الدالة على وجود الصانع
النوع الأول الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَلَمْ تَرَ فيه وجهان أحدهما أنه من رؤية العين والثاني أنه من رؤية القلب يعني العلم فإن حلمناه على رؤية العين فالمعنى أم تر إلى الظل كيف مده ربك وإن كان تخريج لفظه على عادة العرب أفصح وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج فالمعنى ألم تعلم وهذا أولى وذلك أن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث إن كل متغير جائز فله مؤثر فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه
المسألة الثانية المخاطب بهذا الخطاب وإن كان هو الرسول عليه السلام بحسب ظاهر اللفظ ولكن الخطاب عام في المعنى لأن المقصود من الآية بيان نعم الله تعالى بالظل وجميع المكلفين مشتركون في أنه يجب تنبههم لهذه النعمة وتمكنهم من الاستدلال بها على وجود الصانع
المسألة الثالثة الناس أكثروا في تأويل هذه الآية والكلام الملخص يرجع إلى وجهين
الأول أن الظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران وهذه الحالة أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس وأما الضوء الخالص وهو الكيفية الفائضة من الشمس فهي لقوتها تبهر الحس البصري وتفيد السخونة القوية وهي مؤذية فإذن أطيب الأحوال هو الظل ولذلك وصف الجنة به فقال وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( الواقعة 30 ) وإذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه بين أنه من النعم العظيمة والمنافع الجليلة ثم إن الناظر إلى الجسم الملون وقت الظل كأنه لا يشاهد شيئاً سوى الجسم وسوى اللون ونقول الظل ليس أمراً ثالثاً ولا يعرف به إلا إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم زال ذلك الظل فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً وماهية لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها فلولا الشمس لما عرف الظل ولولا الظلمة لما عرف النور فكأنه سبحانه وتعالى لما طلع الشمس على الأرض وزال الظل فحينئذ ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون فلهذا قال سبحانه ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً أي خلقنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت الشمس دليلاً على وجود هذه النعمة ثم قبضناه أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيراً يسيراً فإن كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب ولما كان الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً فكذا زوال الإظلال لا يكون دفعة بل يسيراً يسيراً ولأن قبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح ولكن قبضها يسيراً يسيراً يفيد معه أنواع مصالح العالم والمراد بالقبض الإزالة والإعدام هذا أحد التأويلين
التأويل الثاني وهو أنه سبحانه وتعالى لما خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلاً عليه وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر وكما أن المهتدي

يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلاً عليها
وأما قوله ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيراً يسيراً إلى غاية نقصاناتها فسمى إزالة الأظلال قبضاً لها أو يكون المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الأظلال وقوله يَسِيراً هو كقوله ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ق 44 ) فهذا هو التأويل الملخص
المسألة الرابعة وجه الاستدلال به على وجود الصانع المحسن أن حصول الظل أمر نافع للأحياء والعقلاء وأما حصول الضوء الخالص أو الظلمة الخالصة فهو ليس من باب المنافع فحصول ذلك الظل إما أن يكون من الواجبات أو من الجائزات والأول باطل وإلا لما تطرق التغير إليه لأن الواجب لا يتغير فوجب أن يكون من الجائزات فلا بد له في وجوده بعد العدم وعدمه بعد الوجود من صانع قادر مدبر محسن يقدره بالوجه النافع وما ذاك إلا من يقدر على تحريك الأجرام العلوية وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن والترتيب الأكمل وما هو إلا الله سبحانه وتعالى فإن قيل الظل عبارة عن عدم الضوء عما شأنه أن يضيء فكيف استدل بالأمر العدمي على ذاته وكيف عده من النعم قلنا الظل ليس عدماً محضاً بل هو أضواء مخلوطة بظلم والتحقيق أن الظل عبارة عن الضوء الثاني وهو أمر وجودي وفي تحقيقه وبسطه كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية
النوع الثاني قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً اعمل أنه تعالى شبه الليل من حيث إنه يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن ونبه على ما لنا فيه من النفع بقوله وَالنَّوْمَ سُبَاتاً والسبات هو الراحة وجعل النوم سباتاً لأنه سبب للراحة قال أبو مسلم السبات الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت وقال صاحب ( الكشاف ) السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة قال وهذا كقوله وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ( الأنعام 60 ) وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة لأن النشور في مقابلته يأباه قال أبو مسلم وجعل النهار نشوراً هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) والتي لم تمت في منامها كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمه على خلقه لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية والنوم واليقظة شبههما بالموت والحياة وعن لقمان أنه قال لابنه كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر
النوع الثالث قوله وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَحْمَتِهِ وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف ثم فيه مسائل
المسألة الأولى قرىء ( الريح ) و ( الرياح ) قال الزجاج وفي ( نشراً ) خمسة أوجه بفتح النون وبضمها وبضم النون والشين وبالباء الموحدة مع ألف والمؤنث وبشراً بالتنوين قال أبو مسلم في قرأ ( بشراً ) أراد جمع بشير مثل قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ ( الروم 46 ) وأما بالنون فهو في معنى قوله والنَّاشِراتِ نَشْراً ( المرسلات 3 )

وهي الرياح والرحمة الغيث والماء والمطر
المسألة الثانية قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً نص في أنه تعالى ينزل الماء من السماء لا من السحاب وقول من يقول السحاب سماء ضعيف لأن ذاك بحسب الاشتقاق وأما بحسب وضع اللغة فالسماء اسم لهذا السقف المعلوم فصرفه عنه ترك للظاهر
المسألة الثالثة اختلفوا في أن الطهور ما هو قال كثير من العلماء الطهور ما يتطهر به كالفطور ما يفطر به والسحور ما يتسحر به وهو مروي أيضاً عن ثعلب وأنكر صاحب ( الكشاف ) ذلك وقال ليس فعول من التفعيل في شيء والطهور على وجهين في العربية صفة واسم غير صفة فالصفة قولك ماء طهور كقولك طاهر والاسم قولك طهور لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به النار حجة القول الأول قوله عليه السلام ( التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ) ولو كان معنى الطهور الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم وحينئذ لا ينتظم الكلام وكذا قوله عليه السلام ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً ) ولو كان الطهور الطاهر لكان معناه طاهر إناء أحدكم وحينئذ لا ينتظم الكلام ولأنه تعالى قال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) فبين أن المقصود من الماء إنما هو التطهر به فوجب أن يكون المراد من كونه طهوراً أنه هو المطهر به لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل ولا شك أن المطهر أكمل من الطاهر
المسألة الرابعة اعلم أن الله تعالى ذكر من منافع الماء أمرين أحدهما ما يتعلق بالنبات والثاني ما يتعلق بالحيوان أما أمر النبات فقوله لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً وفيه سؤالات
السؤال الأول لم قال لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً ميتاً ولم يقل ميتة الجواب لأن البلدة في معنى البلد في قوله فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ ( فاطر 9 )
السؤال الثاني ما المراد من حياة البلد وموتها الجواب الناس يسمون ما لا عمارة فيه من الأرض مواتاً وسقيها المقتضي لعمارتها إحياء لها
السؤال الثالث أن جماعة الطبائعيين وكذا الكعبي من المعتزلة قالوا إن بطبع الأرض والماء وتأثير الشمس فيهما يحصل النبات وتمسكوا بقوله تعالى لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً فإن الباء في ( به ) تقتضي أن للماء تأثيراً في ذلك الجواب الظاهر وإن دل عليه لكن المتكلمون تركوه لقيام الدلالة على فساد الطبع وأما أمر الحيوان فقوله سبحانه وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِى َّ كَثِيراً وفيه سؤالات
السؤال الأول لم خص الإنسان والأنعام ههنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام لأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها فكأن الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم بسقيهم

السؤال الثاني ما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفهما بالكثرة الجواب معناه أن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار ( ومنافع ) المياه فهم في غنية ( في شرب المياه عن المطر ) وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وذلك قوله لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء ويحتمل في ( كثير ) أن يرجع إلى قوله وَنُسْقِيَهِ لأن الحي يحتاج إلى الماء حالاً بعد حال وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان إلى الضرر أقرب والحيوان يحتاج إليه حالاً بعد حال ما دام حياً
السؤال الثالث لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي الجواب لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم فقد ظفروا أيضاً بسقياهم وأيضاً فقوله تعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ( الفرقان 50 ) يعني صرف المطر كل سنة إلى جانب آخر وإذا كان كذلك فلا يسقي الكل منه بل يسقي كل سنة أناسي كثيراً منه
السؤال الرابع ما الأناسي الجواب قال الفراء والزجاج الإنسي والأناسي كالكرسي والكراسي ولم يقل كثيرين لأنه قد جاء فعيل مفرداً ويراد به الكثرة كقوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً ( الفرقان 38 ) وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 )
واعلم أن الفقهاء قد استنبطوا أحكام المياه من قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ونحن نشير إلى معاقد تلك المسائل فنقول ههنا نظران أحدهما أن الماء مطهر والثاني أن غير الماء هل هو مطهر أم لا النظر الأول أن نقول الماء إما أن لا يتغير أو يتغير القسم الأول وهو الذي لا يتغير فهو طاهر في ذاته مطهر لغيره إلا الماء المستعمل فإنه عند الشافعي طاهر وليس بمطهر وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به وقال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف إنه نجس فههنا مسائل
المسألة الأولى في بيان أنه ليس بمطهر ودليلنا قوله عليه السلام ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ) ولو بقي الماء كما كان طاهراً مطهراً لما كان للمنع منه معنى ومن وجه القياس أن الصحابة كانوا يتوضؤون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء ولو كان ذلك الماء مطهراً لحملوه ليوم الحاجة واحتج مالك بالآية والخبر والقياس أما الآية فمن وجهين الأول قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً وقوله وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) فدلت الآية على حصول وصف المطهرية للماء والأصل في الثابت بقاؤه فوجب الحكم ببقاء هذه الصفة للماء بعد صيرورته مستعملاً وأيضاً قوله طَهُوراً يقتضي جواز التطهر به مرة بعد أخرى والثاني أنه أمر بالغسل مطلقاً في قوله فاغْسِلُواْ ( المائدة 6 ) واستعمال كل المائعات غسل لأنه لا معنى للغسل إلا إمرار الماء على العضو قال الشاعر فياحسنها إذ يغسل الدمع كحلها
فمن اغتسل بالماء المستعمل فقد أتى بالغسل فوجب أن يكون مجزئاً له لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وأما السنة فما روي أنه عليه السلام ( توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده ) وعنه عليه السلام ( أنه توضأ فأخذ من بلل لحيته فمسح به رأسه ) وعن ابن عباس أنه عليه السلام ( اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة ) وأما القياس فإنه ماء طاهر لقي

جسداً طاهراً فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديداً وكذا الماء المستعمل في الكرة الرابعة والمستعمل في التبرد والتنظيف ولأنه لا خلاف أنه إذا وضع الماء على أعلى وجهه وسقط به فرض ذلك الموضع ثم نزل ذلك الماء بعينه إلى بقية الوجه فإنه يجزيه مع أن ذلك الماء صار مستعملاً في أعلى الوجه
المسألة الثانية الدليل على أن الماء المستعمل طاهر قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ومن السنة أنه عليه السلام أخذ من بلل لحيته ومسح به رأسه وقال ( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه ) وقال الشافعي إنه عليه السلام توضأ ولا شك أنه أصابه ما تساقط منه ولم ينقل أنه غير ثوبه ولا أنه غسله ولا أحد من المسلمين فعل ذلك فثبت أنهم أجمعوا على أنه ليس بنجس ولأنه ماء طاهر لقي جسماً طاهراً فأشبه ما إذا لاقى حجارة
المسألة الثالثة الماء المستعمل إما أن يكون مستعملاً في أعضاء الوضوء أو في غسل الثياب أما المستعمل في أعضاء الوضوء فإما أن يكون مستعملاً فيما كان فرضاً وعبادة أو فيما كان فرضاً ولا يكون عبادة أو فيما كان عبادة ولا يكون فرضاً أو فيما لا يكون فرضاً ولا عبادة
أما القسم الأول وهو المستعمل فيما كان فرضاً وعبادة فهو غير مطهر باتفاق أصحاب الشافعي
وأما القسم الثاني فهو كالماء الذي استعملته الذمية التي تحت الزوج المسلم أي في غسل حيضها ليحل للزوج غشيانها وأما القسم الثالث فهو كالماء المستعمل في الكرة الثانية والثالثة والماء المستعمل في تجديد الوضوء والماء المستعمل في الأغسال المسنونة فلأصحاب الشافعي في هذين القسمين وجهان وأما القسم الرابع فهو كالماء المستعمل في الكرة الرابعة وفي التبرد والتنظف فذاك باتفاق أصحاب الشافعي غير مستعمل وهو طاهر مطهر أما الماء المستعمل في غسل الثياب فإذا غسل ثوباً من نجاسة وطهر بغسلة واحدة يستحب أن يغسله ثلاثاً فالمنفصل في الكرة الثانية والثالثة مطهر على الأصح القسم الثاني الماء الذي يتغير فنقول الماء إذا تغير فإما أن يتغير بنفسه أو بغيره أما الأول فكالمتغير بطول المكث فيجوز الوضوء به لأنه عليه السلام كان يتوضأ من بئر ( قضاعة ) وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء وأما المتغير بسبب غيره فذلك الغير إما أن لا يكون متصلاً به أو يكون متصلاً به أما الذي لا يكون متصلاً به فهو كما لو وقع بقرب الماء جيفة فصار الماء منتناً بسببها فهو أيضاً مطهر وأما إذا تغير بسبب شيء متصل به فذلك المتصل إما أن يكون طاهراً أو نجساً القسم الأول إذا كان طاهراً فهو إما أن لا يخالطه أو يخالطه فإن لم يخالطه فهو كالماء المتغير بسبب وقوع الدهن والطيب والعود والعنبر والكافور الصلب فيه وهذا أيضاً مطهر كما لو كان بقرب الماء جيفة ولأن الطهورية ثبتت بقوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً والأصل في الثابت بقاؤه وأما المتغير بسبب شيء يخالطه فذلك المخالط إما أن لا يمكن صون الماء عنه أو يمكن أما الذي لا يمكن فكالمتغير بالتراب والحمأة والأوراق التي تقع فيه والطحلب الذي يتولد فيه وهذا أيضاً مطهر لأن الطهورية ثبتت بالآية والاحتراز عن ذلك عسير فيكون مرفوعاً لقوله مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل أو وقع شيء منها فيه أو نبع من معادنها أما إذا تغير الماء بسبب مخالطة ما يستغنى الماء عن جنسه نظر إن كان التغير قليلاً بحيث لا يضاف الماء إليه بأن وقع فيه زعفران فاصفر قليلاً أو دقيق فابيض قليلاً جاز الوضوء به على الصحيح من

المذهب لأنه لم يسلبه إطلاق اسم الماء وأما إن كان التغير كثيراً فإن استحدث اسماً جديداً كالمرقة لم يجز الوضوء به بالاتفاق وإن لم يستحدث اسماً جديدا فعند الشافعي لا يجوز الوضوء به وعند أبي حنيفة يجوز
حجة الشافعي من وجوه أحدها أنه عليه السلام توضأ ثم قال ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) فذلك الوضوء إن كان واقعاً بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وبالاتفاق ليس الأمر كذلك فثبت أنه كان بماء غير متغير وهو المطلوب وثانيها أنه إذا اختلط ماء الورد بالماء ثم توضأ الإنسان به فيحتمل أن بعض الأعضاء قد انغسل بماء الورد دون الماء وإذا كان كذلك فقد وقع الشك في حصول الوضوء وكان تيقن الحدث قائماً والشك لا يعارض اليقين فوجب أن يبقى على الحدث بخلاف ما إذا كان قليلاً لا يظهر أثره فإنه صار كالمعدوم أما إذا ظهر أثره علمنا أنه باق فيتوجه ما ذكرناه وثالثها أن الوضوء تعبد لا يعقل معناه فإنه لو توضأ بماء الورد لا يصح وضوؤه ولو توضأ بالماء الكدر المتعفن صح وضوؤه وما لا يعقل معناه وجب الاقتصار فيه على مورد النص وترك القياس
حجة أبي حنيفة وجوه أحدها قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً دلت الآية على كون الماء مطهراً والأصل في الثابت بقاؤه فوجب بقاء هذه الصفة بعد التغير بالمخالطة وثانيها قوله تعالى فاغْسِلُواْ ( المائدة 6 ) أمر بمطلق الغسل وقد أتى به فوجب أن يخرج عن العهدة وقد بينا تقرير هذا الوجه فيما تقدم وثالثها قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) علق جواز التيمم بعدم وجدان الماء وواجد هذا الماء المتغير واجد للماء لأن الماء المتغير ماء مع صفة التغير والموصوف موجود حال وجود الصفة فوجب أن لا يجوز له التيمم ورابعها قوله عليه السلام في البحر ( هو الطهور ماؤه ) ظاهره يقتضي جواز الطهارة به وإن خالطه غيره لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطلق ذلك وخامسها أنه عليه السلام أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطه شيء من لعابهما وسادسها لا خلاف في الوضوء بماء المدر والسيول مع تغير لونه بمخالطة الطين وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات ومن أجل مخالطة ذلك له يرى تارة متغيراً إلى السواد وأخرى إلى الحمرة والصفرة فصار ذلك أصلاً في جميع ما خالط الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء القسم الثاني إذا كان المخالط للماء شيئاً نجساً فمن الناس من زعم أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً وهو قول الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه مال الشيخ الغزالي في كتاب ( الإحياء ) وقال أبو بكر الرازي مذهب أصحابنا أن كل ما تيقنا فيه جزأ من النجاسة أو غلب على الظن ذلك لم يجز استعماله ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر وليس هو كلامنا في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعمالها وبعضها لا يجوز استعماله هذا كله كلام أبي بكر وأقول من الناس من فرق بين القليل والكثير فعن عبدالله بن عمر ( إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( الحوض لا يغتسل فيه جنب إلا أن يكون فيه أربعون غرباً ) وهو قول محمد بن كعب القرظي وقال

مسروق وابن سيرين إذا كان الماء كثيراً لا ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال وقال الشافعي إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه وإن كان أقل ينجس لظهور النجاسة فيه
واعلم أنه يمكن التمسك لنصرة قول مالك بوجوه أحدها قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه فيبقى فيما عداه على الأصل وثانيها قوله عليه السلام ( خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه ) وهو نص في الباب وثالثها قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ( المائدة 6 ) المتوضىء بهذا الماء قد غسل وجهه فيكون آتياً بما أمر به فيخرج عن العهدة ورابعها أن من شأن كل مختلطين كان أحدهما غالباً على الآخر أن يتكيف المغلوب بكيفية الغالب فالقطرة من الخل لو وقعت في الماء الكثير بطلت صفة الخلية عنها واتصفت بصفة الماء وكون أحدهما غالباً على الآخر إنما يعرف بغلبة الخواص والآثار المحسوسة وهي الطعم أو اللون أو الريح فلا جرم مهما ظهر طعم النجاسة أو لونها أو ريحها كانت النجاسة غالبة على الماء وكان الماء مستهلكاً فيها فلا جرم يغلب حكم النجاسة فإذا لم يظهر شيء من ذلك كان الغالب هو الماء وكانت النجاسة مستهلكة فيه فيغلب حكم الطهارة وخامسها ما روي عن عمر ( أنه ) توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أواني النصارى معلومة بظن قريب من العلم وذلك يدل على أن عمر لم يعول إلا على عدم التغير وسادسها أن تقدير الماء بمقدار معلوم ولو كان معتبراً كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة رضي الله عنه لكان أولى المواضع بالطهارة مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هناك لا الجارية وإلا الراكدة الكثيرة ومن أول عصر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه بالمقادير المعينة ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظ المياه عن النجاسات وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات وسابعها إصغاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الإناء للهرة وعدم منعهم الهرة من شرب الماء من أوانيهم بعد أن كانوا يرون أنه تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل إلى الآبار وثامنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسات طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إذا تغيرت وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة وتاسعها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة ولا خلاف أن مذهب الشافعي إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير أنه يجوز الوضوء به وإن كان قليلاً وأي فرق بين الجاري والراكد وليت شعري الحوالة على عدم التغير أولى أو على قوة الماء بسبب الجريان وعاشرها إذا وقع بول في قلتين ثم فرقتا فكل كوز يؤخذ منه فهو ظاهر على قول الشافعي ومعلوم أن البول منتشر فيه وهو قليل فأن فرق بينه إذا وقع ذلك القليل في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل إليه عند اتصال غيره به وحادي عشرها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في ذلك القليل من الماء من تلك الحياض مع علمهم بأن الأيدي الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها ولو كان التقدير بالقلتين معتبراً لاشتهر ذلك ولبلغ ذلك إلى حد التواتر لأن الأمر الذي تشتد حاجة الجمهور إليه يجب بلوغ نقله إلى حد التواتر لما لم يكن كذلك علمنا أنه غير معتبر وثاني عشرها أنا لو حكمنا بنجاسة الماء فلا يمكننا أن نحكم بنجاسة الماء إن كان في غاية

الكثرة مثل ماء الأودية العظيمة والغدران الكبار فإن ذلك بالإجماع باطل فلا بد من التقدير بمقدار معين وقد نقلنا عن الناس تقديرات مختلفة فليس بعضها أولى من بعض فوجب التعارض والتساقط أما تقدير أبي حنيفة بعشر في عشر فمعلوم أنه مجرد تحكم وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) فضعيف أيضاً لأن الشافعي لما روى هذا الخبر قال أخبرني رجل فيكون الراوي مجهولاً ويكون الحديث مرسلاً وهو عنده ليس بحجة وأيضاً زعم كثير من المحدثين أنه موقوف على ابن عمر رضي الله عنه سلمنا صحة الرواية لكنه إحالة مجهول على مجهول لأن القلة غير معلومة فإنها تصلح للكوز والجرة ولكل ما نقل باليد وهو أيضاً اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل سلمنا كون القلة معلومة لكن في متن الخبر اضطراب فإنه روي ( إذا بلغ الماء قلتين ) وروي ( إذا بلغ قلة ) وروي ( أربعين قلة ) وروي ( إذا بلغ قلتين أو ثلاثاً ) وروي ( إذا بلغ كوزين ) سلمنا صحة المتن ولكنه متروك الظاهر لأن قوله ( لم يحمل خبثاً ) لا يمكن إجراؤه على ظاهره فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله سلمنا إمكان إجرائه على ظاهره لكن الخبث على قسمين خبث شرعي وخبث حقيقي والاسم إذا دار بين المسمى اللغوي والمسمى الشرعي كان حمله على المسمى اللغوي أولى لأن الاسم حقيقة في المسمى اللغوي مجاز في المسمى الشرعي دفعاً للاشتراك والنقل وإذا كان كذلك وجب حمله عليه والمسمى اللغوي للخبث المستقذر بالطبع قال عليه السلام ( ما استخبثته العرب فهو حرام ) إذا ثبت هذا فنقول معنى قوله ( لم يحمل خبثاً ) أي لا يصير مستقذراً طبعاً ونحن نقول بموجبه لكن لم قلت إنه لا ينجس شرعاً سلمنا أن المراد من الخبث النجاسة الشرعية لكن قوله ( لم يحمل خبثاً ) أي يضعف عن حمله ومعنى الضعف تأثره به فيكون هذا دليلاً على صيرورته نجساً لا على بقائه طاهراً لا يقال الجواب عن هذه الأسئلة أن يقال إن الشافعي وإن لم يذكر اسم الراوي في بعض المواضع فقد ذكره في سائر المواضع فخرج عن كونه مرسلاً ولأن سائر المحدثين قد عينوا اسم الراوي قوله إنه موقوف على ابن عمر قلنا لا نسلم فإن يحيى بن معين قال إنه جيد الإسناد فقيل له إن ابن علية وقفه على ابن عمر فقال إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه وقوله القلة مجهولة قلنا لا نسلم لأن ابن جريج قال في روايته ( بقلال هجر ) ثم قال وقد شاهدت قلال هجر فكانت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً قوله في متنه اضطراب قلنا لا نسلم لأنا وأنتم توافقنا على أن سائر المقادير غير معتبرة فيبقى ما ذكرناه معتبراً قوله إنه متروك الظاهر قلنا إذا حملناه على الخبث الشرعي اندفع ذلك وذلك أولى لأن حمل كلام الشرع على الفائدة الشرعية أولى من حمله على المعنى العقلي لا سيما وفي حمله على المعنى العقلي يلزم التعطيل قوله المراد أنه يضعف عن حمله قلنا صح في بعض الروايات أنه قال ( إذا كان الماء قلتين لم ينجس ) ولأنه عليه السلام جعل القلتين شرطاً لهذا الحكم والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط وعلى ما ذكروه لا يبقى للقلتين فائدة لأنا نقول لا شك أن هذا الخبر بتقدير الصحة يقتضي تخصيص عموم قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً وعموم قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ( المائدة 6 ) وعموم قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ( المائدة 6 ) وعموم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء ) وهذا المتخصص لا بد وأن يكون بعيداً عن الاحتمال والاشتباه وقلال هجر مجهولة وقول ابن جريج القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً ليس بحجة لأن القلة كما أنها مجهولة فكذا القربة مجهولة فإنها قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة ولأن الروايات أيضاً مختلفة فتارة قال ( إذا بلغ الماء قلتين ) وتارة ( أربعين قلة ) وتارة كرين فإذا تدافعت

وتعارضت لم يجز تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر هذا تمام الكلام في نصرة قول مالك واحتج من حكم بنجاسة الماء الذي تقع النجاسة فيه بوجوه أولها قوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 ) والنجاسات من الخبائث وقال تعالى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ ( النحل 115 ) وقال في الخمر رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ( المائدة 90 ) ومر عليه السلام بقبرين فقال ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إن أحدهما كان لا يستبرىء من البول والآخر كان يمشي بالنميمة ) فحرم الله هذه الأشياء تحريماً مطلقاً ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما يبقى فيه جزء من النجاسة أكثر ما في الباب أن الدلائل الدالة على كون الماء مطهراً تقتضي جواز الطهارة به ولكن تلك الدلائل مبيحة والدلائل التي ذكرناها حاظرة والمبيح والحاظر إذا اجتمعا فالغلبة للحاظر ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما منها مائة جزء وللآخر جزء واحد أن جهة الحظر فيها أولى من جهة الإباحة وأنه غير جائز لواحد منهما وطؤها فكذا ههنا وثانيها قوله عليه السلام ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة ) ذكره على الإطلاق من غير فرق بين القليل والكثير وثالثها قوله عليه السلام ( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثاً قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده ) فأمر بغسل اليد احتياطاً من نجاسة قد أصابته من موضع الاستنجاء ومعلوم أن مثلها إذا أدخلت الماء لم تغيره ولولا أنها تفسده ما كان للأمر بالاحتياط منها معنى ورابعها قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) يدل بمفهومه على أنه إذا لم يبلغ قلتين وجب أن يحمل الخبث أجاب مالك عن الوجه الأول فقال لا نزاع في أنه يحرم استعمال النجاسة ولكن الجزء القليل من النجاسة المائعة إذا وقع في الماء لم يظهر فيه لونه ولا طعمه ولا رائحته فلم قلتم إن تلك النجاسة بقيت ولم لا يجوز أن يقال إنها انقلبت عن صفتها وتقريره ما قدمناه وأما قوله عليه السلام ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ) فلم قلتم إن هذا النهي ليس إلا لما ذكرتموه بل لعل النهي إنما كان لأنه ربما شربه إنسان وذلك مما ينفر طبعه عنه وليس الكلام في نفرة الطبع وأما قوله ( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثاً ) فقد أجمعنا على أن هذا الأمر استحباب فالمرتب عليه كيف يكون أمر إيجاب ثم بتقدير أن يكون أمر إيجاب فلم قلتم إنه لم يوجه ذلك الإيجاب إلا لما ذكرتموه وأما قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين ) فقد سبق الكلام عليه ثم بعد النزول عن كل ما قلناه فهو تمسك بالمفهوم والنصوص التي ذكرناها منطوقة والمنطوق راجح على المفهوم والله أعلم
النظر الثاني في أن غير الماء هل هو طهور أم لا فقال الأصم والأوزاعي يجوز الوضوء بجميع المائعات وقال أبو حنيفة يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وقال أيضاً تجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات التي تزيل أعيان النجاسات وقال الشافعي رضي الله عنه الطهورية مختصة بالماء على الإطلاق ودليله في صورة الحدث قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) أوجب التيمم عند عدم الماء ولو جاز الوضوء بالخل أو نبيذ التمر لما وجب التيمم عند عدم الماء وأما في صورة الخبث فلأن الخل لو أفاد طهارة الخبث لكان طهوراً لأنه لا معنى للطهور إلا المطهر ولو كان طهوراً لوجب أن يجوز به طهارة الحدث لقوله عليه السلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه ) وكلمة ( حتى ) لانتهاء الغاية فوجب انتهاء عدم القبول عند استعمال الطهور وانتهاء عدم القبول يكون بحصول القبول فلو كان الخل طهوراً لحصل باستعماله قبول الصلاة وحيث لم يحصل علمنا أن الطهورية في الخبث أيضاً مختصة بالماء

وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً
المسألة الأولى اعلم أنهم اختلفوا في أن الهاء في قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ إلى أي شيء يرجع وذكروا فيه ثلاثة أوجه أحدها وهو الذي عليه الجمهور أنه يرجع إلى المطر ثم من هؤلاء من قال معنى ( صرفناه ) أنا أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به وقال آخرون معناه أنه سبحانه ينزله في مكان دون مكان وفي عام دون عام ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول قال ابن عباس ما عام بأكثر مطراً من عام ولكن الله يصرفه في الأرض ثم قرأ هذه الآية وروى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من عام بأمطر من عام ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي ) وثانيها وهو قول أبي مسلم أن قوله صَرَّفْنَاهُ راجع إلى المطر والرياح والسحاب والأظلال وسائر ما ذكر الله تعالى من الأدلة وثالثها وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ أي هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب والصحف التي أنزلت على رسل وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع والوجه الأول أقرب لأنه أقرب المذكورات إلى الضمير
المسألة الثانية قال الجبائي قوله تعالى لّيَذْكُرُواْ يدل على أنه تعالى مريد من الكل أن يتذكروا ويشكروا ولو أراد منهم أن يكفروا ويعرضوا لما صح ذلك وذلك يبطل قول من قال إن الله تعالى مريد للكفر ممن يكفر قال ودل قوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا على قدرتهم على فعل هذا التذكر إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال أبوا أن يفعلوه كما لا يقال في الزَّمن أبى أن يسعى وقال الكعبي قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا لأن قوله لّيَذْكُرُواْ عام في الكل وقوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلاً في ذلك العام لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفوراً واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً
المسألة الثالثة قوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا المراد كفران النعمة وجحودها من حيث لا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه وقيل المراد من الكفور هو الكفر وذلك الكفر إنما حصل لأنهم يقولون مطرنا بنوء كذا لأن من جحد كون النعم صادرة من المنعم وأضاف شيئاً من هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب فقد كفر واعلم أن التحقيق أن من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره وأما من قال الصانع تعالى جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر
المسألة الرابعة قالوا الآية دلت على أن خلاف معلوم الله مقدور له لأن كلمة لو دلت على أنه تعالى ما شاء أن يبعث في كل قرية نذيراً ثم إنه تعالى أخبر عن كونه قادراً على ذلك فدل ذلك على أن خلاف معلوم الله مقدور له

أما قوله تعالى وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً فالأقوى أن المراد من ذلك تعظيم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لوجوه أحدها كأنه تعالى بين له أنه مع القدرة على بعثة رسول ونذير في كل قرية خصه بالرسالة وفضله بها على الكل ولذلك أتبعه بقوله فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ أي لا توافقهم وثانيها المراد ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين ولبعثنا في كل قرية نذيراً ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل فقابل هذا الإجلال بالتشدد في الدين وثالثها أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيراً مثل محمد وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد ألبتة وقوله وَلَوْ يدل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك فبالنظر إلى الأول يحصل التأديب وبالنظر إلى الثاني يحصل الإعزاز
أما قوله فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ فالمراد نهيه عن طاعتهم ودلت هذه الآية على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلاً به
وأما قوله وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً فقال بعضهم المراد بذل الجهد في الأداء والدعاء وقال بعضهم المراد القتال وقال آخرون كلاهما والأقرب الأول لأن السورة مكية والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان وإنما قال جِهَاداً كَبيراً لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله تلك المجاهدات وكثر جهاده من أجل ذلك وعظم فقال له وَجَاهِدْهُمْ بسبب كونك نذير كافة القرى جِهَاداً كَبيراً جامعاً لكل مجاهدة
وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من دلائل التوحيد وقوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلاهما وأرسلهما يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى وأصل المرج الإرسال والخلط ومنه قوله تعالى فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( ق 5 ) سمى الماءين الكبيرين الواسعين بحرين قال ابن عباس مرج البحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج وهما يلتقيان وقوله هَاذَا عَذَابٌ فُرَاتٌ والمقصود من الفرات البليغ في العذوبة حتى ( يصير ) إلى الحلاوة والأجاج نقيضه وأنه سبحانه بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج وجعل من عظيم اقتداره برزخاً حائلاً من قدرته وههنا سؤالات
السؤال الأول ما معنى قوله وَحِجْراً مَّحْجُوراً الجواب هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له حجراً محجوراً كما قال لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 20 ) أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة فانتفاء البغي ( ثمة ) كالتعوذ وههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات

السؤال الثاني لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى ههنا لا يقال هذا مدفوع من وجهين الأول أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون الثاني لعله جعل في البحار موضعاً يكون أحد جانبيه عذباً والآخر ملحاً لأنا نقول أما الأول فضعيف لأن هذه الأودية ليس فيها ملح والبحار ليس فيها ماء عذب فلم يحصل ألبتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوماً فأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال لأنا نقول المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن الأجاج البحار الكبار وجعل بينهما برزخاً أي حائلاً من الأرض ووجه الاستدلال ههنا بين لأن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة معينة
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً
واعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد وفيه بحثان
الأول ذكروا في هذا الماء قولين أحدهما أنه الماء الذي خلق منه أصول الحيوان وهو الذي عناه بقوله وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء ( النور 45 ) والثاني أن المراد النطفة لقوله خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 6 ) مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 )
البحث الثاني المعنى أنه تعالى قسم البشر قسمين ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم فيقال فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر أي إناثاً ( يصاهرن ) ونحوه قوله تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( القيامة 39 ) وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر والأنثى
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً
واعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم في عبادة الأوثان وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قيل المراد بالكافر أبو جهل لأن الآية نزلت فيه والأولى حمله على العموم لأن

خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ ولأنه أوفق بظاهر قوله وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
المسألة الثانية ذكروا في الظهير وجوهاً أحدها أن الظهير بمعنى المظاهر كالعوين بمعنى المعاون وفعيل بمعنى مفاعل غير ( غريب ) والمعنى أن الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاوناً للشيطان على ربه بالعداوة قلنا إنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) وثانيها يجوز أن يريد بالظهير الجماعة كقوله وَالْمَلَئِكَة ُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ ( التحريم 4 ) كما جاء الصديق والخليط وعلى هذا التفسير يكون المراد بالكافر الجنس وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور ( دين ) الله تعالى قال تعالى وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ( الأعراف 202 ) وثالثها قال أبو مسلم الأصفهاني الظهير من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا نبذها وراء ظهره وهو من قوله تعالى وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً ( هود 92 ) ويقال فيمن يستهين بالشيء نبذه وراء ظهره وقياس العربية أن يقال مظهور أي مستخف به متروك وراء الظهر فقيل فيه ظهير في معنى مظهور ومعناه هين على الله أن يكفر الكافر وهو تعالى مستهين بكفره
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا فتعلق ذلك بما تقدم هو أن الكفار يطلبون العون على الله تعالى وعلى رسوله والله تعالى بعث رسوله لنفعهم لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية فيستحقوا الثواب ويحترزوا عن العقاب فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرغ جهده في إصلاح مهماته ديناً ودنيا ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجراً
أما قوله إِلاَّ مَن شَاء فذكروا فيه وجوهاً متقاربة أحدها لا يسألهم على الأداء والدعاء أجراً إلا أن يشاءوا أن يتقربوا بالإنفاق في الجهاد وغيره فيتخذوا به سبيلاً إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه وثانيها قال القاضي معناه لا أسألكم عليه أجراً لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) مثال قوله إِلاَّ مَن شَاء والمراد إلا فعل من شاء واستثناؤه عن الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه فأفاد فائدتين إحداهما قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله كأنه يقول لك إن كان حفظك لمالك ثواباً فإني أطلب الثواب والثانية إظهار الشفقة البالغة وأن حفظك لمالك يجري مجرى الثواب العظيم الذي توصله إلي ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة وقيل المراد التقرب بالصدقة والنفقة في سبيل الله
أما قوله وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ فالمعنى أنه سبحانه لما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه فأمره بأن لا يطلب منهم أجراً ألبتة أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار وفي جلب جميع المنافع وإنما قال عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ لأن من توكل على الحي الذي يموت فإذا مات المتوكل عليه صار المتوكل ضائعاً أما هو سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا يضيع المتوكل عليه ألبتة
أما قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ فمنهم من حمله على نفس التسبيح بالقول ومنهم من حمله على الصلاة ومنهم من حمله على التنزيه لله تعالى عما لا يليق به في توحيده وعدله وهذا هو الظاهر ثم قال وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً

وهذه كلمة يراد بها المبالغة يقال كفى بالعلم جمالاً وكفى بالأدب مالاً وهو بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم وذلك وعيد شديد كأنه قال إن أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة
الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً
اعلم أنه سبحانه لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور أولها بأنه حي لا يموت وهو قوله وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ ( الفرقان 58 ) وثانيها أنه عالم بجميع المعلومات وهو قوله وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ( الفرقان 58 ) وثالثها أنه قادر على كل الممكنات وهو المراد من قوله الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فقوله الَّذِى خَلَقَ متصل بقوله الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ لأنه سبحانه لما كان هو الخالق للسموات والأرضين ولكل ما بينهما ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضار وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه وفي الآية سؤالات
السؤال الأول الأيام عبارة عن حركات الشمس في السموات فقبل السموات لا أيام فكيف قال الله خلقها في ستة أيام الجواب يعني في مدة مقدارها هذه المدة لا يقال الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان لأنا نقول هذا معارض بنفس الزمان لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل خمسة أيام والمدة المتوهمة التي تحتمل خمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى فلما لم يلزم هذا لم يلزم ما قلتموه وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام ومن الناس من قال في ستة أيام من أيام الآخرة وكل يوم ألف سنة وهو بعيد لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول
السؤال الثاني لم قدر الخلق والإيجاد بهذا التقدير الجواب أما على قولنا فالمشيئة والقدرة كافية في التخصيص قالت المعتزلة بل لا بد من داعي حكمة وهو أن تخصيص خلق العالم بهذا المقدار أصلح للمكلفين وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لتخصيص زمان معين وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ويلزم التسلسل والثاني أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح

واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة فإنه بحر لا ساحل له من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر وحملة العرش بالثمانية وشهور السنة باثني عشر والسموات السبع وكذا الأرض وكذا القول في عدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات وكذا مقادير الحدود والكفارات فالإقرار بأن كل ما قاله الله تعالى حق هو الدين وترك البحث عن هذه الأشياء هو الواجب وقد نص عليه تعالى في قوله وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ثم قال وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) وهذا هو الجواب أيضاً في أنه لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك وعن سعيد بن جبير أنه إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت قيل تم خلقها يوم الجمعة فجعلها الله تعالى عيداً للمسلمين
السؤال الثالث ما معنى قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ولا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة لأن الاستيلاء والقدرة في أوصاف الله لم تزل ولا يصح دخول ( ثم ) فيه والجواب الاستقرار غير جائز لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث ويقتضي التركيب والبعضية وكل ذلك على الله محال بل المراد ثم خلق العرش ورفعه وهو مستول كقوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ ( محمد 31 ) فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون فإن قيل فعلى هذا التفسير يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) قلنا كلمة ( ثم ) ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات
السؤال الرابع كيف إعراب قوله الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً الجواب الَّذِى خَلَقَ مبتدأ و الرَّحْمَنُ خبره أو هو صفة للحي والرحمن خبر مبتدأ محذوف ولهذا أجاز الزجاج وغيره أن يكون الوقف على قوله عَلَى الْعَرْشِ ثم يبتدىء بالرحمن أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له ويجوز أن يكون الرحمن مبتدأ وخبره قوله فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً
السؤال الخامس ما معنى قوله فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً الجواب ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال الكلبي معناه فاسأل خبيراً به وقوله بِهِ يعود إلى ما ذكرنا من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش والباء من صلة الخبير وذلك الخبير هو الله عز وجل لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق الله السموات والأرض فلا يعلمها أحد إلا الله تعالى وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبريل عليه السلام وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وثانيها قال الزجاج قوله بِهِ معناه عنه والمعنى فاسأل عنه خبيراً وهو قول الأخفش ونظيره قوله سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( المعارج 1 ) وقال علقمة بن عبدة فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
وثالثها قال ابن جرير الباء في قوله بِهِ صلة والمعنى فسله خبيراً وخبيراً نصب على الحال ورابعها أن قوله بِهِ يجري مجرى القسم كقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ ( النساء 1 )
أما قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ فهو خبر عن قوم قالوا هذا القول

ويحتمل أنهم جهلوا الله تعالى ويحتمل أنهم إن عرفوه لكنهم جحدوه ويحتمل أنهم وإن اعترفوا به لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى وكثير من المفسرين على هذا القول الأخير قالوا الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه قال مقاتل إن أبا جهل قال إن الذي يقوله محمد شعر فقال عليه السلام الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن فقال أبو جهل بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك فقال عليه السلام ( الرحمن الذي هو إله السماء ومن عنده يأتيني الوحي ) فقال يا آل غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول الله يعلمني والرحمن ألستم تعلمون أنهما إلهان ثم قال ربكم الله الذي خلق هذه الأشياء أما الرحمن فهو مسيلمة قال القاضي والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام ثم إن قلنا بأنهم كانوا منكرين لله كان قولهم وَمَا الرَّحْمَنُ سؤال طالب عن الحقيقة وهو يجري مجرى قول فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) وإن قلنا بأنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم وَمَا الرَّحْمَنُ سؤالاً عن الاسم
أما قوله أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا فالمعنى للذي تأمرنا بسجوده على قوله أمرتك بالخير أو لأمرك لنا وقرىء يأمرنا بالياء كأن بعضهم قال لبعض أنسجد لما يأمرنا محمد أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو وزادهم أمره نفوراً ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول قال الضحاك فسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي عثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين فهذا هو المراد من قوله تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفوراً
تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
اعلم أنه سبحانه لما حكى عن الكفار مزيد النفرة عن السجود ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعباد للرحمن فقال تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً أما تبارك فقد تقدم القول فيه وأما البروج فهي منازل السيارات وهي مشهورة سميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البروج من التبرج لظهوره وفيه قول آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن البروج هي الكواكب العظام والأول أولى لقوله تعالى وَجَعَلَ فِيهَا أي في البروج فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله فِيهَا راجعاً إلى السماء دون البروج قلنا لأن البروج أقرب فعود الضمير إليها أولى والسراج الشمس لقوله تعالى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( نوح 16 ) وقرىء سرجاً وهي الشمس والكواكب الكبار فيها وقرأ الحسن والأعمش سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وهي جمع ليلة قمراء كأنه قيل وذا قمراً منيراً لأن الليالي تكون قمراء بالقمر فأضافه إليها ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب وأما

الخلفة ففيها قولان الأول أنها عبارة عن كون الشيئين بحيث أحدهما يخلف الآخر ويأتي خلفه يقال بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيراً إلى متبرزه والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه فمن فرط في عمل في أحدهما قضاه في الآخر قال أنس بن مالك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر بن الخطاب وقد فاتته قراءة القرآن بالليل ( يا ابن الخطاب لقد أنزل الله فيك آية وتلا وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ما فاتك من النوافل بالليل فاقضه في نهارك وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك ) القول الثاني وهو قول مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان فقوله خِلْفَة ً أي مختلفين وهذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير والقول الأول أقرب
أما قوله تعالى أَن يَذَّكَّرَ فقراءة العامة بالتشديد وقراءة حمزة بالتخفيف وعن أبي بن كعب ( يتذكر ) والمعنى لينظر الناظر في اختلافهما فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال ( وتغيرهما ) من ناقل ومغير وقوله أَن يَذَّكَّرَ راجع إلى كل ما تقدم من النعم بين تعالى أن الذين قالوا وما الرحمن لو تفكروا في هذه النعم وتذكروها لاستدلوا بذلك على عظيم قدرته ولشكر الشاكرين على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( القصص 73 ) أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته في أحدهما ورد من العبادة قام به في الآخر والشكور مصدر شكر يشكر شكوراً
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً
اعلم أن قوله وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة ويجوز أن يكون خبره الَّذِينَ يَمْشُونَ واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوفات وقرىء وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرىء يَمْشُونَ هَوْناً حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشياً هيناً إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة

والهون الرفق واللين ومنه الحديث ( أحبب حبيبك هوناً ما ) وقوله ( المؤمنون هينون لينون ) والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع ولا يضربون بأقدامهم ( ولا يخفقون بنعالهم ) أشراً وبطراً ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 ) وعن زيد بن أسلم التمست تفسير هَوْناً فلم أجد فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علواً في الأرض
الصفة الثانية قوله تعالى وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليماً فأقيم السلام مقام التسليم ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل قال الأصم قَالُواْ سَلاَماً أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم لأبيه سَلَامٌ عَلَيْكَ ( مريم 47 ) ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع
الصفة الثالثة قوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين أحدهما ترك الإيذاء وهو المراد من قوله يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً والآخر تحمل التأذي وهو المراد من قوله وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ( السجدة 16 ) ثم قال الزجاج كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقاً ومعنى يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ أن يكونوا في لياليهم مصلين ثم اختلفوا فقال بعضهم من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء الأخيرة والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائماً ويبيت قائماً قال الحسن يبيتون لله على أقدمهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم
الصفة الرابعة قوله وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً قال ابن عباس رضي الله عنهما يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول وقال الحسن خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرقاً من عذاب جهنم وقوله غَرَاماً أي هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ويقال فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الغرام فقال هو الموجع وعن محمد بن كعب في غَرَاماً أنه سأل الكفار ثمن نعمه فما أدوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار واعلم أنه تعالى وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم كقوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ( المؤمنون 60 )
أما قوله تعالى إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً فقوله سَاءتْ في حكم بئست وفيها ضمير مبهم تفسيره ( مستقراً ) والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي ( وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبراً لها ويجوز أن يكون ساءت بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم إن ) ومستقراً حال أو تمييز فإن قيل دلت الآية على أنهم سألوا الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين إحداهما أن عذابها كان غراماً

وثانيهما أنها ساءت مستقراً ومقاماً فما الفرق بين الوجهين وأيضاً فما الفرق بين المستقر والمقام قلنا المتكلمون ذكروا أن عقاب الكافر يجب أن يكون مضرة خالصة عن شوائب النفع دائمة فقوله إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إشارة إلى كونه مضرة خالصة عن شوائب النفع وقوله إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً إشارة إلى كونها دائمة ولا شك في المغايرة أما الفرق بين المستقر والمقام فيحتمل أن يكون المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون في النار ولا يقيمون فيها وأم الإقامة فللكفار واعلم أن قوله إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً يمكن أن يكون من كلام الله تعالى ويمكن أن يكون حكاية لقولهم
الصفة الخامسة قوله وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً قرىء يَقْتُرُواْ بكسر التاء وضمها ويقتروا بضم الياء وتخفيف القاف وكسر التاء وأيضاً بضم الباء وفتح القاف وكسر التاء وتشديدها وكلها لغات والقتر والإقتار والتقتير التضييق الذي هو نقيض الإسراف والإسراف مجاوزة الحد في النفقة وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً أحدها وهو الأقوى أنه تعالى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير وبمثله أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) وعن وهيب بن الورد قال لعالم ما البناء الذي لا سرف فيه قال ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر فقال له فما الطعام الذي لا سرف فيه قال ما سد الجوعة فقال له في اللباس قال ما ستر عورتك ووقاك من البرد وروي أن رجلاً صنع طعاماً في إملاك فأرسل إلى الرسول عليه السلام فقال ( حق فأجيبوا ) ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال ( حق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد ) ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال ( رياء ولا خير فيه ) وثانيها وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك أن الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى والإقتار منع حق الله تعالى قال مجاهد لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً وقال الحسن لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي وذلك قد يكون في الإمساك عن حق الله وهو أقبح التقتير وقد يكون عما لا يجب ولكن يكون مندوباً مثل الرجل الغني الكثير المال إذا منع الفقراء من أقاربه وثالثها المراد بالسرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال فإن ذلك مكروه لأنه يؤدي إلى الخيلاء والإقتار هو التضييق فالأكل فوق الشبع بحيث يمنع النفس عن العبادة سرف وإن أكل بقدر الحاجة فذاك إقتار وهذه الصفة صفة أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعهم ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد وههنا مسألتان
المسألة الأولى القوام قال ثعلب القوام بالفتح العدل والاستقامة وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر قال صاحب ( الكشاف ) القوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء وقرىء قَوَاماً بالكسر وهو ما يقام به الشيء يقال أنت قوامنا يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنه ولا ينقص
المسألة الثانية المنصوبان أعني بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً جائز أن يكونا خبرين معاً وأن يجعل بين ذلك لغواً وقواماً مستقراً وأن يكون الظرف خبراً وقواماً حالاً مؤكدة قال الفراء وإن شئت جعلت بَيْنَ ذالِكَ اسم

كان كما تقول كان دون هذا كافياً تريد أقل من ذلك فيكون معنى بَيْنَ ذالِكَ أي كان الوسط من ذلك قواماً أي عدلاً وهذا التأويل ضعيف لأن القوام هو الوسط فيصير التأويل وكان الوسط وسطاً وهذا لغو
الصفة السادسة
وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن من صفة عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل الزنا ثم ذكر بعد ذلك حكم من يفعل هذه الأشياء من العقاب ثم استثنى من جملتهم التائب وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى قبل ذكر هذه الصفة نزه عباد الرحمن عن الأمور الخفيفة فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا أليس أنه لو كان الترتيب بالعكس منه كان أولى الجواب أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمسكاً بالشرك تديناً ومقدماً على قتل الموءودة تديناً وعلى الزنا تديناً فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يضاف إلى ذلك كونه مجانباً لهذه الكبائر وأجاب الحسن رحمه الله من وجه آخر فقال المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر وأنت تدعون وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وأنتم تقتلون الموءودة وَلاَ يَزْنُونَ وأنتم تزنون
السؤال الثاني ما معنى قوله وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ومعلوم أنه من يحل قتله لا يدخل في النفس المحرمة فكيف يصح هذا الاستثناء الجواب المقتضى لحرمة القتل قائم أبداً وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله حَرَّمَ اللَّهُ إشارة إلى المقتضى وقوله إِلاَّ بِالْحَقّ إشارة إلى المعارض
السؤال الثالث بأي سبب يحل القتل الجواب بالردة وبالزنا بعد الإحصان وبالقتل قوداً على ما في الحديث وقيل وبالمحاربة وبالبينة وإن لم يكن لما شهدت به حقيقة

السؤال الرابع منهم من فسر قوله وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ بالردة فهل يصح ذلك الجواب لفظ القتل عام فيتناول الكل وعن ابن مسعود ( قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك ) فأنزل الله تصديقه
السؤال الخامس ما الأثام الجواب فيه وجوه أحدها أن الأثام جزاء الإثم بوزن الوبال والنكال وثانيها وهو قول أبي مسلم أن الأثام والإثم واحد والمراد ههنا جزاء الأثام فأطلق اسم الشيء على جزائه وثالثها قال الحسن الأثام اسم من أسماء جهنم وقال مجاهد أَثَاماً واد في جهنم ( وقرأ ابن مسعود أَثَاماً أي شديداً يقال يوم ذو أثام لليوم العصيب )
أما قوله يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ففيه مسائل
المسألة الأولى يُضَاعِفُ بدل من يَلْقَ لأنهما في معنى واحد وقرىء ( يضعف ) و ( نضعف له العذاب ) بالنون ونصب العذاب وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على الحال وكذلك ( يخلد ) ( وقرىء ) ( ويخلد ) على البناء للمفعول مخففاً ومثقلاً من الإخلاد والتخليد وقرىء ( وتخلد ) بالتاء على الالتفات
المسألة الثانية سبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعاً فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع
المسألة الثالثة قال القاضي بين الله تعالى أن المضاعفة والزيادة يكون حالهما في الدوام كحال الأصل فقوله وَيَخْلُدْ فِيهِ أي ويخلد في ذلك التضعيف ثم إن ذلك التضعيف إنما حصل بسبب العقاب على المعاصي فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائماً وإذا كان كذلك وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع غيره أو منفرداً والجواب لم لا يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع غيره أثر في مزيد القبح ألا ترى أن الشيئين قد يكون كل واحد منهما في نفسه حسناً وإن كان الجمع بينهما قبيحاً وقد يكون كل واحد منهما قبيحاً ويكون الجمع بينهما أقبح فكذا ههنا
المسألة الرابعة قوله وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إشارة إلى ما ثبت أن العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإذلال والإهانة كما أن الثواب هو المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم
أما قوله تعالى إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ففيه مسائل
المسألة الأولى دلت الآية على أن التوبة مقبولة والاستثناء لا يدل على ذلك لأنه أثبت أنه يضاعف له العذاب ضعفين فيكفي لصحة هذا الاستثناء أن لا يضاعف للتائب العذاب ضعفين وإنما الدال عليه قوله فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
المسألة الثانية نقل عن ابن عباس أنه قال توبة القاتل غير مقبولة وزعم أن هذه الآية منسوخة بقوله

تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً ( النساء 93 ) وقالوا نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة النساء
المسألة الثالثة فإن قيل العمل الصالح يدخل فيه التوبة والإيمان فكان ذكرهما قبل ذكر العمل الصالح حشواً قلنا أفردهما بالذكر لعلو شأنهما ولما كان لا بد معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما العمل الصالح
المسألة الرابعة اختلفوا في المراد بقوله فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ على وجوه أحدها قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة إن التبديل إنما يكون في الدنيا فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا عفة وإحصاناً فكأنه تعالى يبشرهم بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب وثانيها قال الزجاج السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن التأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات وثالثها قال قوم إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية وهذا قول سعيد بن المسيب ومكحول ويحتجون بما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل من هم يا رسول الله قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات ) وعلى هذا التبديل في الآخرة ورابعها قال القفال والقاضي أنه تعالى يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما وإذا حمل على ذلك كانت الإضافة إلى الله حقيقة لأن الإثابة لا تكون إلا من الله تعالى
أما قوله تعالى وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً ففيه سؤالان
السؤال الأول ما فائدة هذا التكرير الجواب من وجهين الأول أن هذا ليس بتكرير لأن الأول لما كان في تلك الخصال بين تعالى أن جميع الذنوب بمنزلتها في صحة التوبة منها الثاني أن التوبة الأولى رجوع عن الشرك والمعاصي والتوبة الثانية رجوع إلى الله تعالى للجزاء والمكافأة كقوله تعالى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ( الرعد 30 ) أي مرجعي
السؤال الثاني هل تكون التوبة إلا إلى الله تعالى فما فائدة قوله فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً الجواب من وجوه الأول ما تقدم من أن التوبة الأولى الرجوع عن المعصية والثانية الرجوع إلى حكم الله تعالى وثوابه الثاني معناه أن من تاب إلى الله فقد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب محصلة للثواب العظيم الثالث قوله وَمَن تَابَ يرجع إلى الماضي فإنه سبحانه ذكر أن من أتى بهذه التوبة في الماضي على سبيل الإخلاص فقد وعده بأنه سيوفقه للتوبة في المستقبل وهذا من أعظم البشارات
الصفة السابعة
وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً
فيه مسائل
المسألة الأولى الزور يحتمل إقامة الشهادة الباطلة ويكون المعنى أنهم لا يشهدون شهادة الزور

فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ويحتمل حضور مواضع الكذب كقوله تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام 68 ) ويحتمل حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي ويدخل فيه أعياد المشركين ومجامع الفساق لأن من خالط أهل الشر ونظر إلى أفعالهم وحضر مجامعهم فقد شاركهم في تلك المعصية لأن الحضور والنظر دليل الرضا به بل هو سبب لوجوده والزيادة فيه لأن الذي حملهم على فعله استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه وقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد مجالس الزور التي يقولون فيها الزور على الله تعالى وعلى رسوله وقال محمد بن الحنفية الزور الغناء واعلم أن كل هذه الوجوه محتملة ولكن استعماله في الكذب أكثر
المسألة الثانية الأصح أن اللغو كل ما يجب أن يلغى ويترك ومنهم من فسر اللغو بكل ما ليس بطاعة وهو ضعيف لأن المباحات لا تعد لغواً فقوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ أي بأهل اللغو
المسألة الثالثة لا شبهة فى أن قوله مَرُّواْ كِراماً معناه أنهم يكرمون أنفسهم عن مثل حال اللغو وإكرامهم لها لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة والمساعدة ويدخل فيه الشرك واللغو في القرآن وشتم الرسول والخوض فيما لا ينبغي وأصل الكلمة من قولهم ناقة كريمة إذا كانت تعرض عند الحلب تكرماً كأنها لا تبالي بما يحلب منها للغزارة فاستعير ذلك للصفح عن الذنب وقال الليث يقال تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه ونظير هذه الآية قوله وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) وعن الحسن لم تسفههم المعاصي وقيل إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وقيل إذا ذكر النكاح كنوا عنه
الصفة الثامنة
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً
قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ليس بنفي للخرور وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى كما يقال لا يلقاني زيد مسلماً هو نفي للسلام لا للقاء والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصاً على استماعها وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان حيث لا ( يفهمونها ولا يبصرون ) ما فيها كالمنافقين

الصفة التاسعة
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّة َ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم ذرياتنا بألف الجمع وحذفها الباقون على التوحيد والذرية تكون واحداً وجمعاً
المسألة الثانية أنه لا شبهة أن المراد أن يكون قرة أعين لهم في الدين لا في الأمور الدنيوية من المال والجمال ثم ذكروا فيه وجهان أحدهما أنهم سألوا أزواجاً وذرية في الدنيا يشاركونهم فأحبوا أن يكونوا معهم في التمسك بطاعة الله فيقوى طمعهم في أن يحصلوا معهم في الجنة فيتكامل سرورهم في الدنيا بهذا الطمع وفي الآخرة عند حصول الثواب والثاني أنهم سألوا أن يلحق الله أزواجهم وذريتهم بهم في الجنة ليتم سرورهم بهم
المسألة الثالثة فإن قيل ( من ) في قوله لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا ما هي قلنا يحتمل أن تكون بيانية كأنه قيل هب لنا قرة أعين ثم بينت القرة وفسرت بقوله مِنْ أَزْواجِنَا وهو من قولهم رأيت منك أسداً أي أنت أسد وأن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وصلاح فإن قيل لم قال قُرَّة ِ أَعْيُنٍ فنكر وقلل قلنا أما التنكير فلأجل تنكير القرة لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه كأنه قال هب لنا منهم سروراً وفرحاً وإنما قال ( أعين ) دون عيون لأنه أراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قال تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 )
المسألة الرابعة قال الزجاج أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يحبه وقال المفضل في قرة العين ثلاثة أقوال أحدها يرد دمعتها وهي التي تكون مع الضحك والسرور ودمعة الحزن حارة والثاني نومها لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع والثالث حضور الرضا
المسألة الخامسة قوله وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً الأقرب أنهم سألوا الله تعالى أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم قال بعضهم في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها قال الخليل عليه الصلاة والسلام وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) وقيل نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة
المسألة السادسة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا لأن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل فدل على أن العلم والعمل إنما يكون بجعل الله تعالى وخلقه وقال القاضي المراد من السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون أئمة والجواب أن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثاً
المسألة السابعة قال الفراء قال ( إماماً ) ولم يقل أئمة كما قال للاثنين إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الزخرف 46 ) ويجوز أن يكون المعنى اجعل كل واحد منا إماماً كما قال يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) وقال الأخفش الإمام جمع واحده آم كصائم وصيام وقال القفال وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل اجعلنا حجة للمتقين ومثله البينة يقال هؤلاء بينة فلان واعلم أنه سبحانه وتعالى لما عدد صفات

المتقين المخلصين بين بعد ذلك أنواع إحسانه إليهم وهي مجموعة في أمرين المنافع والتعظيم
أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَة َ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة ً وَسَلَاماً
أما المنافع فهي قوله
والمراد أولئك يجزون الغرفات والدليل عليه قوله وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامِنُونَ ( سبأ 37 ) وقال لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ ( الزمر 20 ) والغرفة في اللغة العلية وكل بناء عال فهو غرفة والمراد به الدرجات العالية وقال المفسرون الغرفة اسم الجنة فالمعنى يجزون الجنة وهي جنات كثيرة وقرأ بعضهم ( أولئك يجزون في الغرفة ) وقوله بِمَا صَبَرُواْ فيه بحثان
البحث الأول احتج بالآية من ذهب إلى أن الجنة بالاستحقاق فقال الباء في قوله بِمَا صَبَرُواْ تدل على ذلك ولو كان حصولها بالوعد لما صدق ذلك
البحث الثاني ذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه ليعم كل نوع فيدخل فيه صبرهم على مشاق التفكر والاستدلال في معرفة الله تعالى وعلى مشاق الطاعات وعلى مشاق ترك الشهوات وعلى مشاق أذى المشركين وعلى مشاق الجهاد والفقر ورياضة النفس فلا وجه لقول من يقول المراد الصبر على الفقر خاصة لأن هذه الصفات إذا حصلت مع الغنى استحق من يختص بها الجنة كما يستحقه بالفقر
وثانيهما التعظيم وهو قوله تعالى
( ويلقون فيها تحية وسلاماً )
قرىء يُلْقُون كقوله وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً ( الأنسان 11 ) و يُلْقُون كقوله يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) والتحية الدعاء بالتعمير والسلام الدعاء بالسلامة فيرجع حاصل التحية إلى كون نعيم الجنة باقياً غير منقطع ويرجع السلام إلى كون ذلك النعيم خالصاً عن شوائب الضرر ثم هذه التحية والسلام يمكن أن يكون من الله تعالى لقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) ويمكن أن يكون من بعضهم على بعض أماقوله
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
فالمراد أنه سبحانه لما وعد بالمنافع أولاً وبالتعظيم ثانياً بين أن من صفتهما الدوام وهو المراد من قوله خَالِدِينَ فِيهَا ومن صفتهما الخلوص أيضاً وهو المراد من قوله حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وهذا في مقابلة قوله سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً أي ما أسوأ ذلك وما أحسن هذا أما قوله
قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
فاعلم أنه سبحانه لما شرح صفات المتقين وشرح حال ثوابهم أمر رسوله أن يقول قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فدل بذلك على أنه تعالى غني عن عبادتهم وأنه تعالى إنما كلفهم لينتفعوا بطاعتهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الخليل ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه ( يستقله ) ويستحقره وقال أبو عبيدة ما

أعبأ به أي وجوده وعدمه عندي سواء وقال الزجاج معناه أي لا وزن لكم عند ربكم والعبء في اللغة الثقل وقال أبو عمرو بن العلاء ما يبالي بكم ربي
المسألة الثانية في مَا قولان أحدهما أنها متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر كأنه قيل وأي عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم والثاني أن تكون ما نافية
المسألة الثالثة ذكروا في قوله لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ وجهين أحدهما لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة والدعاء على هذا مصدر مضاف إلى المفعول وثانيهما أن الدعاء مضاف إلى الفاعل وعلى هذا التقدير ذكروا فيه وجوهاً أحدها لولا دعاؤكم لولا إيمانكم وثانيها لولا عبادتكم وثالثها لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ ( العنكبوت 65 ) ورابعها دعاؤكم يعني لولا شكركم له على إحسانه لقوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ ( النساء 147 ) وخامسها ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم
أما قوله فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فالمعنى أني إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم وهو عقاب الآخرة ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني وقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك فإن قيل إلى من يتوجه هذا الخطاب قلنا إلى الناس على الإطلاق ومنهم ( مؤمنون ) عابدون ومكذبون عاصون فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب وقرىء ( فقد كذب الكافرون ) ( فسوف ) يكون العذاب لزاماً وقرىء لِزَاماً بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام ويتناول ما لا يحيط به الوصف ثم قيل هذا العذاب في الآخرة وقيل كان يوم بدر وهو قول مجاهد رحمه الله والله أعلم
تم تفسير هذه السورة والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين

سورة الشعراء
مكية إلا أربع آيات فإنها مدنية وهي وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إلى آخرها
وهي مايتان أو ست أو سبع وعشرون آية
طس م تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
الطاء إشارة إلى طرب قلوب العارفين والسين سرور المحبين والميم مناجاة المريدين وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ قتادة بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على الإضافة وقرىء فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا
المسألة الثانية البخع أن يبلغ بالذبح البخاع وهو الخرم النافذ في ثقب الفقرات وذلك أقصى حد الذابح ولعل للإشفاق
المسألة الثالثة قوله طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ معناه آيات هذه السورة تلك آيات الكتاب المبين وتمام تقريره ما مر في قوله تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) ولا شبهة في أن المراد بالكتاب هو القرآن والمبين وإن كان في الحقيقة هو المتكلم فقد يضاف إلى الكلام من حيث يتبين به عند النظر فيه فإن قيل القوم لما كانوا كفاراً فكيف تكون آيات القرآن مبينة لهم ما يلزمهم وإنما يتبين بذلك الأحكام قلنا ألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يمكن أن يستدل به على فاعل مخالف لهم كما يستدل بسائر ما لا يقدر العباد على مثله فهو دليل التوحيد من هذا الوجه ودليل النبوة من حيث الإعجاز ويعلم به بعد ذلك أنه إذا كان من عند الله تعالى فهو دلالة الأحكام أجمع وإذا ثبت هذا صارت آيات القرآن كافية في كل الأصول والفروع أجمع ولما ذكر الله تعالى أنه بين الأمور قل بعده لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ منبهاً بذلك على أن الكتاب وإن بلغ في البيان كل غاية فغير مدخل لهم في الإيمان لما أنه سبق حكم الله

بخلافه فلا تبالغ في الحزن والأسف على ذلك لأنك إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك أصلاً فصبره وعزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا نفع فيه كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا نفع لهم فيه ثم بين تعالى أنه قادر على أن ينزل آية يذلون عندها ويخضعون فإن قيل كيف صح مجيء خَاضِعِينَ خبراً عن الأعناق قلنا أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فذكرت الأعناق لبيان موضع الخضوع ثم ترك الكلام على أصله ولما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خَاضِعِينَ كقوله لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقيل أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال هم الرؤوس والصدور وقيل هم جماعات الناس يقال جاءنا عنق من الناس لفوج منهم
المسألة الرابعة نظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الكهف فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ وقوله فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 )
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
المسألة الأولى قوله وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ من تمام قوله إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ ( الشعراء 4 ) فنبه تعالى على أنه مع قدرته على أن يجعلهم مؤمنين بالإلجاء رحيم بهم من حيث يأتيهم حالاً بعد حال بالقرآن وهو الذكر ويكرره عليهم وهم مع ذلك على حد واحد في الإعراض والتكذيب والاستهزاء ثم عند ذلك زجر وتوعد لأن المرء إذا استمر على كفره فليس ينفع فيه إلا الزجر الشديد فلذلك قال فَقَدْ كَذَّبُواْ أي بلغوا النهاية في رد آيات الله تعالى فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا أو عند المعاينة أو في الآخرة فهو كقوله تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ وقد جرت العادة فيمن يسيء أن يقال له سترى حالك من بعد على وجه الوعيد ثم إنه تعالى بين أنه مع إنزاله القرآن حالاً بعد حال قد أظهر أدلة تحدث حالاً بعد حال فقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ والزوج هو الصنف ( من النبات ) والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه يقال وجه كريم إذا كان مرضياً في حسنه وجماله وكتاب كريم إذا كان مرضياً في فوائده ومعانيه والنبات الكريم هو المرضي فيما يتعلق به من المنافع وفي وصف الزوج بالكريم وجهان أحدهما أن النبات على نوعين نافع وضار فذكر سبحانه كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وترك ذكر الضار والثاني أنه عم جميع النبات نافعه وضاره ووصفهما جميعاً بالكرم ونبه على أنه ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة وإن غفل عنها الغافلون

أما قوله إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والمعنى أن في ذلك دلالة لمن يتفكر ويتدبر وما كان أكثرهم مؤمنين أي مع كل ذلك يستمر أكثرهم على كفرهم فأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فإنما قدم ذكر العزيز على ذكر الرحيم لأنه لو لم يقدمه لكان ربما قيل إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر ومع ذلك فإنه رحيم بعباده فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً والمراد أنهم مع كفرهم وقدرة الله على أن يعجل عقابهم لا يترك رحمتهم بما تقدم ذكره من خلق كل زوج كريم من النبات ثم من إعطاء الصحة والعقل والهداية
المسألة الثانية أنه تعالى وصف الكفار بالإعراض أولاً وبالتكذيب ثانياً وبالاستهزاء ثالثاً وهذه درجات من أخذ يترقى في الشقاوة فإنه يعرض أولاً ثم يصرح بالتكذيب والإنكار إلى حيث يستهزىء به ثالثاً
المسألة الثالثة فإن قلت ما معنى الجمع بين كم وكل ولم لم يقل كم أنبتنا فيها من زوج كريم قلت قد دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة فهذا معنى الجمع ( رتبه ) على كمال قدرته فإن قلت فحين ذكر الأزواج ودل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب فكيف قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً وهلا قال لآيات قلت فيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر أنبتنا فكأنه قال إن في ذلك الإنبات لآية أي آية والثاني أن يراد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية
المسألة الرابعة احتجت المعتزلة على خلق القرآن بقوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ فقالوا الذكر هو القرآن لقوله تعالى وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ( الأنبياء 50 ) وبين في هذه الآية أن الذكر محدث فيلزم من هاتين الآيتين أن القرآن محدث وهذا الاستدلال بقوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) وبقوله فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( المرسلات 50 ) وإذا ثبت أنه محدث فله خالق فيكون مخلوقاً لا محالة والجواب أن كل ذلك يرجع إلى هذه الألفاظ ونحن نسلم حدوثها إنما ندعي قدم أمر آخر وراء هذه الحروف وليس في الآية دلالة على ذلك
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
اختلف أهل السنة في النداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى هل هو كلامه القديم أو هو ضرب من الأصوات فقال أبو الحسن الأشعري المسموع هو الكلام القديم وكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الأشياء مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحروف والأصوات مع أنه مسموع وقال أبو منصور الماتريدي الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات وذلك لأن الدليل لما دل على أنا رأينا الجوهر والعرض ولا بد من علة مشتركة بينهما لصحة الرؤية ولا علة إلا الوجود حكمنا بأن كل موجود يصح أن يرى ولم يثبت عندنا أنا نسمع الأصوات والأجسام حتى يحكم بأنه لا بد من مشترك بين الجسم والصوت فلم يلزم صحة كون كل موجود مسموعاً

فظهر الفرق أما المعتزلة فقد اتفقوا على أن ذلك المسموع ما كان إلا حروفاً وأصواتاً فعند هذا قالوا إن ذلك النداء وقع على وجه علم به موسى عليه السلام أنه من قبل الله تعالى فصار معجزاً علم به أن الله مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة وكفى في الوقت أن يحمله الرسالة التي هي أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأن في بدء البعثة يجب أن يأمره بالدعاء إلى التوحيد ثم بعده يأمره بالأحكام ولا يجوز أن يأمره تعالى بذلك إلا وقد عرفه أنه ستظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك
أما قوله تعالى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فالمعنى أنه تعالى سجل عليهم بالظلم وقد استحقوا هذا الاسم من وجهين من وجه ظلمهم أنفسهم بكفرهم ومن وجه ظلمهم لبني إسرائيل
أما قوله قَوْمِ فِرْعَونَ فقد عطف ( قوم فرعون ) على ( القوم الظالمين ) عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون لفظان يدلان على معنى واحد
وأما قوله أَلا يَتَّقُونَ فقرىء ( ألا يتقون ) بكسر النون بمعنى ألا يتقونني فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة وقوله أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهم ( التي شفت ) في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم ( وحذرهم من أيام الله ) ( 1 ) ويحتمل أن يكون أَلا يَتَّقُونَ حالاً من الضمير في ( الظالمين ) أي يظلمون غير متقين الله وعقابه فأدخلت همزة الإنكار على الحال ووجه ثالث وهو أن يكون المعنى ألا يا ناس اتقون كقوله ( ألا يسجدوا ) وأما من قرأ ( ألا تتقون ) على الخطاب فعلى طريقة الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم كما يرى من يشكو ممن ركب جناية والجاني حاضر فإذا اندفع في الشكاية وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه به ويقول له ألا تتقي الله ألا تستحي من الناس فإن قلت فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى عليه السلام في وقت المناجاة والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون قلت إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم لأنه ( مبلغهم ) ( 2 ) ومنهيه إليهم وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى وكم من آية نزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبراً لها واعتباراً بمواردها
قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى قوم فرعون طلب موسى عليه السلام أن يبعث معه هرون إليهم ثم ذكر الأمور الداعلية له إلى ذلك السؤال وحاصلها أنه لو لم يكن هرون لاختلت المصلحة المطلوبة من بعثة موسى عليه السلام وذلك من وجهين الأول أن فرعون ربما كذبه والتكذيب سبب لضيق القلب وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة لأن

عند ضيق القلب تنقبض الروح والحرارة الغريزية إلى باطن القلب وإذا انقبضا إلى الداخل وخلا منهما الخارج ازدادت الحبسة في اللسان فالتأذي من التكذيب سبب لضيق القلب وضيق القلب سبب للحبسة فلهذا السبب بدأ بخوف التكذيب ثم ثنى بضيق الصدر ثم ثلث بعدم انطلاق اللسان وأما هرون فهو أفصح لساناً مني وليس في حقه هذا المعنى فكان إرساله لائقاً الثاني أن لهم عندي ذنباً فأخاف أن يبادروا إلى قتلي وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة وأما هرون فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة
المسألة الثانية قرىء ( يضيق ) و ( ينطلق ) بالرفع لأنهما معطوفان على خبر ( إن ) وبالنصب لعطفهما على صلة أن والمعنى أخاف أن يكذبون وأخاف أن يضيق صدري وأخاف أن لا ينطلق لساني والفرق أن الرفع يفيد ثلاث علل في طلب إرسال هرون والنصب يفيد علة واحدة وهي الخوف من هذه الأمور الثلاثة فإن قلت الخوف غم يحصل لتوقع مكروه سيقع وعدم انطلاق اللسان كان حاصلاً فكيف جاز تعلق الخوف به قلت قد بينا أن التكذيب الذي سيقع يوجب ضيق القلب وضيق القلب يوجب زيادة الاحتباس فتلك الزيادة ما كانت حاصلة في الحال بل كانت متوقعة فجاز تعليق الخوف عليها
أما قوله تعالى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ فليس في الظاهر ذكر من الذي يرسل إليه وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام إليه قال السدي إن موسى عليه السلام سار بأهله إلى مصر والتقى بهرون وهو لا يعرفه فقال أنا موسى فتعارفا وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة فصاحت أمهما لخوفهما عليهما فذهبا إليه ويحتمل أن يكون المراد أرسل إليه جبريل لأن رسول الله إلى الأنبياء جبريل عليه السلام فلما كان هو متعيناً لهذا الأمر حذف ذكره لكونه معلوماً وأيضاً ليس في الظاهر أنه يرسل لماذا لكن فحوى الكلام يدل على أنه طلبه للمعونة فيما سأل كما يقال إذا نابتك نائبة فأرسل إلى فلان أي ليعينك فيها وليس في الظاهر أنه التمس كون هرون نبياً معه لكن قوله فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ يدل عليه
أما قوله وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ فأراد بالذنب قتله القبطي وقد ذكر الله تعالى هذه القصة مشروحة في سورة القصص
واعلم أنه ليس في التماس موسى عليه السلام أن يضم إليه هرون ما يدل على أنه استعفى من الذهاب إلى فرعون بل مقصوده فيما سأل أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد واختلفوا فقال بعضهم إنه وإن كان نبياً فهو غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة لأنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين وهذا قول الكعبي وغيره من البغداديين لأنهم يجوزون دخول الشرط في تكليف الله تعالى العبد والذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك لا يجوز لأنه تعالى إذا أمر فهو عالم بما يتمكن منه المأمور وبأوقات تمكنه فإذا علم أنه غير متمكن منه فإنه لا يأمره به وإذا صح ذلك فالأقرب في الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه تعالى يمكنهم من أدائها وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت ومثل ذلك لا يكون إغراء في الأنبياء وإن جاز أن يكون إغراء في غيرهم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول قول موسى عليه السلام وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ هل يدل على صدور الذنب منه جوابه لا والمراد لهم عليَّ ذنب في زعمهم

قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِأايَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ
اعلم أن موسى عليه السلام طلب أمرين الأول أن يدفع عنه شرهم والثاني أن يرسل معه هرون فأجابه الله تعالى إلى الأول بقوله كَلاَّ ومعناه ارتدع يا موسى عما تظن وأجابه إلى الثاني بقوله فَاذْهَبَا أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون فإن قيل علام عطف قوله فَاذْهَبَا قلنا على الفعل الذي يدل عليه ( كلا ) كأنه قال ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهرون
وأما قوله إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فمن مجاز الكلام يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذاً أحضر وأستمع ما يجري بينكما فأظهركما عليه وأعليكما وأكسر شوكته عنكما وإنما جعلنا الاستماع مجازاً لأن الاستماع عبارة عن الإصغاء وذلك على الله تعالى محال
وأما قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ففيه سؤال وهو أنه هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ جوابه من وجوه أحدها أن الرسول اسم للماهية من غير بيان أن تلك الماهية واحدة أو كثيرة والألف واللام لا يفيدان إلا الوحدة لا الاستغراق بدليل أنك تقول الإنسان هو الضحاك ولا تقول كل إنسان هو الضحاك ولا أيضاً هذا الإنسان هو الضحاك وإذا ثبت أن لفظ الرسول لا يفيد إلا الماهية وثبت أن الماهية محمولة على الواحد وعلى الاثنين ثبت صحة قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ وثانيها أن الرسول قد يكون بمعنى الرسالة قال الشاعر لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
بسر ولا أرسلتهم برسول
فيكون المعنى إنا ذو رسالة رب العالمين وثالثها أنهما لاتفاقهما على شريعة واحدة واتحادهما بسبب الأخوة كأنهما رسول واحد ورابعها المراد كل واحد منا رسول وخامسها ما قاله بعضهم أنه إنما قال ذلك لا بلفظ التثنية لكونه هو الرسول خاصة وقوله أَنَاْ فكما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 ) وهو ضعيف
وأما قوله أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ فالمراد من هذا الإرسال التخلية والإطلاق كقولك أرسل البازي يريد خلهم يذهبوا معنا
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
اعمل أن في الكلام حذفاً وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به فعند ذلك قال فرعون ما قال يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين

فقال ائذن له لعلنا نضحك منه فأديا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فعدد عليه نعمه أولاً ثم إساءة موسى إليه ثانياً أما النعم فهي قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً والوليد الصبي لقرب عهده من الولادة وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ وعن أبي عمرو بسكون الميم سِنِينَ قيل لبث عندهم ثلاثين سنة وقيل وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة وفر منهم ( على أثرها ) والله أعلم بصحيح ذلك وعن الشعبي فَعْلَتَكَ بالكسر وهي قتله القبطي لأنه قتله بالوكز وهو ضرب من القتل وأما الفعلة فلأنها ( كانت ) ( 1 ) وكزة واحدة عدد عليه نعمه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه وعظم ذلك ( وفظعه ) ( 1 ) بقوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ
وأما قوله وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ففيه وجوه أحدها يجوز أن يكون حالاً أي قتلته وأنت بذاك من الكافرين بنعمتي وثانيها وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة وقد افترى عليه أو جهل أمره لأنه كان ( يعاشرهم ) بالتقية فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة وثالثها وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ معناه وأنت ممن عادته كفران النعم ومن كان هذا حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمته ورابعها وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ بفرعون وإلهيته أو من الذين ( كانوا ) يكفرون في دينهم فقد كانت لهم آلهة يعبدونها يشهد بذلك قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ ( الأعراف 127 )
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ
اعلم أن فرعون لما دكر التربية وذكر القتل وقد كانت تربيته له معلومة ظاهرة لا جرم أن موسى عليه السلام ما أنكرها ولم يشتغل بالجواب عنها لأنه تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجز وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم يفعل ذلك فصار قول فرعون لما قاله غير مؤثر ألبتة ومثل هذا الكلام الإعراض عنه أولى ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب وهو قوله فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ والمراد بذلك الذاهلين عن معرفة ما يؤول إليه من القتل لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب ومثل ذلك ربما حسن وإن أدى إلى القتل فبين له أنه فعله على وجه لا يجوز معه أن يؤاخذ به أو يعد منه كافراً أو كافراً لنعمه فأما قوله فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فالمراد أني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً وكان مني في حكم السهو فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ومع ذلك فررت منكم عند قولكم إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ( القصص 20 ) فبين بذلك أنه لا نعمة له عليه في باب تلك الفعلة بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب من حيث خوف تخويفاً أوجب الفرار ثم بين نعمة الله تعالى عليه بعد الفرار فكأنه قال أسأتم وأحسن الله إلي بأن وهب لي حكماً وجعلني من المرسلين واختلفوا في الحكم والأقرب أنه غير النبوة لأن المعطوف غير المعطوف عليه والنبوة مفهومة من قوله وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ فالمراد بالحكم العلم ويدخل في العلم العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد وهذا أقرب لأنه لا يجوز أن يبعثه تعالى إلا مع كماله في العقل والرأي والعلم بالتوحيد وقوله فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً

كالتنصيص على أن ذلك الحكم من خلق الله تعالى وقالت المعتزلة المراد منه الألطاف وهو ضعيف جداً لأن الألطاف مفعولة في حق الكل من غير بخس ولا تقصير فالتخصيص لا بد فيه من فائدة فأما قوله وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْراءيلَ فهو جواب قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً يقال عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبداً فإن قيل كيف يكون ذلك جوابه ولا تعلق بين الأمرين قلنا بيان التعلق من وجوه أحدها أنه إنما وقع في يده وفي تربيته لأنه قصد تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم فكأنه عليه السلام قال له كنت مستغنياً عن تربيتك لو لم يكن منك ذلك الظلم المتقدم علينا وعلى أسلافنا وثانيها أن هذا الإنعام المتأخر صار معاضاً بذلك الظلم العظيم على أسلافنا وإذا تعارضا تساقطا وثالثها ما قاله الحسن إنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت علي فلا نعمة لك بالتربية ورابعها المراد أن الذي تولى تربيتي هم الذين قد استعبدتهم فلا نعمة لك علي لأن التربية كانت من قبل أمي وسائر من هو من قومي ليس لك إلا أنك ما قتلتني ومثل هذا لا يعد إنعاماً وخامسها أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في أن يطعمه ويعطيه ما يحتاج إليه
واعلم أن في الآية دلالة على أن كفر الكافر لا يبطل نعمته على من يحسن إليه ولا يبطل منته لأن موسى عليه السلام إنما أبطل ذلك بوجه آخر على ما بينا واختلف العلماء فقال بعضهم إذا كان كافراً لا يستحق الشكر على نعمه على الناس إنما يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر بإنعامه والشكر لا يوجد إلا مع التعظيم فيلزم كونه مستحقاً للإهانة وللتعظيم معاً واستحقاق الجمع بين الضدين محال وقال آخرون لا يبطل الشكر بالكفر وإنما يبطل بالكفر الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان والآية تدل على هذا القول الثاني
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) إنما جمع الضمير في مّنكُمْ و خِفْتُكُمْ مع إفراده في ثمنها و أَنْ عَبَّدتَّ لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملائه المؤتمرين بقتله بدليل قوله إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ( القصص 20 ) وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد فإن قلت تِلْكَ إشارة إلى ماذا و أَنْ عَبَّدتَّ ما محلها من الإعراب قلت ( تلك ) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وهي أَنْ عَبَّدتَّ فإن أَنْ عَبَّدتَّ عطف بيان ونظيره قوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 ) والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي وقال الزجاج ويحوز أن يكون ( أن ) في موضع نصب والمعنى إنما صارت نعمة علي لأن عبدت بني إسرائيل أي لو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَى ءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

اعلم أن فرعون لم يقل لموسى وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين يبين ذلك ما تقدم من قوله فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 ) فلا بد عند دخولهما عليه أنهما قالا ذلك فعند ذلك قال فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ثم ههنا بحثان
الأول أن فرعون يحتمل أن يقال إنه كان عارفاً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة وقد ذكر الله تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله وهو قوله قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الإسراء 102 ) فإذا قرىء بفتح التاء من عَلِمَتِ فالمراد أن فرعون علم ذلك وذلك يدل على أنه كان عارفاً بالله لكنه كان يستأكل قومه بما يظهره من إلهيته والقراءة الأخرى برفع التاء من عَلِمَتِ فهي تقتضي أن موسى عليه السلام هو الذي عرف ذلك وأيضاً فإن فرعون إن لم يكن عاقلاً لم يجز من الله تعالى بعثة الرسول إليه وإن كان عاقلاً فهو يعلم بالضرورة أنه ما كان موجوداً ولا حياً ولا عاقلاً ثم صار كذلك وبالضرورة يعلم أن كل ما كان كذلك فلا بد له من مؤثر فلا بد وأن يتولد له من هذين العلمين علم ثالث بافتقاره في تركيبه وفي حياته وعقله إلى مؤثر موجد ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود في ذواتها ومتحركة لذواتها وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث في هذا العالم أو يقال إنه كان من الفلاسفة القائلين بالعلة الموجبة لا بالفاعل المختار ثم اعتقد أنه بمنزلة الإله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك ذماتهم وزمام أمرهم ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الحلولية القائلين بأن ذات الإله يتدرع بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه لذلك الجسد بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً
البحث الثاني وهو أنه قال لموسى عليه السلام وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ واعلم أن السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة أو بشيء من أجزائها أو بأمر خارج عنها أو بما يتركب من الداخل والخارج أما تعريفها بنفسها فمحال لأن المعرف معلوم قبل المعرف فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً وهو محال وأما تعريفها بالأمور الداخلة فيها فههنا في حق واجب الوجود محال لأن التعريف بالأمور الدخلة لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركباً وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركباً لأن كل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه فهو غيره فكل مركب محتاج إلى غيره وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته وكل مركب فهو ممكن فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركباً فواجب الوجود ليس بمركب وإذا لم يكن مركباً استحال تعريفه بأجزائه ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود إلا بلوازمه وآثاره ثم إن اللوازم قد تكون خفية وقد تكون جلية ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية وأظهر آثار ذات واجب الوجود هو هذا العالم المحسوس وهو السموات

والأرض وما بينهما فقد ثبت أنه لا جواب ألبتة لقول فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ إلا ما قاله موسى عليه السلام وهو أنه رب السموات والأرض وما بينهما فأما قوله إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ فمعناه إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال إلا هذا الجواب ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق قال فرعون لمن حوله ألا تستمعون وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى يعني أنا أطلب منه الماهية وخصوصية الحقيقة وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء إنه الذي يلزمه اللازم الفلاني فهذا المذكور إما أن يكون معروفاً لمجرد كونه أمراً ما يلزمه ذلك اللازم أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزومية والأول محال لأن كونه أمراً يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفاً فلو كان المكشوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معروفاً لنفسه وهو محال والثاني محال لأن العلم بأنه أمر ما يلزمه اللازم الفلاني لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية فثبت أن التعريف بالوصف الخارجي لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه رباً للسموات والأرض وما بينهما جواباً عن قوله وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ فأجاب موسى عليه السلام بأن قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها فهي غنية عن الخالق والمؤثر ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم لم أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم ثم عدموا بعد الوجود وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته وما لم يكن واجباً لذاته استحال وجوده إلا لمؤثر فكان التعريف بهذا الأثر أظهر فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه فقال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يعني المقصود من سؤال ما طلب الماهية وخصوصية الحقيقة والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد ألبتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه فقال موسى عليه السلام رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكره موسى عليه السلام ههنا بقوله رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ فأجابه نمروذ بقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى ( البقرة 258 ) فقال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( البقرة 258 ) وهو الذي ذكره موسى عليه السلام ههنا بقوله رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وأما قوله إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فكأنه عليه السلام قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لأنك طلبت مني تعريف حقيقته

بنفس حقيقته وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فقد ثبت أن كل من كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته
واعلم أنا قد بينا في سورة الأنعام ( 18 ) في تفسير قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي هي غير معقولة للبشر وإذا كان كذلك استحال من موسى عليه السلام أن يذكر ما تعرف به تلك الحقيقة إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة فكان حاصل كلام موسى عليه السلام أن ادعاء رسالة رب العالمين تتوقف صحته على إثبات أن للعالمين رباً وإلهاً ولا تتوقف على العلم بخصوصية الرب تعالى وماهيته المعينة فكأن موسى عليه السلام يقيم الدلالة على إثبات القدر المحتاج إليه في صحة دعوى الرسالة وفرعون يطالبه ببيان الماهية وموسى عليه السلام كان يعرض عن سؤاله لعلمه بأنه لا تعلق لذلك السؤال نفياً ولا إثباتاً في هذا المطلوب فهذا تمام القول في هذا البحث والله أعلم ثم إن موسى عليه السلام لما خشن في آخر الكلام بقوله إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فعند ذلك قال فرعون لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فإنه لما عجز عن الحجاج عدل إلى التخويف فعند ذلك ذكر موسى عليه السلام كلاماً مجملاً ليعلق قلبه به فيعدل عن وعيده فقال أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ أي هل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بأمر بين في باب الدلالة على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله فعند ذلك قال فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وههنا فروع الفرع الأول الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم لأنه لو كان جسماً وله صورة لكان جواب موسى عليه السلام بذكر حقيقته ولكان كلام فرعون لازماً له لعدوله عن الجواب الحق الثاني الواجب على من يدعو غيره إلى الله تعالى أن لا يجيب عن السفاهة لأن موسى عليه السلام لما قال له فرعون إنه مجنون لم يعدل عن ذكر الدلالة وكذلك لما توعده أن يسجنه الثالث أنه يجوز للمسؤول أن يعدل في حجته من مثال إلى مثال لإيضاح الكلام ولا يدل ذلك على الانقطاع الرابع إن قيل كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول وهو قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ والمعجز لا يدل على الله تعالى كدلالة سائر ما تقدم قلنا بل يدل ما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده وعلى أنه صادق في الرسالة فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم وأجمع الخامس فإن قيل كيف قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا على التثنية والمرجوع إليه مجموع جوابه أريد ما بين الجهتين فإن قيل ذكر السموات والأرض وما بينهما قد استوعب الخلائق كلهم فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب جوابه قد عمم أولاً ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم لأن أقرب الأشياء من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد من انتقاله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته من حالة إلى حالة أخرى ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها على تقدير مستقيم في فصول السنة من أظهر الدلائل السادس فإن قيل لم قال لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ولم يقل لأسجننك مع أنه أخصر جوابه لأنه لو قال لأسجننك لا يفيد إلا صيرورته مسجوناً أما قوله لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فمعناه أني أجعلك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل السابع الواو في قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام معناه أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي جائياً بالمعجزة

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِى َ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الأعمش بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
المسألة الثانية اعلم أن قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ ( الشعراء 30 ) يدل على أن الله تعالى قبل أن ألقى العصا عرفه بأنه يصيرها ثعباناً ولولا ذلك لما قال ما قال فلما ألقى عصاه ظهر ما وعده الله به فصار ثعباناً مبيناً والمراد أنه تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات روي أنه لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون يا موسى أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها فعادت عصا فإن قيل كيف قال ههنا ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وفي آية أخرى فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ( طه 20 ) وفي آية ثالثة كَأَنَّهَا جَانٌّ ( القصص 31 ) والجان مائل إلى الصغر والثعبان مائل إلى الكبر جوابه أما الحية فهي اسم الجنس ثم إنها لكبرها صارت ثعباناً وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها فصح الكلامان ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) ويحتمل أنها كانت أولاً صغيرة كالجان ثم عظمت فصارت ثعباناً ثم إن موسى عليه السلام لما أتى بهذه الآية قال له فرعون هل غيرها قال نعم فأراه يده ثم أدخلها جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء يضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر فيها أموراً ثلاثة أحدها قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ وذلك لأن الزمان كان زمان السحرة وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج عليهم هذا القول وثانيها قوله يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ وهذا يجري مجرى التنفير عنه لئلا يقبلوا قوله والمعنى يريد أن يخرجكم من أرضكم بما يلقيه بينكم من العداوات فيفرق جمعكم ومعلوم أن مفارقة الوطن أصعب الأمور فنفرهم عنه بذلك وهذا نهاية ما يفعله المبطل في التنفير عن المحق وثالثها قوله لهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ أي فما رأيكم فيه وما الذي أعمله يظهر من نفسه أني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم ومثل هذا الكلام يوجب جذب القلوب وانصرافها عن العدو فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد وهو قوله أَرْجِهْ قرىء ( أرجئه ) و ( أرجه ) بالهمز والتخفيف وهما لغتان يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته والمعنى أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة وقيل احبسه وذلك محتمل لأنك إذا حبست الرجل عن حاجته فقد أخرته روي أن فرعون أراد قتله ولم يكن يصل إليه فقالوا له لا تفعل فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه فلا يثبت له عليك حجة ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون

السحرة ظناً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله وعارضوا قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة ليطيبوا قلبه وليسكنوا بعض قلقه قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت قوله تعالى قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ ما العامل في ( حوله ) قلت هو منصوب نصبين نصب في اللفظ ونصب في المحل والعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال
فَجُمِعَ السَّحَرَة ُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَة ُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لاّجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اليوم المعلوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة في قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَة ِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( طه 59 ) والميقات ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام
المسألة الثانية اعلم أن القوم لما أشاروا بتأخير أمره وبأن يجمع له السحرة ليظهر عند حضورهم فساد قول موسى عليه السلام رضي فرعون بما قالوه وعمي عما شاهده وحب الشيء يعمي ويصم فجمع السحرة ثم أراد أن تقع تلك المناظرة يوم عيد لهم ليكون ذلك بمحضر الخلق العظيم وكان موسى عليه السلام يطلب ذلك لتظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم وكان هذا أيضاً من لطف الله تعالى في ظهور أمر موسى عليه السلام
أما قوله وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ فالمراد أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين
وأما قوله لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ فالمراد إنا نرجو أن يكون الغلبة لهم فنتبعهم فلما جاء السحرة ابتدأوا بطلب الجزاء وهو إما المال وإما الجاه فبذل لهم ذلك وأكده بقوله وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ لأن نهاية مطلوبهم منه البذل ورفع المنزلة فبذل كلا الأمرين
قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّة ِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ

اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من أن يبدأ موسى أو يبدأوا ثم إنهم تواضعوا له فقدموه على أنفسهم وقالوا إِمَّا أَن تُلْقِى َ وَإِمَّا أَن تَكُونُ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ( طه 65 ) فلما تواضعوا له تواضع هو أيضاً لهم فقدمهم على نفسه وقال أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فإن قيل كيف جاز لموسى عليه السلام أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصي وذلك سحر وتلبيس وكفر والأمر بمثله لا يجوز الجواب لا شبهة في أن ذلك ليس بأمر لأن مراد موسى عليه السلام منهم كان أن يؤمنوا به ولا يقدموا على ما يجري مجرى المغالبة وإذا ثبت هذا وجب تأويل صيغة الأمر وفيه وجوه أحدها ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 23 ) وثانيها لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً وثالثها أن هذا ليس بأمر بل هو تهديد أي إن فعلتم ذلك أتينا بما تبطله كقول القائل لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن ثم يفوق له السهم فيقول له ارم فيكون ذلك منه تهديداً ورابعها ما ذكرنا أنهم لما تواضعوا له وقدموه على أنفسهم فهو قدمهم على نفسه على رجاء أن يصير ذلك التواضع سبباً لقبول الحق ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب وهذا تنبيه على أن اللائق بالمسلم في كل الأحوال التواضع لأن مثل موسى عليه السلام لما لم يترك التواضع مع أولئك السحرة فبأن يفعل الواحد منا أولى
أما قوله تعالى فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فروي عن ابن عباس أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق فلما حميت اشتدت حركتها فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض فهاب موسى عليه السلام ذلك فقيل له ألق ما في يمينك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم حتى أكلت الكل ثم أخد موسى عصاه فإذا هي كما كانت فلما رأت السحرة ذلك قالت لفرعون كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي وكذلك إن غلبونا ولكن هذا حق فسجدوا وآمنوا برب العالمين
واعلم أن في الآثار اختلافاً فمنهم من كثر الحبال والعصي ومنهم من توسط والله أعلم بعدد ذلك والذي يدل القرآن عليه أنها كثيرة من حيث حشروا من كل بلد ولأن الأمر بلغ عند فرعون وقومه في العظم مبلغاً يبعد أن يدخر عنه ما يمكن من جمع السحرة
وأما قوله وَقَالُواْ بِعِزَّة ِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فالمراد أنهم أظهروا ما يجري مجرى القطع على أنهم يغلبون وكل ذلك لما ظهر كان أقوى لأمر موسى عليه السلام
أما قوله فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فالمراد من قوله مَا يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم ( ويزورونه ) فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى ( بالتمويه على الناظرين أو إفكهم ) وسمى تلك الأشياء إفكاً مبالغة
أما قوله فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ فالمراد خروا سجداً لأنهم كانوا في الطبقة العالية من علم السحر

فلا جرم كانوا عالمين بمنتهى السحر فلما رأوا ذلك وشاهدوه خارجاً عن حد السحر علموا أنه ليس بسحر وما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر ثم إنهم عند ذلك لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً فإن قيل فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به جوابه هو الله تعالى بما ( حصل في قلوبهم من الدواعي الجازمة الخالية عن المعارضات ولكن الأولى ) أن لا نقدر فاعلاً لأن ألقى بمعنى خر وسقط
أما قوله رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ فهو عطف بيان لرب العالمين لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا موسى وهرون عليهما السلام إليه
قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنهم لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول الناس إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وتظاهرهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون مثل طريقهم فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى عليه السلام من وجوه أولها قوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ وهذا فيه إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على أنكم كنتم مائلين إليه وذلك يطرق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله وثانيها قوله إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ وهذا تصريح بما رمز به أولاً وغرضه منه أنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى عليه السلام وقصروا في السحر ليظهر أمر موسى عليه السلام وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل ما فعل موسى عليه السلام وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله وثالثها قوله فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وهو وعيد مطلق وتهديد شديد ورابعها قوله لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وهذا هو الوعيد المفصل وقطع اليد والرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والصلب معلوم وليس في الإهلاك أقوى من ذلك وليس في الآية أنه فعل ذلك أو لم يفعل ثم إنه أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين الأول قولهم لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ الضر والضير واحد وليس المراد أن ذلك إن وقع لم يضر وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عرفوه من دار الجزاء
واعلم أن قولهم إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ فيه نكتة شريفة وهي أنهم قد بلغوا في حب الله تعالى أنهم ما أرادوا شيئاً سوى الوصول إلى حضرته وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب وإنما مقصودهم محض الوصول إلى مرضاته والاستغراق في أنوار معرفته وهذا أعلى درجات الصديقين الجواب الثاني قولهم إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا فهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما والطمع في هذا

الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيجيء من بعد
أما قوله أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فالمراد لأن كنا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف أو يكون المراد من السحرة خاصة أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم وقرىء ( إن كنا ) بالكسر وهو من الشرط الذي يجيء به المدل ( بأمره لصحته وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين ) ونظيره قول ( القائل ) لمن يؤخر جعله إن كنت عملت لك فوفني حقي
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَاؤُلا ءِ لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَآءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبِّى سَيَهْدِينِ
قرىء أَسَرَّ بقطع الهمزة ووصلها وسر لما ظهر أمر موسى عليه السلام بما شاهدوه من الآية أمره الله تعالى بأن يخرج ببني إسرائيل لما كان في المعلوم من تدبير الله تعالى في موسى وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم ولم يأمن وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع من فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل وهم الذين آمنوا وكانوا من قوم موسى ولا شبهة أن في الكلام حذفاً وهو أنه أسرى بهم كما أمره الله تعالى ثم إن قوم موسى عليه السلام قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيداً ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر فلما سمع ذلك فرعون أرسل في المدائن حاشرين ثم إنه قوى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم ووصف قوم نفسه بصفة المدح أما وصف قوم موسى عليه السلام بالذم
فالصفة الأولى قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ والشرذمة الطائفة القليلة ومنه قولهم ثوب شراذم للذي بلي وتقطع قطعاً ذكرهم بالاسم الدال على القلة ثم جعلهم قليلاً بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً واختار جمع السلامة الذي هو للقلة ( وقد يجمع القليل على أقلة وقلل ) ويجوز أن يريد بالقلة الذلة ( والقماءة ) لا قلة العدد والمعنى أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم ثم اختلف المفسرون في عدد تلك الشرذمة فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة ولا شيخ يوفي على الستين

سوى الحشم وفرعون يقللهم لكثرة من معه وهذا الوصف قد يستعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثلثمائة ألف
الصفة الثانية قوله وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ يعني يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا واختلفوا في تلك الأفعال على وجوه أحدها ما تقدم من أمر الحلي وغيره وثانيها خروج بني إسرائيل عن عبودية فرعون واستقلالهم بأنفسهم وثالثها مخالفتهم لهم في الدين وخروجهم عليهم ورابعها ليس إلا أنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً أما الذي وصف فرعون به قومه فهو قوله وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ وفيه ثلاث قراءات ( حذرون ) و ( حاذرون ) و ( حادرون ) بالدال غير المعجمة
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهي اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث وإذا لم تكن كذلك وهي الشبهة أفادت الثبوت فمن قرأ حَاذِرُونَ ذهب إلى إنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ حَاذِرُونَ فكأنه ذهب إلى معنى إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا وأما من قرأ حادرون بالدال غير المعجمة فكأنه ذهب إلى نفي الحذر أصلاً لأن الحادر هو المشمر فأراد إنا قوم أقوياء أشداء أو أراد إنا مدججون في السلاح والغرض من هذه المعاذير أن لا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى أو خائف منهم
أما قوله تعالى حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ فالمراد إنا جعلنا في قلوبهم داعية الخروج فاستوجبت الداعية الفعل فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة
وأما قوله مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ فقال مجاهد سماها كنوزاً لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى والمقام الكريم يريد المنازل الحسنة والمجالس البهية والمعنى إنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة والمواضع التي كانوا يتنعمون فيها لنسلمها إلى بني إسرائيل أما قوله كذلك فيحتمل ثلاثة أوجه النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف لمقام كريم أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك
أما قوله فَأَتْبَعُوهُم أي فلحقوهم وقرىء ( فاتبعوهم ) مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق من أشرقت الشمس شروقاً إذا طلعت
أما قوله فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ أي رأى بعضهم بعضاً قال أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون وَقَالُواْ يأَيُّهَا مُوسَى أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا كانوا يذبحون أبناءنا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يدركوننا أي في الساعة فيقتلوننا وقرىء فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ بتشديد الدال وكسر الراء من أدرك الشيء إذا تتابع ففنى ومنه قوله تعالى بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ ( النمل 66 ) قال الحسن جهلوا علم الآخرة والمعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد فعند ذلك قال لهم كلا وذلك كالمنع مما توهموه ثم قوى نفوسهم بأمرين أحدهما إِنَّ مَعِى َ رَبّى وهذا دلالة النصرة والتكفل بالمعونة والثاني قوله سَيَهْدِينِ والهدى هو طريق النجاة والخلاص وإذا دله على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة

فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاٌّ خَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاٌّ خَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام قوله إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) بين تعالى بعده كيف هداه ونجاه وأهلك أعداءه بذلك التدبير الجامع لنعم الدين والدنيا فقال فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ولا شبهة في أن المراد فضرب فانفلق لأنه كالمعلوم من الكلام إذ لا يجوز أن ينفلق من غير ضرب ومع ذلك يأمره بالضرب لأنه كالعبث ولأنه تعالى جعله من معجزاته التي ظهرت بالعصا ولأن انفلاقه بضربه أعظم في النعمة عليه وأقوى لعلمهم أن ذلك إنما حصل لمكان موسى عليه السلام واختلفوا في البحر روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر مع بني إسرائيل أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلا يوشع بن نون فإنه ضرب دابته وخاض في البحر حتى عبر ثم رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا فقال موسى للبحر انفرق لي فقال ما أمرت بذلك ولا يعبر عن العصاة فقال موسى يا رب قد أبى البحر أن ينفرق فقيل له اضرب بعصاك البحر فضربه فانفرق فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل العظيم وصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط منهم طريق فقال كل سبط قتل أصحابنا فعند ذلك دعا موسى عليه السلام ربه فجعلها مناظر كهيئة الطبقات حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة وعن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم وروي أن موسى عليه السلام قال عند ذلك ( يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء )
فأما قوله فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فالفرق الجزء المنفرق منه وقرىء ( كل فلق ) والمعنى واحد والطود الجبل المتطاول أي المرتفع في السماء وهو معجز من وجوه أحدها أن تفرق ذلك الماء معجز وثانيها أن اجتماع ذلك الماء فوق كل طرف منه حتى صار كالجبل من المعجزات أيضاً لأنه كان لا يمتنع في الماء الذي أزيل بذلك التفريق أن يبدده الله تعالى حتى يصير كأنه لم يكن فلما جمع على الطرفين صار مؤكداً لهذا الإعجاز وثالثها أنه إن ثبت ما روي في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عبور بني إسرائيل فهو معجز ثالث ورابعها أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر منها بعضهم إلى بعض فهو معجز رابع وخامسها أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب منها آل فرعون وطمعوا أن يتخلصوا من البحر كما تخلص قوم موسى عليه السلام فهو معجز خامس

أما قوله تعالى وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ ففيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس وابن جريج وقتادة والسدي وَأَزْلَفْنَا أي وقربنا ثم أي حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون ثم فيه ثلاثة أوجه أحدها قربناهم من بني إسرائيل وثانيها قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد وثالثها قدمناهم إلى البحر ومن الناس من قال وَأَزْلَفْنَا أي حبسنا فرعون وقومه عنذ طلبهم موسى عليه السلام بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى وقرىء وأزلقنا بالقاف أي أزللنا أقدامهم والمعنى أذهبنا عزهم ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبساً وأزلقهم
البحث الثاني أنه تعالى أضاف ذلك الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم هنالك في طلب موسى كفر أجاب الجبائي عنه من وجهين الأول أن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى فلما كان مسيرهم بتدبيره وهؤلاء تبعوا ذلك أضافه إلى نفسه توسعاً وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول أتعبني الغلام لما حدث ذلك فعله الثاني قيل الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ أي أزلفناهم إلى الموت لأجل أنهم في ذلك الوقت قربوا من أجلهم وأنشد وكل يوم مضى أو ليلة سلفت
فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
وأجاب الكعبي عنه من وجهين الأول أنه تعالى لما حلم عنهم وترك البحر لهم يبساً وطمعوا في عبوره جازت الإضافة كالرجل يسفه عليه صاحبه مراراً فيحلم عنه فإذا تمادى في غيه وأراه قدرته عليه قال له أنا أحوجتك إلى هذا وصيرتك إليه بحلمي لا يريد بذلك أنه أراد ما فعل الثاني يحتمل أنه أزلفهم أي جمعهم ليغرقهم عند ذلك ولكي لا يصلوا إلى موسى وقومه والجواب عن الأول أن الذي فعله بنو إسرائيل هل له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم أوليس له أثر فيه فإن كان الأول فقد حصل المقصود لأن لفعل الله تعالى أثراً في حصول الداعية المستلزمة لذلك الإزلاف وإن لم يكن له فيه أثر ألبتة فقد زال التعلق فوجب أن لا تحسن الإضافة وأما إذا تعب أحدنا في طلب غلام له فإنما يجوز أن يقول أتعبني ذلك الغلام لما أن فعل ذلك الغلام صار كالمؤثر في حصول ذلك التعب لأنه متى فعل ذلك الفعل فالظاهر أنه يصير معلوماً للسيد ومتى علمه صار علمه داعياً له إلى ذلك التعب ومؤثراً فيه فصحت الإضافة وبالجملة فعندنا القادر لا يمكنه الفعل إلا بالداعي فالداعي مؤثر في صيرورة القادر مؤثراً في ذلك الفعل فلا جرم حسنت الإضافة والجواب عن الثاني وهو أنه أزلفهم ليغرقهم فهو أنه تعالى ما أزلفهم بل هم بأنفسهم ازدلفوا ثم حصل الغرق بعده فكيف يجوز إضافة هذا الإزلاف إلى الله تعالى أما على قولنا فإنه جائز لأنه تعالى هو الذي خلق الداعية المستعقبة لذلك الازدلاف والجواب عن الثالث وهو أن حلمه تعالى عنهم وحملهم على ذلك فنقول ذلك الحلم هل له أثر في استجلاب هذه الداعية أم لا وباقي التقرير كما تقدم والجواب عن الرابع هو بعينه الجواب عن الثاني والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاْخَرِينَ فالمعنى أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى وقومه حتى خرجوا منه وأغرق فرعون وقومه لأنه لما تكامل دخولهم البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا في ذلك الماء

أما قوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً فالمعنى أن الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرته لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته من حيث وقع ما كان مصلحة في الدين والدنيا وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كان معجزة له وعلى اعتبار المعتبرين به أبداً فيصير تحذيراً من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله ويكون فيه اعتبار لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه قال عقيب ذلك وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وفي ذلك تسلية له فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره فإن الذي ظهر على موسى من هذه المعجزات العظام التي تبهر العقول لم يمنع من أن أكثرهم كذبوه وكفروا به مع مشاهدتهم لما شاهدوه في البحر وغيره فكذلك أنت يا محمد لا تعجب من تكذيب أكثرهم لك واصبر على إيذائهم فلعلهم أن يصلحوا ويكون في هذا الصبر تأكيد الحجة عليهم
وأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فتعلقه بما قبله أن القوم مع مشاهدة هذه الآية الباهرة كفروا ثم إنه تعالى كان عزيزاً قادراً على أن يهلكهم ثم إنه تعالى ما أهلكهم بل أفاض عليهم أنواع رحمته فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاٌّ قْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب كفر قومه ثم إنه ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضاً أن حزن إبراهيم عليه السلام بهذا السبب كان أشد من حزنه لأن من عظيم المحنة على إبراهيم عليه السلام أن يرى أباه وقومه في النار وهو لا يتمكن من إنقاذهم إلا بقدر الدعاء والتنبيه فقال لهم مَا تَعْبُدُونَ وكان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول لتاجر الرقيق ما مالك وأنت تعلم أن ماله الرقيق ثم تقول الرقيق جمال وليس بمال فأجابوا إبراهيم عليه السلام بقولهم نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ والعكوف الإقامة

على الشيء وإنما قالوا نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل واعلم أنه كان يكفيهم في الجواب أن يقولوا نعبد أصناماً ولكنهم ضموا إليه زيادة على الجواب وهي قولهم أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهاراً لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بعبادة الأصنام فقال إبراهيم عليه السلام منبهاً على فساد مذهبهم هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قال صاحب ( الكشاف ) لا بد في يسمعونكم من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم وقرأ قتادة هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أي هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم وهل يقدرون على ذلك وتقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة فقال لهم فإذا كان من تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر فكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه فعند هذه الحجة القاهرة لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى أن قالوا وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله تعالى وذماً لطريقة إبراهيم عليه السلام التي مدحها الله تعالى فأجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً ولا بأن يكون في فاعلية كثرة أو قلة
أما قوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ففيه أسئلة
السؤال الأول كيف يكون الصنم عدواً مع أنه جماد جوابه من وجهين أحدهما أنه تعالى قال في سورة مريم ( 82 ) في صفة الأوثان كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً فقيل في تفسيره إن الله يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يقع منهم التوبيخ لهم والبراءة منهم فعلى هذا الوجه أن الأوثان ستصير أعداء لهؤلاء الكفار في الآخرة فأطلق إبراهيم عليه السلام لفظ العداوة عليهم على هذا التأويل وثانيها أن الكفار لما عبدوها وعظموها ورجوها في طلب المنافع ودفع المضار نزلت منزلة الأحياء العقلاء في اعتقاد الكفار ثم إنها صارت أسباباً لانقطاع الإنسان عن السعادة ووصوله إلى الشقاوة فلما نزلت هذه الأصنام منزلة الأحياء وجرت مجرى الدافع للمنفعة والجالب للمضرة لا جرم جرت مجرى الأعداء فلا جرم أطلق إبراهيم عليه السلام عليها لفظ العدو وثالثها المراد في قوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى عداوة من يعبدها فإن قيل فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي ليكون الكلام حقيقة جوابه لأن الذي تقدم ذكره ما عبدوه دون العابدين
السؤال لثاني لم قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ولم يقل فإنها عدو لكم جوابه أنه عليه السلام صور المسألة في نفسه على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها ( وآثرت عبادة من الخير كله منه ) وأراهم ( بذلك ) أنها نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى للقبول

السؤال الثالث لم لم يقل فإنهم أعدائي جوابه العدو والصديق يجيئان في معنى الواحد والجماعة قال ف وقوم عليَّ ذوي ( مرة ) < / 1 }
أراهم عدواً وكانوا صديقاً
ومنه قوله تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ( الكهف 50 ) وتحقيق القول فيه ما تقدم في قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 )
السؤال الرابع ما هذا الاستثناء جوابه أنه استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين
الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين حكى عنه أيضاً ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله ثم حكى عنه ما سأله عنه أما الأوصاف فأربعة أولها قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ
واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 2 3 ) واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه فلنتكلم في الإنسان فنقول إنه مخلوق فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات ومن قال هو من عالم الأمر الروحانيات وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( ص 72 ) فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر وأيضاً قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلاً وما في كل واحد منها من القوى كاسراً سورة كيفية الآخر فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار وكذا القول في الرطب واليابس وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي

تجذب الغذاء ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولاً وعرضاً ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر وبعضها فاعلة إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية أما الخلق فبتصييره موجوداً بعد أن كان معدوماً وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال خَلَقَنِى فذكره بلفظ الماضي وقال يَهْدِينِ ذكره بلفظ المستقبل والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وثانيها قوله وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وقد دخل فيه كل ما يتصل بنافع الرزق وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة والتمييز لم تكمل هذه النعمة وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما وثالثها قوله وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وفيه سؤال وهو أنه لم قال مَرْضَاتِ دون أمرضني وجوابه من وجوه الأول أن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك ومن ثم قالت الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا التخم الثاني أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضاً بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى وما أضاف المرض إليه وثالثها وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى فإن نقضته بالإماتة فجوابه أن الموت ليس بضرر لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض وأيضاً فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض ورابعها قوله وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها والمراد من الإحياء المجازاة وخامسها قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ فهو إشارة إلى

ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب
واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة ثم ههنا أسئلة
السؤال الأول لم قال وَالَّذِى أَطْمَعُ والطمع عبارة عن الظن والرجاء وإنه عليه السلام كان قاطعاً بذلك جوابه أن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا حيث قلنا إنه لا يجب على الله لأحد شيء وأنه يحسن منه كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وأجاب الجبائي عنه من وجهين الأول أن قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى أراد به سائر المؤمنين لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به الثاني المراد من الطمع اليقين وهو مروي عن الحسن وأجاب صاحب ( الكشاف ) بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً منه لأمته كيفية الدعاء
واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة أما الأول فلأن الله تعالى حكى عنه الثناء أولاً والدعاء ثانياً ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم عليه السلام فجعل الشيء الواحد وهو قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ كلام غيره مما يبطل نظم الكلام ويفسده وأما الثاني وهو أن الطمع هو اليقين فهذا على خلاف اللغة وأما الثالث وهو أن الغرض منه تعليم الأمة فباطل أيضاً لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة وهو باطل قطعاً
السؤال الثاني لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزعون عن الخطايا قطعاً وفي جوابه ثلاثة وجوه أحدها أنه محمول على كذب إبراهيم عليه السلام في قوله فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ( الأنبياء 63 ) وقوله إِنّى سَقِيمٌ ( الصافات 89 ) وقوله لسارة ( إنها أختي ) وهو ضعيف لأن نسبة الكذب إليه غير جائزة وثانيها أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس وهذا ضعيف لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به لأجل تنزيهه عن المعصية وثالثها وهو الجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى وقد يسمى ذلك خطأ فإن من ملك جوهرة وأمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار فإن باعها بدينار قيل إنه أخطأ وترك الأولى على الأنبياء جائز
السؤال الثالث لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا جوابه لأن أثرها يظهر يوم الدين وهو الآن خفي لا يعلم
السؤال الرابع ما فائدة ( لي ) في قوله يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى وجوابه من وجوه أحدها أن الأب إذا عفا عن ولده والسيد عن عبده والزوج عن زوجته فذلك في أكثر الأمر إنما يكون طلباً للثواب وهرباً عن العقاب أو طلباً لحسن الثناء والمحمدة أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية وإذا كان كذلك لم يكن المقصود من ذلك العفو رعاية جانب المعفو عنه بل رعاية جانب نفسه إما لتحصيل ما ينبغي أو لدفع ما لا ينبغي أما الإله سبحانه فإنه كامل لذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن أو يزول عنه نقصان كان وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه فقوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى يعني هو الذي إذا غفر كان غفرانه لي ولأجلي لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة وثانيها كأنه قال خلقتني لا لي فإنك حين خلقتني ما كنت موجوداً وإذا لم أكن موجوداً استحال تحصيل شيء لأجلي ثم مع هذا فأنت خلقتني أما لو عفوت كان

ذلك العفو لأجلي فلما خلقتني أولاً مع أني كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى وثالثها أن إبراهيم عليه السلام كان لشدة استغراقه في بحر المعرفة شديد الفرار عن الالتفات إلى الوسائط ولذلك لما قال له جبريل عليه السلام ( ألك حاجة قال أما إليك فلا ) فههنا قال أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ أي لمجرد عبوديتي لك واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي لا أن تغفرها لي بواسطة شفاعة شافع
رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاٌّ خِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لاًّبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
اعلم أن الله تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام ثناءه على الله تعالى ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته وذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات وتحقيق الكلام فيه أن هذه الأرواح البشرية من جنس الملائكة فكلما كان اشتغالها بمعرفة الله تعالى ومحبته والانجذاب إلى عالم الروحانيات أشد كانت مشاكلتها للملائكة أتم فكانت أقوى على التصرف في أجسام هذا العالم وكلما كان اشتغالها بلذات هذا العالم واستغراقها في ظلمات هذه الجسمانيات أشد كانت مشاكلتها للبهائم أشد فكانت أكثر عجزاً وضعفاً وأقل تأثيراً في هذا العالم فمن أراد أن يشتغل بالدعاء يجب أن يقدم عليه ثناء الله تعالى وذكر عظمته وكبريائه حتى أنه بسبب ذلك الذكر يصير مستغرقاً في معرفة الله ومحبته ويصير قريب المشاكلة من الملائكة فتحصل له بسبب تلك المشاكلة قوة إلهية سماوية فيصير مبدأ لحدوث ذلك الشيء الذي هو المطلوب بالدعاء فهذا هو الكشف عن ماهية الدعاء وظهر أن تقديم الثناء على الدعاء من الواجبات وطهر به تحقيق قوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) فإن قال قائل لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء لا سيما ويروى عنه أيضاً أنه قال حسبي من سؤالي علمه بحالي فالجواب أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين كان مشتغلاً بدعوة الخلق إلى الحق ألا ترى أنه قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) ثم ذكر الثناء ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع فأما حين ما خلا بنفسه ولم يكن غرضه تعليم الشرع كان يقتصر على قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي
البحث الثاني في الأمور التي طلبها في الدعاء وهي مطاليب
المطلوب الأول قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ولقد أجابه الله تعالى حيث قال وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( البقرة 130 ) وفيه مطالب أحدها أنه لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأن

النبوة كانت حاصلة فلو طلب النبوة لكانت النبوة المطلوبة أما عين النبوة الحاصلة أو غيرها والأول محال لأن تحصيل الحاصل محال والثاني محال لأنه يمتنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين بل المراد من الحكم ما هو كمال القوة النظرية وذلك بإدراك الحق ومن قوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ كمال القوة العملية وذلك بأن يكون عاملاً بالخير فإن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وإنما قدم قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً على قوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ لما أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف وبالذات وأيضاً فإنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعلم بالخير وعكسه غير ممكن ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن ولما كان الروح أشرف من البدن كان العلم أفضل من العمل وإنما فسرنا معرفة الأشياء بالحكم وذلك لأن الإنسان لا يعرف حقائق الأشياء إلا إذا استحضر في ذهنه صور الماهيات ثم نسب بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات وتلك النسبة وهي الحكم ثم إن كانت النسب الذهنية مطابقة للنسب الخارجية كانت النسب الذهنية ممتنعة التغير فكانت مستحكمة قوية فمثل هذا الإدراك يسمى حكمة حكماً وهو المراد من قوله عليه السلام ( أرنا الأشياء كما هي ) وأما الصلاح فهو كون القوة العاقلة متوسطة بين رذيلتي الإفراط والتفريظ وذلك لأن الإفراط في أحد الجانبين تفريط في الجانب الآخر وبالعكس فالصلاح لا يحصل إلا بالاعتدال ولما كان الاعتدال الحقيقي شيئاً واحداً لا يقبل القسمة ألبتة والأفكار البشرية في هذا العالم قاصرة على إدراك أمثال هذه الأشياء لا جرم لا ينفك البشر عن الخروج عن ذلك الحد وإن قل إلا أن خروج المقربين عنه يكون في القلة بحيث لا يحس به وخروج العصاة عنه يكون متفاحشاً جداً فقد ظهر من هذا تحقيق ما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين وظهر احتياج إبراهيم عليه السلام إلى أن يقول وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ
المطلب الثاني لما ثبت أن المراد من الحكم العلم ثبت أنه عليه السلام طلب من الله أن يعطيه العلم بالله تعالى وبصفاته وهذا يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل في قلب العبد إلا بخلق الله تعالى وقوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ يدل على أن كون العبد صالحاً ليس إلا بخلق الله تعالى وحمل هذه الأشياء على الألطاف بعيد لأن عند الخصم كل ما في قدرة الله تعالى من الألطاف فقد فعله فلو صرفنا الدعاء إليه لكان ذلك طلباً لتحصيل الحاصل وهو فاسد
المطلب الثالث أن الحكم المطلوب في الدعاء إما أن يكون هو العلم بالله أو بغيره والثاني باطل لأن الإنسان حال كونه مستحضراً للعلم بشيء لا يمكنه أن يكون مستحضراً للعلم بشيء آخر فلو كان المطلوب بهذا الدعاء العلم بغير الله تعالى والعلم بغير الله تعالى شاغل عن الاستغراق في العلم بالله كان هذا السؤال طلباً لما يشغله عن الاستغراق في العلم بالله تعالى وذلك غير جائز لأنه لا كمال فوق ذلك الاستغراق فإذن المطلوب بهذا الدعاء هو العلم بالله ثم إن ذلك العلم إما أن يكون هو العلم بالله تعالى الذي هو شرط صحة الإيمان أو غيره والأول باطل لأنه لما وجب أن يكون حاصلاً لكل المؤمنين فكيف لا يكون حاصلاً عند إبراهيم عليه السلام وإذا كان حاصلاً عنده امتنع طلب تحصيله فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء درجات في معرفة الله تعالى أزيد من العلم بوجوده وبأنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وبأنه عالم قادر حي وما ذاك إلا الوقوف على صفات الجلال أو الوقوف على حقيقة الذات أو ظهور نور تلك المعرفة

في القلب ثم هناك أحوال لا يعبر عنها المقال ولا يشرحها الخيال ومن أراد أن يصل إليها فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر
المطلوب الثاني قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ وفيه ثلاث تأويلات
التأويل الأول أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية أما الداخلية فهي الخلق الظاهر والحلق الباطن والحلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن وهو المراد بقوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وأما الخارجية فهي المال والجاه والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر وهو المراد بقوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما وقد أعطاه ذلك بقوله وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح جوابه من وجهين الأول وهو على لسان الحكمة أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفاً فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثنى عليه الجمع العظيم ويمدحونه ويعظمونه فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سبباً لحصول زيادة كمال له الثاني وهو على لسان الكمال أن من صار ممدوحاً فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعياً لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل
التأويل الثاني أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى وذلك هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالمراد من قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
التأويل الثالث قال بعضهم المراد اتفاق أهل الأديان على حبه ثم إن الله تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتوالون إبراهيم عليه السلام وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب
المطلوب الثالث قوله وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا
المطلوب الرابع قوله وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به وهو أبوه فقال وَاغْفِرْ لاِبِى ثم فيه وجوه الأول أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله وَاغْفِرْ لاِبِى يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام الثاني أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ

( التوبة 114 ) فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) وهذا ضعيف لأن الدعاء بهذا الشرط جائز للكافر فلو كان دعاؤه مشروطاً لما منعه الله عنه الثالث أن أباه قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقية وخوفاً فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه لذلك قال في دعائه إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك
المطلوب الخامس قوله وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ قال صاحب ( الكشاف ) الإخزاء من الخزي وهو الهوان أو من الخزاية وهي الحياء وههنا أبحاث
أحدها أن قوله وَلاَ تُخْزِنِى يدل على أنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما بيناه في قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 )
وثانيها أن لقائل أن يقول لما قال أولاً وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ ومتى حصلت الجنة امتنع حصول الخزي فكيف قال بعده وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ وأيضاً فقد قال تعالى إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) فما كان نصيب الكفار فقط فكيف يخافه المعصوم جوابه كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات الأبرار دركات المقربين وخزي كل واحد بما يليق به
وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) في ( يبعثون ) ضمير العباد لأنه معلوم أو ضمير الضالين
أما قوله إِلاَّ مَنْ اتِى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فاعلم أنه تعالى أكرمه بهذا الوصف حيث قال وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْراهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات 83 84 )
ثم في هذا الاستثناء وجوه أحدها أنه إذا قيل لك هل لزيد مال وبنون فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك فكذا في هذه الآية وثانيها أن نحمل الكلام على المعنى ونجعل المال والبنين في معنى الغنى كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه وثالثها أن نجعل ( من ) مفعولاً لينفع أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله تعالى ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين ويجوز على هذا إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من فتنة المال والبنين أما السليم ففي ثلاثة أوجه الأول وهو الأصح أن المراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرذيلة وذلك لأنه كما أن صحة البدن وسلامته عبارة عن حصول ما ينبغي من المزاج والتركيب والاتصال ومرضه عبارة عن زوال أحد تلك الأمور فكذلك سلامة القلب عبارة عن حصول ما ينبغي له وهو العلم والخلق الفاضل ومرضه عبارة عن زوال أحدهما فقوله إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أن يكون خالياً عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها فإن قيل فظاهر هذه الآية يقتضي أن من سلم قلبه كان ناجياً وأنه لا حاجة فيه إلى سلامة اللسان واليد جوابه أن القلب مؤثر واللسان والجوارح تبع فلو كان القلب سليماً لكانا سليمين لا محالة وحيث لم يسلما ثبت عدم سلامة القلب التأويل الثاني أن السليم هو اللديغ من خشية الله تعالى التأويل الثالث أن السليم هو الذي سلم وأسلم وسالم واستسلم والله أعلم

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
اعلم أن إبراهيم عليه السلام ذكر في وصف هذا اليوم أموراً أحدها قوله وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ والمعنى أن الجنة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسرون على أنهم المسوقون إليها قال الله تعالى في صفة أهل الثواب وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( ق 31 ) وقال في صفة أهل العقاب فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الملك 27 ) وإنما يفعل الله تعالى ذلك ليكون سروراً معجلاً للمؤمنين وغماً عظيماً للكافرين ثانيها قوله وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ إلى قوله وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ والمعنى أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وهو قوله فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ أي الآلهة وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها وَجُنُودُ إِبْلِيسَ متبعوه من عصاة الإنس والجن وثالثها قوله قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ
واعلم أن ظاهر ذلك أن من عبد خاصم المعبود وخاطبه بهذا الكلام فليس يخلو حال الأصنام من وجهين إما أن يخلقها الله تعالى في الآخرة جماداً يعذب بها أهل النار فحينئذ لا يصح أن تخاطب ويجب حمل قولهم إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ على أنه ليس بخطاب لهم أو يقال إنه تعالى يحييها في النار وذلك أيضاً غير جائز لأنه لا ذنب لها بأن عبدها غيرها فالأقرب أنهم ذكروا ذلك لما رأوا صورها على وجه الاعتراف بالخطأ العظيم وعلى وجه الندامة لا على سبيل المخاطبة والذي يحمل على أنه خطاب في

الحقيقة قولهم وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ وأرادوا بذلك من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس وهو كقولهم رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ( الأحزاب 67 ) فأما قولهم فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين وَلاَ صَدِيقٍ كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض قال تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) أو فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( الشعراء 100 101 ) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس أو أرادوا أنهم إن وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما تعلق بهم من النفع لأن مالا ينفع فحكمه حكم المعدوم والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام وهو الذي يهمه ما يهمك أو من الحامة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخالص وإنما جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق فإن الرجل الممتحن بإرهاق الظالم قد ينهض جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له وأما الصديق وهو الصادق في ودادك فأعز من بيض الأنوق ويجوز أن يريد بالصديق الجمع ثم حكى تعالى عنهم قولهم فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وأنهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا ولو في مثل هذا الوضع في معنى التمني كأنه قيل فليت لنا كرة وذلك لما بين معنى لو وليت من التلاقي في التقدير ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب وهو لفعلنا كيت وكيت قال الجبائي إن قولهم فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ليس بخبر عن إيمانهم لكنه خبر عن عزمهم لأنه لو كان خبراً عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقاً لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ والأكثرون من المفسرين حملوه على قوم إبراهيم ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به فيكون هذا تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يجده من تكذيب قومه
فأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فمعناه أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاٌّ رْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

اعلم أنه تعالى لما قص على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خبر موسى وإبراهيم تسلية له فيما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح عليه السلام فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره لأنه كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ومع ذلك كذبه قومه فقال كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وإنما قال ( كذبت ) لأن القوم مؤنث وتصغيرها قويمة وإنما حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين أحدهما أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف فمن حيث المعنى حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين وثانيهما أن قوم نوح كذبوا بجميع رسل الله تعالى إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة
وأما قوله أَخُوهُمْ فلأنه كان منهم من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ثم إنه سبحانه حكى عن نوح عليه السلام أنه أولاً خوفهم وثانياً أنه وصف نفسه أما التخويف فهو قوله أَلاَ تَتَّقُونَ
واعلم أن القوم إنما قبلوا تلك الأديان للتقليد والمقلد إذا خوف خاف وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال فلهذا السبب قدم على جميع كلماته قوله أَلاَ تَتَّقُونَ وأما وصفه نفسه فذاك بأمرين أحدهما قوله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وذلك لأنه كان فيهم مشهوراً بالأمانة كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قريش فكأنه قال كنت أميناً من قبل فكيف تتهموني اليوم وثانيهما قوله وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة لئلا يظن به أنه دعاهم للرغبة فإن قيل ولماذا كرر الأمر بالتقوى جوابه لأنه في الأول أراد ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله وفي الثاني ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجراً فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه وقد يقول الرجل لغيره ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته فقدم العلة على المعلول ثم إن نوحاً عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ
قال صاحب ( الكشاف ) وقرى وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال

والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في وَاتَّبَعَكَ وقد جمع ألأرذل على الصحة وعلى التكسير في قولهم الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ( هود 27 ) والرذالة الخسة وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة
واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة لأن نوحاً عليه السلام بعث إلى الخلق كافة فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها فأجابهم نوع عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى الله تعالى عنهم في قوله الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى ( هود 27 ) ثم قال إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى ولما قال إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله لَوْ تَشْعُرُونَ ثم قال وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني فمن قبل فهو القريب ومن رد فهو البعيد ثم إن نوحاً عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم وقال رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد إني لا أدعوك عليهم لما آذوني وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ أي فاحكم بيني وبينهم والفتاحة الحكومة والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه وَنَجّنِى ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى وقد تقدم القول في قصته مشروحاً في سورة الأعراف وسورة هود
ثم قال تعالى فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قال صاحب ( الكشاف ) الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ( فاطر 12 ) فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد والمشحون المملوء يقال شحنها عليهم خيلاً ورجالاً فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم وبين تعالى أنه بعد أن أنجاهم أغرق الباقين وأن إغراقه لهم كان كالمتأخر عن نجاتهم
القصة الرابعة قصة هود عليه السلام
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَة ً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

اعلم أن فاتحة هذه القصة وفاتحة قصة نوح عليه السلام واحدة فلا فائدة في إعادة التفسير ثم إنه تعالى ذكر الأمور التي تكلم فيها هود عليه السلام معهم وهي ثلاثة فأولها قوله أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَة ً تَعْبَثُونَ قرىء بِكُلّ رِيعٍ بالكسر والفتح وهو المكان المرتفع ومنه قوله كم ريع أرضك وهو ارتفاعها والآية العلم ثم فيه وجوه أحدها عن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبئون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام والثاني أنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخراً فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث والثالث أنهم كانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتخذوا في طريقهم أعلاماً طوالاً فكان ذلك عبثاً لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم الرابع بنوا بكل ريع بروج الحمام وثانيها قوله وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ المصانع مآخذ الماء وقيل القصور المشيدة والحصون لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلد في الدنيا أو يشبه حالكم حال من يخلد وفي مصحف أبي ( كأنكم ) وقرىء ( تخلدون ) بضم التاء مخففاً ومشدداً واعلم أن الأول إنما صار مذموماً لدلالته إما على السرف أو على الخيلاء والثاني إنما صار مذموماً لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر لا دار مقر وثالثها قوله وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ بين أنهم مع ذلك السرف والحرص فإن معاملتهم مع غيرهم معاملة الجبارين وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا الوصف في العباد ذم وإن كان في وصف الله تعالى مدحاً فكأن من يقدم على الغير لا على طريق الحق ولكن على طريق الاستعلاء يوصف بأن بطشه بطش جبار وحاصل الأمر في هذه الأمور الثلاثة أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب العلو واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو فيرجع الحاصل إلى أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو وهذه صفات الإلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد فدل ذلك على أن حب الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه

وخرجوا عن حد العبودية وحاموا حول ادعاء الربوبية وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل كفر ومعصية ثم لما ذكر هود عليه السلام هذه الأشياء قال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والحرص والتجبر ثم وصل بهذا الوعظ ما يؤكد القبول وهو التنبيه على نعم الله تعالى عليهم بالإجمال أولاً ثم التفصيل ثانياً فأيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حيث قال أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ثم فصلها من بعد بقوله أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فبلغ في دعائهم بالوعظ والترغيب والتخويف والبيان النهاية فكان جوابهم سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْواعِظِينَ أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه واستخفافهم بما أورده فإن قيل لو قال أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد جوابه ليس المعنى بواحد ( وبينهما فرق ) لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ( ومباشرته ) فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ ثم احتجوا على قلة اكتراثهم بكلامه بقولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ فمن قرأ خُلُقُ الاْوَّلِينَ بالفتح فمعناه أن ما جئت به اختلاق الأولين وتخرصهم كما قالوا أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( الأنعام 25 ) أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب ومن قرأ خُلِقَ بضمتين وبواحدة فمعناه ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم كانوا به يدينون ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ويسطرونه ثم قالوا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم وقد سبق شرح كيفية الهلاك في سائر السور والله أعلم
القصة الخامسة قصة صالح عليه السلام
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَآ ءَامِنِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِأايَة ٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَاذِهِ نَاقَة ٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

اعلم أن صالحاً عليه السلام خاطب قومه بأمور أحدها قوله أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَاهُنَا ءامِنِينَ أي أتظنون أنكم تتركون في دياركم آمنين وتطمعون في ذلك وأن لا دار للمجازاة
وقوله فِيمَا هَاهُنَا ءامِنِينَ في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ثم فسره بقوله فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وهذا أيضاً إجمال ثم تفصيل فإن قيل لم قال وَنَخْلٍ بعد قوله فِي جَنَّاتِ والجنة تتناول النخل جوابه من وجهين الأول أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على فضله على سائر الأشجار والثاني أن يراد بالجنات غيرها من الشجر لأن اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل والطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ والهضيم اللطيف أيضاً من قولهم كشح هضيم وقيل الهضيم اللين النضيج كأنه قال ونخل قد أرطب ثمره وثانيها قوله تعالى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ قرأ الحسن وَتَنْحِتُونَ بفتح الحاء وقرىء فَارِهِينَ و فَارِهِينَ والفراهة الكيس والنشاط فقوله فَارِهِينَ حال من الناحيتين
واعلم أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الحالية وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة وثالثها قوله تعالى وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ وهذا إشارة إلى أنه يجب الاكتفاء من الدنيا بقدر الكفاف ولا يجوز التوسع في طلبها والاستكثار من لذاتها وشهواتها فإن قيل ما فائدة قوله وَلاَ يُصْلِحُونَ جوابه فائدته بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح ثم إن القوم أجابوه من وجهين أحدهما قولهم إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وفيه وجوه أحدها المسحر هو الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله وثانيها مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي من له سحر وكل دابة تأكل فهي مسحرة والسحر أعلى البطن وعن الفراء المسحر من له جوف أراد أنك تأكل الطعام وتشرب الشراب وثالثها عن المؤرج المسحر هو المخلوق بلغة بجيلة وثانيهما قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَة ٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وهذا يحتمل أمرين الأول أنك بشر مثلنا فكيف تكون نبياً وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين لكانوا من جنس الملائكة الثاني أن يكون مرادهم إنك بشر مثلنا فلا بد لنا في إثبات نبوتك من الدليل فقال صالح عليه السلام هَاذِهِ نَاقَة ٌ لَّهَا شِرْبٌ وقرىء بالضم روي أنهم قالوا نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً فقعد صالح يتفكر فقال له جبريل عليه السلام صل ركعتين وسل ربك

الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم وحصل لها سقب مثلها في العظم ووصاهم صالح عليه السلام بأمرين الأول قوله لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ قال قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله وشربهم في اليوم الذي لا تشرب هي والثاني قوله وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء أي بضرب أو عقر أو غيرهما فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لحلول العذاب فيه ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد ثم إن الله تعالى حكى عنهم أنهم عقروها روي أن ( مصدعاً ) ألجأها إلى مضيق ( في شعب ) فرماها بسهم ( فأصاب رجلها ) ( 2 ) فسقطت ثم ضربها قدار فإن قيل لم أخذهم العذاب وقد ندموا جوابه من وجهين الأول أنه لم يكن ندمهم ندم التائبين لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل الثاني أن الندم وإن كان ندم التائبين ولكن كان ذلك في غير وقت التوبة بل عند معاينة العذاب وقال تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( النساء 18 ) الآية واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم
القصة السادسة قصة لوط عليه السلام
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاٌّ خَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أما قوله تعالى أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ فيحتمل عوده إلى الآتي أي أنتم من جملة العالمين صرتم مخصوصين بهذه الصفة وهي إتيان الذكران ويحتمل عوده إلى المأتي أي أنتم اخترتم الذكران من العالمين لا الإناث منهم

وأما قوله تعالى مّنْ أَزْواجِكُمْ فيصلح أن يكون تبييناً لما خلق وأن يكون للتبعيض ويراد بما خلق العضو المباح منهن وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم والعادي هو المتعدي في ظلمه ومعناه أترتكبون هذه المعصية على عظمها بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي فهذا من جملة ذاك أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة فقالوا له عليه السلام لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لُوطٍ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي لتكونن من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ الأحوال فقال لهم لوط عليه السلام إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ القلي البغض الشديد كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد وقوله مّنَ الْقَالِينَ أبلغ من أن يقول إني لعملكم قال كما يقال فلان من العلماء فهو أبلغ من قولك فلان عالم ويجوز أن يراد من الكاملين في قلاكم ثم قال تعالى فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ والمراد فنجيناه وأهله من عقوبة عملهم إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ فإن قيل فِى الْغَابِرِينَ صفة لها كأنه قيل إلا عجوزاً غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم جوابه معناه إلا عجوزاً مقدراً غبورها قيل إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة قال القاضي عبد الجبار في ( تفسيره ) في قوله تعالى وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْواجِكُمْ دلالة على بطلان الجبر من جهات أحدها أنه لا يقال تذرون إلا مع القدرة على خلافه ولذلك لا يقال للمرء لم تذر الصعود إلى السماء كما يقال له لم تذر الدخول والخروج وثانيها أنه قال مَا خَلَقَ لَكُمْ ولو كان خلق الفعل لله تعالى لكان الذي خلق لهم ما خلقه فيهم وأوجبه لا ما لم يفعلوه وثالثها قوله تعالى بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ فإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا وهل يقال للأسود إنك متعد في لونك فنقول حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجداً الأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه ولهذه الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وسائر القصص فكيف خص هذه القصة بهذه الوجوه دون سائر القصص وإذا ثبت بطلان هذه الوجوه بقي ذلك الوجه المشهور فنحن نجيب عنها بالجوابين المشهورين الأول أن الله تعالى لما علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال لأن عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال وإذا كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال الثاني أن القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يترجح أحد المقدورين على الآخر إلا لمرجح وهو الداعي أو الإرادة وذلك المرجح محدث فله مؤثر وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل وهو محال وإن كان هو الله تعالى فذلك هو الجبر على قولك فثبت بهذين البرهانين القاطعين سقوط ما قاله والله أعلم
القصة السابعة قصة شعيب عليه السلام
كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأيْكَة ِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّة َ الاٌّ وَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّة ِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

قرىء كَذَّبَ أَصْحَابُ بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة وهو الوجه ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد يعرف فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف لكن قد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسم لا يعرف روي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وتلك الشجر هي التي حملها المقل فإن قيل هلا قال أخوهم شعيب كما في سائر المواضع جوابه أن شعيباً لم يكن من أصحاب الأيكة وفي الحديث ( إن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ) ثم إن شعيباً عليه السلام أمرهم بأشياء أحدها قوله أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وذلك لأن الكيل على ثلاثة أضرب واف وطفيف وزائد فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله أَوْفُواْ الْكَيْلَ ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ ولم يذكر الزائد لأنه بحيث إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا إثم عليه ثم إنه لما أمر بالإيفاء بين أنه كيف يفعل فقال وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ قرىء بِالْقِسْطَاسِ مضموماً ومكسوراً وهو الميزان وقيل القرسطون وثانيها قوله تعالى وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه وهذا عام في كل حق يثبت لأحد أن لا يهضم وفي كل ملك أن لا يغصب ( علية ) مالكه ( ولا يتحيف منه ) ( 1 ) ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفاً شرعياً وثالثها قوله تعالى وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ يقال عثا في الأرض وعثى وعاث وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع وكانوا يفعلون ذلك مع توليتهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك ورابعها قوله تعالى وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّة َ الاْوَّلِينَ وقرىء ( الجبلة ) بوزن الأبلة وقرىء ( الجبلة ) بوزن الخلقة ومعناهن واحد أي ذوي الجبلة والمراد أنه المتفضل بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين

فلم يكن للقوم جواب إلا ما لو تركوه لكان أولى بهم وهو من وجهين الأول قولهم إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فإن قيل هل اختلف المعنى بإدخال الواو ههنا وتركها في قصة ثمود جوابه إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم السحر والبشرية وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحداً وهو كونه مسحراً ثم قرره بكونه بشراً مثلهم الثاني قولهم وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ومعناه ظاهر ثم إن شعيباً عليه السلام كان يتوعدهم بالعذاب إن استمروا على التكذيب فقالوا فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السَّمَاء قرىء كِسَفًا بالسكون والحركة وكلاهما جمع كسفة وهي القطعة والسماء السحاب أو الظلة وهم إنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فظنوا أنه إذا لم يقع ظهر كذبه فعنده قال شعيب عليه السلام رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فلم يدع عليهم بل فوض الأمر فيه إلى الله تعالى فلما استمروا على التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب وإن أرادوا الظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم يروى أنه حبس عنهم الريح سبعاً وسلط عليهم الرمل فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا وروي أن شعيباً بعث إلى أمتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بصيحة جبريل عليه السلام وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة وههنا آخر الكلام في هذه القصص السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة تسلية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيما ناله من الغم الشديد بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول لم لا يجوز أن يقال إن العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان ذلك بسبب كفرهم وعنادهم بل كان ذلك بسبب قرانات الكواكب واتصالاتها على ما اتفق عليه أهل النجوم وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص لأن الاعتبار إنما يحصل أن لو علمنا أن نزول هذا العذاب كان بسبب كفرهم وعنادهم
الثاني أن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين وابتلاء لهم على ما قال وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ( محمد 31 ) ولأنه تعالى قد ابتلى المؤمنين بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة وإذا كان كذلك لم يدل نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين والجواب أن الله تعالى أنزل هذه القصص على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية وإزالة للحزن عن قلبه فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم وأنه إنما أنزله عليهم جزاء على كفرهم على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن الأمر كذلك فحينئذ يحصل به التسلية والفرح له عليه السلام واحتج بعض الناس على القدح في علم الأحكام بأن قال المؤثر في هذه الأشياء إما الكواكب أو البروج أو كون الكوكب في البرج المعين والأول باطل وإلا لحصلت هذه الآثار أين حصل الكوكب والثاني أيضاً باطل وإلا لزم دوام الأثر بدوام البرج والثالث أيضاً باطل لأن الفلك على قولهم بسيط لا مركب فيكون طبع كل برج مساوياً لطبع البرج الآخر في تمام الماهية فيكون حال الكوكب وهو في برجه كحاله وهو في برج آخر فيلزم أن يدوم ذلك الأثر بدوام الكوكب وللقوم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون صدور الأثر عن الكوكب المعين موقوفاً على كونه مسامتاً مسامتة مخصوصة لكوكب آخر فإذا فقدت تلك المسامتة فقد شرط التأثير فلا يحصل التأثير ولهم أن يقولوا هذه الدلالة إنما تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب ذواتها وطبائعها ولكنها لا تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب جري العادة فإذا أجرى الله تعالى

عادته بحصول تأثيرات مخصوصة عقيب اتصالات الكواكب وقراناتها وأدوارها لم يلزم من حصول هذه الآثار القطع بأن الله تعالى إنما خلقها لأجل زجر الكفار بل لعله تعالى خلقها تكريراً لتلك العادات والله أعلم
القول فيما ذكره الله تعالى من أحوال محمد عليه الصلاة والسلام
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاٌّ مِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِى ٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أن الله تعالى لما ختم مااقتصه من خبر الأنبياء ذكر بعد ذلك ما يدل على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وهو من وجهين الأول قوله وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ وذلك لأنه لفصاحته معجز فيكون ذلك من رب العالمين أو لأنه إخبار عن القصص الماضية من غير تعليم ألبتة فلا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى وقوله بعده وَأَنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ كأنه مؤكد لهذا الاحتمال وذلك لأنه عليه السلام لما ذكر هذه القصص السبع على ما هي موجودة في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستعداد دل ذلك على أنه ليس إلا من عند الله تعالى فهذا هو المقصود من الآية
فأما قوله تعالى وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ فالمراد بالتنزيل المنزل ثم قد كان يجوز في القرآن وهذه القصص أن يكون تنزيلاً من الله تعالى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بلا واسطة فقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ والباء في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ و نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ على القراءتين للتعدية ومعنى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جعل الله الروح نازلاً به عَلَى قَلْبِكَ ( حفظكه و ) أي فهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) والروح الأمين جبريل عليه السلام وسماه روحاً من حيث خلق من الروح وقيل لأنه نجاة الخلق في باب الدين فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة وقيل لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام وإلى غيرهم
وأما قوله عَلَى قَلْبِكَ ففيه قولان الأول أنه إنما قال عَلَى قَلْبِكَ وإن كان إنما أنزله عليه ليؤكد به أن ذلك المنزل محفوظ للرسول متمكن في قلبه لا يجوز عليه التغيير فيوثق بالإنذار الواقع منه الذي بين الله تعالى أنه هو المقصود ولذلك قال لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ الثاني أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختبار وأما سائر الأعضاء فمسخرة له والدليل عليه القرآن والحديث والمعقول أما القرآن فآيات إحداها قوله تعالى في سورة البقرة ( 97 ) فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ وقال ههنا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ وقال إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) وثانيها أنه ذكر أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من المساعي فقال لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) وقال لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ( الحج 37 ) والتقوى في القلب لأنه تعالى قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات 3 ) وقال تعالى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ

( العاديات 10 ) وثالثها قوله حكاية عن أهل النار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( الملك 10 ) ومعلوم أن العقل في القلب والسمع منفذ إليه وقال إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( الإسراء 36 ) ومعلوم أن السمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب فكان السؤال عنهما في الحقيقة سؤالاً عن القلب وقال تعالى يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( غافر 19 ) ولم تخف الأعين إلا بما تضمر القلوب عند التحديق بها ورابعها قوله وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( السجدة 9 ) فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة منها واستدعاء الشكر عليها وقد قلنا لا طائل في السمع والأبصار إلا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب هو القاضي فيه والمتحكم عليه وقال تعالى وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَة ً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ ( الأحقاف 26 ) فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجته والمقصود من ذلك هو الفؤاد القاضي فيما يؤدي إليه السمع والبصر وخامسها قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ( البقرة 7 ) فجعل العذاب لازماً على هذه الثلاثة وقال لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وجه الدلالة أنه قصد إلى نفي العلم عنهم رأساً فلو ثبت العلم في غير القلب كثباته في القلب لم يتم الغرض فهذه الآيات ومشاكلها ناطقة بأجمعها أن القلب هو المقصود بإلزام الحجة وقد بينا أن ما قرن بذكره من ذكر السمع والبصر فذلك لأنهما آلتان للقلب في تأدية صور المحسوسات والمسموعات
وأما الحديث فما روى النعمان بن بشير قال سمعته عليه السلام يقول ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) وأما المعقول فوجوه أحدها أن القلب إذا غشي عليه فلو قطع سائر الأعضاء لم يحصل الشعور به وإذا أفاق القلب فإنه يشعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات فدل ذلك على أن سائر الأعضاء تبع للقلب ولذلك فإن القلب إذا فرح أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك وكذا القول في سائر الأعراض النفسانية وثانيها أن القلب منبع المشاق الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء وإذا كانت المشاق مبادىء للأفعال ومنبعها هو القلب كان الآمر المطلق هو القلب وثالثها أن معدن العقل هو القلب وإذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب
أما المقدمة الأولى ففيها النزاع فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ والذي يدل على قولنا وجوه الأول قوله تعالى أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الاْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ( الحج 46 ) وقوله لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وقوله إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) أي عقل أطلق عليه اسم القلب لما أنه معدنه الثاني أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب وقال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( البقرة 10 ) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( البقرة 7 ) وقولهم قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ( النساء 155 ) يَحْذَرُ الْمُنَافِقِينَ إِن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ( التوبة 64 ) يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( الفتح 11 ) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( المطففين 14 ) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا

( محمد 24 ) فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضاً هو القلب الثالث وهو أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب ولذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر وأكثر منه أحس من قلبه ضيقاً وضجراً حتى كأنه يتألم بذلك وكل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم الرابع وهو أن القلب أول الأعضاء تكوناً وآخرها موتاً وقد ثبت ذلك بالتشريح ولأنه متمكن في الصدر الذي هو أوسط الجسد ومن شأن الملوك المحتاجين إلى الخدم أن يكونوا في وسط المملكة لتكتنفهم الحواشي من الجوانب فيكونوا أبعد من الآفات واحتج من قال العقل في الدماغ بأمور أحدها أن الحواس التي هي الآلات للإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب وثانيها أن الأعصاب التي هي الآلات في الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب وثالثها أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل ورابعها أن في العرف كل من أريد وصفه بقلة العقل قيل إنه خفيف الدماغ خفيف الرأس وخامسها أن العقل أشرف فيكون مكانه أشرف والأعلى هو الأشرف وذلك هو الدماغ لا القلب فوجب أن يكون محل العقل هو الدماغ والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال الحواس تؤدي آثارها إلى الدماغ ثم إن الدماغ يؤدي تلك الآثار إلى القلب فالدماغ آلة قريبة للقلب للقلب والحواس آلات بعيدة فالحس يخدم الدماغ ثم الدماغ يخدم القلب وتحقيقه أنا ندرك من أنفسنا أنا إذا عقلنا أن الأمر الفلاني يجب فعله أو يجب تركه فإن الأعضاء تتحرك عند ذلك ونحن نجد التعقلات من جانب القلب لا من جانب الدماغ وعن الثاني أنه لا يبعد أن يتأدى الأثر من القلب إلى الدماغ ثم الدماغ يحرك الأعضاء بواسطة الأعصاب النابتة منه وعن الثالث لا يبعد أن يكون سلامة الدماغ شرطاً لوصول تأثير القلب إلى سائر الأعضاء وعن الرابع أن ذلك العرف إنما كان لأن القلب إنما يعتدل مزاحه بما يستمد من الدماغ من برودته فإذا لحق الدماغ خروج عن الاعتدال خرج القلب عن الاعتدال أيضاً إما لازدياد حرارته عن القدر الواجب أو لنقصان حراراته عن ذلك القدر فحينئذ يختل العقل وعن الخامس أنه لو صح ما قالوه لوجب أن يكون موضع العقل هو القحف ولما بطل ذلك ثبت فساد قولهم والله أعلم
فرع اعلم أن المعاني التي بينا كونها مختصة بالقلوب قد تضاف إلى الصدر تارة وإلى الفؤاد أخرى أما الصدر فلقوله تعالى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ( العاديات 10 ) وقوله وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ ( آل عمران 154 ) وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( هود 5 ) وَأَنْ تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ( آل عمران 29 ) وأما الفؤاد فقوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ومن الناس من فرق بين القلب والفؤاد فقال القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد دون ما يكتنفها من اللحم والشحم ومجموع ذلك هو الفؤاد ومنهم من قال القلب والفؤاد لفظان مترادفان وكيف كان فيجب أن يعلم أن من جملة العضو المسمى قلباً وفؤاداً موضعاً هو الموضع في الحقيقة للعقل والاختيار وأن معظم جرم هذا العضو مسخر لذلك الموضع كما أن سائر الأعضاء مسخرة للقلب فإن العضو قد تزيد أجزاؤه من غير ازدياد المعاني المنسوبة إليه أعني العقل والفرح والحزن وقد ينقص من غير نقصان في تلك المعاني فيشبه أن يكون اسم القلب اسماً للأجزاء التي تحل فيها هذه المعاني بالحقيقة واسم الفؤاد يكون اسماً لمجموع العضو فهذا

هو الكلام في هذا الباب والله الموفق للصواب
وأما قوله تعالى لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ فيدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل والمنع من كل قبيح لأن في الوجهين جميعاً يدخل الخوف من العقاب
وأما قوله تعالى بِلِسَانٍ عَرَبِى ّ مُّبِينٍ فالباء إما أن تتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم السلام وإما أن تتعلق بنزل فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي ( لتجافوا عنه أهلاً و ) لقالوا له ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه ويفهمه قومك ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها
وأما قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ فيحتمل هذه الأخبار خاصة ويحتمل أن يكون المراد صفة القرآن ويحتمل صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون المراد وجوه التخويف لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم
أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَة ً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاٌّ عْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أن قوله تعالى أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَة ً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إِسْراءيلَ المراد منه ذكر الحجة الثانية على نبوته عليه السلام وصدقه وتقريره أن جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا ونصوا على مواضع في التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بصفته ونعته وقد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود ويتعرفون منهم هذا الخبر وهذا يدل دلالة ظاهرة على نبوته لأن تطابق الكتب الإلهية على نعته ووصفه يدل قطعاً على نبوته واعلم أنه قرىء يَكُنِ بالتذكير وآية النصب على أنها خبره و ( أن يعلمه ) هو الاسم وقرىء تَكُنْ بالتأنيث وجعلت ( آية ) اسماً و ( أن يعلمه ) خبراً وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً ويجوز مع نصب الآية تأنيث ( يكن ) كقوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( الأنعام 23 )
وأما قوله وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاْعْجَمِينَ فاعلم أنه تعالى لما بين بالدليلين المذكورين نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصدق لهجته بين بعد ذلك أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين فقال وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاْعْجَمِينَ يعني إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا

فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به فلم يؤمنوا به وجحدوه وسموه شعراً تارة وسحراً أخرى فلو نزلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية لكفروا به أيضاً ولتمحلوا لجحودهم عذراً ثم قال كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار وهذا أيضاً مما يفيد تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه إذا عرف رسول الله إصرارهم على الكفر وأنه قد جرى القضاء الأزلي بذلك حصل اليأس وفي المثل اليأس إحدى الراحتين
المسألة الرابعة قوله كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يدل على أن الكل بقضاء الله وخلقه قال صاحب ( الكشاف ) أراد به أنه صار ذلك التكذيب متكمناً في قلوبهم أشد التمكن فصار ذلك كالشيء الجبلي والجواب أنه إما أن يكون قد فعل الله فيهم ما يقتضي رجحان التكذيب على التصديق أو ما فعل ذلك فيهم فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أن الترجيح لا يتحقق ما لم ينته إلى حد الوجوب وحينئذ يحصل المقصود فإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح ألبتة امتنع قوله كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ كما أن طيران الطائر لما لم يكن له تعلق بكفرهم امتنع إسناد الكفر إلى ذلك الطيران
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت ما موقع لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ من قوله سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ قلت موقعه منه موقع الموضح ( والمبين ) لأنه مسوق ( لبيانه مؤكد للجحود ) في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به حتى يعاينوا الوعيد
فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم وأنه يأتيهم العذاب بغتة أتبعه بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة فقال فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ كما يستغيث المرء عند تعذر الخلاص لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجأ لكنهم يذكرون ذلك استرواحاً
فأما قوله تعالى أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فالمراد أنه تعالى بين أنهم كانوا في الدنيا يستعجلون العذاب مع أن حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة ليعرف تفاوت الطريقين فيعتبر به ثم بين تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يقع منهم ليتمتعوا في الدنيا إلا أن ذلك جهل وذلك لأن مدة التمتع في الدنيا متناهية قليلة ومدة العذاب الذي يحصل بعد ذلك غير متناهية وليس في العقل ترجيح لذات متناهية

قليلة على آلام غير متناهية وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف فقال له عظني فلم يزد على تلاوة هذه الآية فقال ميمون لقد وعظت فأبلغت وقرىء يُمَتَّعُونَ بالتخفيف ثم بين أنه لم يهلك قرية إلا وهناك نذير يقيم عليهم الحجة
أما قوله تعالى ذِكْرِى فقال صاحب ( الكشاف ) ذكرى منصوبة بمعنى تذكرة إما لأن أنذر وذكر متقاربان فكأنه قيل مذكرون تذكرة وإما لأنها حال من الضمير في مُنذِرُونَ أي ينذرونهم ذوي تذكرة وإما لأنها مفعول له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة أو مرفوعة عل أنها خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى وجعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها ووجه آخر وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له والمعنى وما أهلكنا من أهل قرية قوم ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ فنهلك قوماً غير ظالمين وهذا الوجه عليه المعول فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنه في قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( الحجر 4 ) قلت الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ
اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بكون القرآن تنزيل رب العالمين وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء ولقائل أن يقول العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بواسطة خبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً بفصاحة القرآن وإخباره عن الغيب ولا يمكن إثبات كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك لزم الدور وهو باطل وجوابه لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يستفاد إلا من قول النبي وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدو ونعلم بالضرورة أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم فلو كان هذا الغيب إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم فكان يجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى فلما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون عن ذلك وأنهم معزولون عن تعرف الغيوب ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب ابتدأ بخطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ وذلك في الحقيقة خطاب

لغيره لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر وأن كان المقصود بذلك هم الأتباع ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك فلهذه العلة أفرده بالمخاطبة
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاٌّ قْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولاً ثم أقام الحجة على نبوته ثانياً ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه ثالثاً أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو ههنا أمور ثلاثة الأول قوله وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلهاً آخر ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً ثم بالأقرب فالأقرب ثانياً لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع وروي ( أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب وقال يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم محمد يا صفية عمة محمد إني لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من المال ما شئتم ) وروي ( أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً على رجل شاة وقعب من لبن وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس فأكلوا وشربوا ثم قال يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي قالوا نعم فقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )
الثاني قوله وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب فإن قيل المتبعون للرسول هم المؤمنون وبالعكس فلم قال لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جوابه لا نسلم أن المتبعين للرسول هم المؤمنون فإن كثيراً منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين
فأما قوله فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ فمعناه ظاهر قال الجبائي هذا يدل على أنه عليه السلام كان بريئاً من معاصيهم وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول وإلا كان مخالفاً لله كما لو رضي عمن سخط الله عليه لكان كذلك وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فكيف يكون فاعلاً له ومريداً له الجواب أنه تعالى بريء من المعاصي بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم والدليل عليه أنه علم وقوعها وعلم أن ما هو معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع وإلا لانقلب علمه جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال وعلم أن ما هو واجب الوقوع فإنه لا يراد عدم وقوعه فثبت ما قلناه والثالث قوله وَتَوَكَّلْ والتوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر

على نفعه وضره وقوله عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته ثم أتبع كونه رحيماً على رسوله ما هو كالسبب لتلك الرحمة وهو قيامه وتقلبه في الساجدين وفيه وجوه أحدها المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال ( المجتهدين ) ليطلع على أسرارهم كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر الله تعالى والمراد بالساجدين المصلين وثانيها المعنى يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماماً لهم وثالثها أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين ورابعها المراد تقلب بصره فيمن ( يلي ) خلفه من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي ) ثم قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لما تقوله الْعَلِيمُ أي بما تنويه وتعمله وهذا يدل عى أن كونه سميعاً أمر مغاير لعلمه بالمسموعات وإلا لكان لفظ العليم مفيداً فائدته واعلم أنه قرىء ونقلبك
واعلم أن الرافضة ذهبوا إلى أن آباء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا مؤمنين وتمسكوا في ذلك بهذه الآية وبالخبر أما هذه الآية فقالوا قوله تعالى تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ يحتمل الوجوه التي ذكرتم ويحتمل أن يكون المراد أن الله تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد كما نقوله نحن وإذا احتمل كل هذه الوجوه وجب حمل الآية على الكل ضرورة أنه لا منافاة ولا رجحان وأما الخبر فقوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) قالوا فإن تمسكتم على فساد هذا المذهب بقوله تعالى وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ ( الأنعام 74 ) قلنا الجواب عنه أن لفظ الأب قد يطلق على العم كما قال أبناء يعقوب له نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) فسموا إسماعيل أباً له مع أنه كان عماً له وقال عليه السلام ( ردوا على أبي ) يعني العباس ويحتمل أيضاً أن يكون متخذاً لأصنام أب أمه فإن هذا قد يقال له الأب قال تعالى وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ إلى قوله وَعِيسَى ( الأنعام 84 85 ) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم كان جده من قبل الأم
واعلم أنا نتمسك بقوله تعالى لاِبِيهِ ءازَرَ وما ذكروه صرف للفظ عن ظاهره وأما حمل قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ على جميع الوجوه فغير جائز لما بينا أن حمل المشترك على كل معانيه غير جائز وأما الحديث فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ

اعلم أن الله تعالى أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين الأول قوله تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وذلك هو الذي قررناه فيما تقدم أن الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان ومحمداً عليه السلام كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه والثاني قوله يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ والمراد أنهم كان يقيسون حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على حال سائر الكهنة فكأنه قيل لهم إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب فيجب أن يكون حال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كذلك أيضاً فلما لم يظهر في إخبار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن المغيبات إلا الصدق علمنا أن حاله بخلاف حال الكهنة ثم إن المفسرين ذكروا في الآية وجوهاً أحدها أنهم الشياطين روي أنهم كانوا قبل أن حجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به ممااطلعوا عليه من الغيوب ثم يوحون به إلى أوليائهم وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ فيما ( يوحى ) به إليهم لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا وثانيها يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة وثالثها الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم ورابعها يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم فإن قلت يُلْقُون ما محله قلت يجوز أن يكون في محل النصب على الحال أي تنزل ملقين السمع وفي محل الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلاً قال لم ننزل على الأفاكين فقيل يفعلون كيت وكيت فإن قلت كيف قال وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ بعدما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك قلت الأفاكون هم الذين يكثرون الكذب لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجن وأكثرهم يفتري عليهم
وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَى َّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
اعلم أن الكفار لما قالوا لم لا يجوز أن يقال إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء ثم إنه سبحانه فرق بين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين الكهنة فذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون أي الضالون ثم بين تلك الغواية بأمرين الأول أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ والمراد منه الطرق المختلفة كقولك أنا في واد وأنت في واد وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا

الثاني أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وذلك أيضاً من علامات الغواة فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه وينفرون عن البخل ويصرون عليه ويقدحون في الاس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش وذلك يدل على الغواية والضلالة
وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ( الشعراء 213 ) ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يشبه حال الشعراء ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة أحدها الإيمان وهو قوله إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وثانيها العمل الصالح وهو قوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وثالثها أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق وهو قوله وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً ورابعها أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم وهو قوله وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ قال الله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) وقيل المراد بهذا الاستثناء عبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشاً وعن كعب بن مالك ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له أهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل ) وكان يقول لحسان بن ثابت ( قل وروح القدس معك )
فأما قوله تعلى وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَى َّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من الدلائل العقلية ومن أخبار الأنبياء المتقدمين ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) تارة بالكاهن وتارة بالشاعر ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولاً ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانياً ختم السورة بهذا التهديد العظيم يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها والله أعلم
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

سورة النمل
تسعون وثلاث أو أربع أو خمس آيات مكية
طس تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُم بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ وإبانته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فالملائكة الناظرون فيه يبينون الكائنات وإنما نكر الكتاب المبين ليصير مبهماً بالتنكير فيكون أفخم له كقوله فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وقرأ ابن أبي عبلة وَكِتَابٌ مُّبِينٌ بالرفع على تقدير وآيات كتاب مبين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فإن قلت ما الفرق بين هذا وبين قوله الرَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ ( الحجر 1 ) قلت لا فرق لأن واو العطف لا تقتضي الترتيب
أما قوله هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فهو في محل النصب أو الرفع فالنصب على الحال أي هادية ومبشرة والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة والرفع على ثلاثة أوجه على معنى هي هدى وبشرى وعلى البدل من الآيات وعلى أن يكون خبراً بعد خبر أي جمعت آياتها آيات الكتاب وأنها هدى وبشرى واختلفوا في وجه تخصيص الهدى بالمؤمنين على وجهين الأول المراد أنه يهديهم إلى الجنة وبشرى لهم كقوله تعالى فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة ٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( النساء 175 ) فلهذا اختص به المؤمنون الثاني المراد بالهدى الدلالة ثم ذكروا في تخصيصه بالمؤمنين وجوهاً أحدها أنه إنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى والبشرى إنما تكون للمؤمنين وثانيها أن وجه الاختصاص أنهم تمسكوا به فخصهم بالذكر كقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) وثالثها المراد من كونها هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ أنها زائدة في هداهم قال تعالى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 )

أما قوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ فالأقرب أنها الصلوات الخمس لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك وإقامة الصلاة أن يؤتى بها بشرائطها وكذا القول في الزكاة فإنها هي الواجبة وإقامتها وضعها في حقها
أما قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ففيه سؤال وهو أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة فما الوجه من ذكره مرة أخرى جوابه من وجهين الأول أن يكون من جملة صلة الموصول ثم فيه وجهان الأول أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخبر لأجل العمل به وأما عرفان الحق فأقسام كثيرة لكن الذي يستفاد منه طريق النجاة معرفة المبدأ ومعرفة المعاد وأما الخير الذي يعمل به فأقسام كثيرة وأشرفها قسمان الطاعة بالنفس والطاعة بالمال فقوله لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى معرفة المبدأ وقوله يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال وقوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ إشارة إلى علم المعاد فكأنه سبحانه وتعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً بينهما الثاني أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة منهم من هو جازم بالحشر والنشر ومنهم من يكون شاكاً فيه إلا أنه يأتي بهذه الطاعات للاحتياط فيقول إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة وإن كنت مخطئاً فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة فمن يأتي بالصلاة والزكاة على هذا الوجه لم يكن في الحقيقة مهتدياً بالقرآن أما من كان حازماً بالآخرة كان مهتدياً به فلهذا السبب ذكر هذا القيد الثاني أن يجعل قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة وهذا هو الأقرب ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُو ءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما على الكفار من سوء العذاب فقال إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ واختلف الناس في أنه كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ ( النحل 63 ) فأما أصحابنا فقد أجروا الآية على ظاهرها وذلك لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد والظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين الأول أنه لو كان من فعل العبد لافتقر فيه إلى داع آخر ويلزم التسلسل وهو محال الثاني وهو أن العلم إما أن يكون ضرورياً أو كسبياً فإن كان ضرورياً فلا بد فيه من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً لأن المكتسب إن كان شاعراً به فهو متصور له وتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن شاعراً به كان

غافلاً عنه والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له فإن قلت هو مشعور به من وجه دون وجه قلت فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به فيعود التقسيم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة والعلم الضروري هو الذي يكون حضور كل واحد من تصوريه كافياً في حصول التصديق فالتصورات غير كسبية وهي مستلزمة للتصديقات فإذن متى حصلت التصورات حصل التصديق لا محالة ومتى لم تحصل لم يحصل التصديق ألبتة فحصول هذه التصديقات البديهية ليس بالكسب ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة للتصديقات النظرية لم تكن التصديقات النظرية كسبية لأن لازم الضروري ضروري وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك بل هي اعتقادات تقليدية لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني يفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية وثبت أن مبادىء الأفعال هي العلوم فأفعال العباد بأسرها ضرورية والإنسان مضطر في صورة مختار فثبت أن الله تعالى هو الذي زين لكل عامل عمله والمراد من التزيين هو أنه يخلق في قلبه العلم بما فيه من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه العلم بما فيه من المضار والآفات فقد ثبت بهذه الدلائل القاطعة العقلية وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تأويلها وجوهاً أحدها أن المراد بينا لهم أمر الدين وما يلزمهم أن يتمسكوا به وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب لأن التزيين من الله تعالى للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن وواجب وحميد العاقبة وهو المراد من قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) ومعنى فَهُمْ يَعْمَهُونَ يدل على ذلك لأن المراد فهم يعدلون وينحرفون عما زينا من أعمالهم وثانيها أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق جعلوا إنعام الله تعالى بذلك عليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم وإليه إشارة الملائكة عليهم السلام في قولهم وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ ( الفرقان 18 ) وثالثها أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه والجواب عن الأول أن قوله تعالى أَعْمَالَهُمْ صيغة عموم توجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً كان العمل أو قبيحاً ومعنى التزيين قد قدمناه وعن الثاني أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور أثر في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أوليس لها فيه أثر فإن كان الأول فقد دللنا على أن الترجيح متى حصل فلا بد وأن ينتهي إلى حد الاستلزام وحينئذ يحصل الغرض وإن لم يكن فيه أثر صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه والله أعلم
أما قوله تعالى فَهُمْ يَعْمَهُونَ فالعمه التحير والتردد كما يكون حال الضال عن الطريق
أما قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوء الْعَذَابِ ففيه وجهان الأول أنه القتل والأسر يوم بدر والثاني مطلق العذاب سواء كان في الدنيا أو في الآخرة والمراد بالسوء شدته وعظمه
وأما قوله هُمُ الاْخْسَرُونَ ففيه وجهان الأول أنه لا خسران أعظم من أن يخسر المرء نفسه بأن يسلب عنه الصحة والسلامة في الدنيا ويسلم في الآخرة إلى العذاب العظيم الثاني المراد أنهم خسروا منازلهم في الجنة لو أطاعوا فإنه لا مكلف إلا وعين له منزل في الجنة لو أطاع فإذا عصى عدل به إلى غيره فيكون قد خسر ذلك المنزل

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لاًّهْلِهِ إِنِّى آنَسْتُ نَاراً سَأاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
أما قوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فمعناه لتؤتاه ( وتلقاه ) من عند أي حكيم وأي عليم وهذا معنى مجيئهما نكرتين وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص و ( إذ ) منصوب بمضمر وهو اذكر كأنه قال على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى ويجوز أن ينتصب بعليم فإن قيل الحكمة أما أن تكون نفس العلم والعلم إما أن يكون داخلاً فيها فلما ذكر الحكمة فلم ذكر العلم جوابه الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط والعلم أعم منه لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية فذكر الحكمة المشتملة على العلوم العملية ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم وكمال العلم يحصل من جهات ثلاثة وحدته وعموم تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصوناً عن كل التغيرات وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه سبحانه وتعالى
واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أنواعاً من القصص
القصة الأولى قصة موسى عليه الصلاة والسلام
أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ فيدل على أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ابنة شعيب عليه السلام وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله امْكُثُواْ ( القصص 29 )
أما قوله إِنّى آنَسْتُ نَاراً فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال إِنّى آنَسْتُ نَاراً وقد اختلفوا فقال بعضهم المراد أبصرت ورأيت وقال آخرون بل المراد صادفت ووجدت فآنست به والأول أقرب لأنهم لا يفرقون بين قول القائل آنست ببصري ورأيت ببصري
أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى فالخبر ما يخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضل ثم في الكلام حذف وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها وقال إِذْ قَالَ مُوسَى يعرف به الطريق

أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ فالشهاب الشعلة والقبس النار المقبوسة وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبساً وغير قبس ومن قرأ بالتنوين جعل القبس بدلاً أو صفة لما فيه من معنى القبس ثم ههنا أسئلة
السؤال الأول إِذْ قَالَ مُوسَى و فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( القصص 29 ) كالمتدافعين لأن أحدهما ترج والآخر تيقن نقول جوابه قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة
السؤال الثاني كيف جاء بسين التسويف جوابه عدة منه لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة
السؤال الثالث لماذا أدخل ( أو ) بين الأمرين وهلا جمع بينهما لحاجته إليهما معاً جوابه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ظفر بأحدهما إما هداية الطريق وإما اقتباس النار ثقة بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده
وأما قوله تعالى لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فالمعنى لكي تصطلون وذلك يدل على حاجة بهم إلى الاصطلاء وحينئذ لا يكون ذلك إلا في حال برد
أما قوله تعالى نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ففيه أبحاث
البحث الأول ءانٍ أن هي المفسرة لأن النداء فيه معنى القول والمعنى قيل له بورك
البحث الثاني اختلفوا فيمن في النار على وجوه أحدها أَن بُورِكَ بمعنى تبارك والنار بمعنى النور والمعنى تبارك من في النور وذلك هو الله سبحانه وَمَنْ حَوْلَهَا يعني الملائكة وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كنا نقطع بأن هذه الرواية موضوعة مختلفة وثانيها مَن فِى النَّارِ هو نور الله وَمَنْ حَوْلَهَا الملائكة وهو مروي عن قتادة والزجاج وثالثها أن الله تعالى ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة فكانت الشجرة محلاً للكلام والله هو المكلم له بأن فعله فيه دون الشجرة ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها ملائكة فلذلك قال بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وهو قول الجبائي ورابعها مَن فِى النَّارِ هو موسى عليه السلام لقربه منها مِنْ حَوْلَهَا يعني الملائكة وهذا أقرب لأن القريب من الشيء قد يقال إنه فيه وخامسها قول صاحب ( الكشاف ) بُورِكَ مَن فِى النَّارِ أي من في مكان النار ومن حول مكانها هي البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى مِن شَاطِىء الْوَادِى الايْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ ( القصص 30 ) ويدل عليه قراءة أبي ( تباركت الأرض ومن حولها ) وعنه أيضاً ( بوركت النار )
البحث الثالث السبب الذي لأجله بوركت البقعة وبورك من فيها وحواليها حدوث هذا الأمر

العظيم فيها وهو تكليم الله موسى عليه السلام وجعله رسولاً وإظهار المعجزات عليه ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الاْرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 71 ) وحقت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ومهبط الوحي وكفاتهم أحياء وأمواتاً
البحث الرابع أنه سبحانه جعل هذا القول مقدمة لمناجاة موسى عليه السلام فقوله بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا يدل على أنه قد قضى أمر عظيم تنتشر البركة منه في أرض الشام كلها وقوله وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فيه فائدتان إحداهما أنه سبحانه نزه نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام الثانية أن يكون ذلك إيذاناً بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الوقائع
أما قوله إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فقال صاحب ( الكشاف ) الهاء في ( إنه ) يجوز أن يكون ضمير الشأن و أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر و العَزِيزُ الحَكِيمُ صفتان للخبر وأن يكون راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله يعني أن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان ( للتعيين ) وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل ( كل ) ما أفعله بحكمة وتدبير فإن قيل هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى فكيف علم موسى عليه السلام أنه من الله جوابه لأهل السنة فيه طريقان الأول أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات فعلم بالضرورة أنه صفة الله تعالى الثاني قول أئمة ما وراء النهر وهو أنه عليه السلام سمع الصوت من الشجرة فنقول إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور أحدها أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة علم أنه من قبل الله تعالى لأن أحداً منا لا يقدر عليه وهو ضعف لاحتمال أن يقال الشيطان دخل في النار والشجرة ثم نادى وثانيها يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً وهو أيضاً ضعيف لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم وثالثها أنه قد اقترن به معجز دل على ذلك فقيل إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق فصار ذلك كالمعجز وهذا هو الأصح والله أعلم
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُو ءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَة ً قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ

اعلم أن أكثر ما في هذا الآيات قدر مر شرحه ولنذكر ما هو من خواص هذا الموضع يقال علام عطف قوله وَأَلْقِ عَصَاكَ جوابه على بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ( النمل 8 ) ( وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي )
أما قوله كَأَنَّهَا جَانٌّ فالجان الحية الصغيرة سميت جاناً لأنها تستتر عن الناس وقرأ الحسن جَانٌّ على لغة من يهرب من التقاء الساكنين فيقول شأبة ودأبة
أما قوله وَلَمْ يُعَقّبْ معناه لم يرجع يقال عقب المقاتل إذا ( مر ) بعد الفرار وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به ويدل عليه إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ وقال بعضهم المراد إني إذا أمرتهم بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة
أما قوله تعالى إَلاَّ مَن ظَلَمَ معناه لكن من ظلم وهو محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل أو الصغيرة ويحتمل أن يكون المقصود منه التعريض بما وجد من موسى وهو من التعريضات اللطيفة قال الحسن رحمه الله كان والله موسى ممن ظلم بقتل القبطي ثم بدل فإنه عليه السلام قال رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى ( القصص 16 ) وقرىء ( ألا من ظلم ) بحرف التنبيه
أما قوله تعالى ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فالمراد حسن التوبة وسوء الذنب وعن أبي بكر في رواية عاصم ( حسناً ) أما قوله وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى فهو كلام مستأنف وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف والمعنى اذهب في تسع آيات إلى فرعون ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة اثنتان منها اليد والعصا والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم
أما قوله فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَة ً فقد جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأملها وذلك بسبب نظرهم وتفكرهم فيها أو جعلت كأنها لظهورها تبصر فتهتدي وقرأ علي بن الحسين وقتادة مُبْصِرَة ً وهو نحو مجبنة ومبخلة أي مكاناً يكثر فيه التبصر
أما قوله وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ فالواو فيها واو الحال وقد بعدها مضمرة وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم والاستيقان أبلغ من الإيقان
أما قوله ظُلْماً وَعُلُوّاً فأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله تعالى ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً وأما العلو فهو التكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى كقوله فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ ( المؤمنون 46 ) وقرىء ( علياً ) و ( علياً ) بالضم والكسر كما قرىء ( عتياً ) عِتِيّاً ( مريم 8 69 ) والله أعلم
القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَى ْءٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَة ٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى وَالِدَى َّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ

أما قوله تعالى عِلْمًا فالمراد طائفة من العلم أو علماً سنياً ( عزيزاً ) فإن قيل أليس هذا موضع الفاء دون الواو كقولك أعطيته فشكر ( ومنعته ) ( 1 ) فصبر جوابه أن الشكر باللسان إنما يحسن موقعه إذا كان مسبوقاً بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات ولما كان الشكر باللسان يجب كونه مسبوقاً بهما فلا جرم صار كأنه قال ولقد آتيناهما علماً فعملا به قلباً وقالباً وقالا باللسان الحمد لله الذي فعل كذا وكذا
وأما قوله تعالى الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ففيها أبحاث
أحدها أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علماً أو من لم يؤت مثل علمهما وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وثانيها في الآية دليل على علو مرتبة العلم لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم وثالثها أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل وذلك يدل على حسن التواضع ورابعها أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم ثم العلم بالله وبصفاته أشرف من غيره فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على هذا العلم ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سبباً لفضيلتهم على المؤمنين فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم بالله وبصفاته جلياً بحيث يصير المرء مستغرقاً فيه بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان ولا ساعة من الساعات

أما قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ فقد اختلفوا فيه فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث وقال غيره بل النبوة وقال آخرون بل الملك والسياسة ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمناً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله وَقَالَ يأَبَتِ أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ معنى وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ما ورثه وكذلك قوله تعالى وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لا يليق أيضاً إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال فأما إذا قيل ورث المال والملك معاً فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها بل بظاهر قوله عليه السلام ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث )
فأما قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فالمقصود منه تشهير نعمة الله تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير قال صاحب ( الكشاف ) المنطق كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد وقد ترجم يعقوب كتابه ( بإصلاح المنطق ) وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم وقالت العرب نطقت الحمامة ( وكل صنف من ) الطير يتفاهم أصواته فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه
أما قوله تعالى وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء فالمراد كثرة ما أوتي وذلك لأن الكل والبعض الكثير يشتركان في صفة الكثرة والمشاركة سبب لجواز الاستعارة فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثير ومثله قوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 )
أما قوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فهو تقرير لقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا والمقصود منه الشكر والمحمدة كما قال عليه السلام ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) فإن قيل كيف قال عَلِمْنَا وَأُوتِينَا وهو من كلام المتكبرين جوابه من وجهين الأول أن يريد نفسه وأباه والثاني أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح فيصير ذلك التعظيم واجباً
وأما قوله وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فالحشر هو الإحضار والجمع من الأماكن المختلفة والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف فلذلك قلنا إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره

وأما قوله تعالى فَهُمْ يُوزَعُونَ معناه يحبسون وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع ويكون له تسلط على من يرده ويكفه ويصرفه فالظاهر يشهد بهذا القدر والذي جاء في الخبر من أنهم كانوا يمنعون من يتقدم ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب فغير ممتنع
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ فقيل هو واد بالشام كثير النمل ويقال لم عدي أَتَوْا بعلى فجوابه من وجهين الأول أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء والثاني أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا ( أنفذه و ) بلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي وقرىء نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلِ بضم الميم وبضم النون والميم وكان الأصل النمل بوزن الرجل والنمل الذي عليه الاستعمال تخفيف عنه ( كقولهم السبع في السبع ) ( 1 )
أما قوله تعالى قَالَتْ نَمْلَة ٌ فالمعنى أنها تكلمت بذلك وهذا غير مستبعد فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها العقل والنطق وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً وهو غلام حدث فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة رضي الله عنه كانت أنثى فقيل له من أين عرفت فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله قَالَتْ نَمْلَة ٌ ولو كان ذكراً لقال ( قال نملة ) وذلك لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي
أما قوله تعالى ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ فاعلم أن النملة لما قاربت حد العقل لا جرم ذكرت بما يذكر به العقلاء فلذلك قال تعالى ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ فإن قلت لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ما هو قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر والمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا وفي هذه الآية تنبيه على أمور أحدها أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من في الطريق التحرز وثانيها أن النملة قالت وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كأنها عرفت أن النبي معصوم فلا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء عليهم السلام وثالثها ما رأيت في بعض الكتب أن تلك النملة إنما أمرت غيرها بالدخول لأنها خافت على قومها أنها إذا رأت سليمان في جلالته فربما وقعت في كفران نعمة الله تعالى وهذا هو المراد بقوله لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ فأمرتها بالدخول في مساكنها لئلا ترى تلك النعم فلا تقع في كفران نعمة الله تعالى وهذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة ورابعها قرىء ( مسكنكم ) و ( لا يحطمنكم ) بتخفيف النون وقرىء ( لا يحطمنكم ) بفتح الطاء وكسرها وأصلها يحطمنكم
أما قوله تعالى فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا يعني تبسم شارعاً في الضحك ( وآخذاً فيه ) بمعنى أنه قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك وإنما ضحك لأمرين أحدهما إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده ( وشفقتهم ) وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى وذلك قولها وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ والثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً من سماعه لكلام النملة وإحاطته بمعناه

أما قوله تعالى رَبّ أَوْزِعْنِى فقال صاحب ( الكشاف ) حقيقة أوزعنى اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه عن أن ينقلب عني حتى أكون شاكراً لك أبداً وهذا يدل على مذهبنا فإن عند المعتزلة كل ما أمكن فعله من الألطاف فقد صارت مفعولة وطلب تحصيل الحاصل عبث
وأما قوله تعالى وَعَلَى وَالِدَى َّ فذلك لأنه عد نعم الله تعالى على والديه نعمة عليه ومعنى قوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ طلب الإعانة في الشكر وفي العمل الصالح ثم قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فلما طلب في الدنيا الإعانة على الخيرات طلب أن يجعل في الآخرة من الصالحين وقوله بِرَحْمَتِكَ يدل على أن دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق من جانب العبد واعلم أن سليمان عليه السلام طلب ما يكون وسيلة إلى ثواب الآخرة أولاً ثم طلب ثواب الآخرة ثانياً أما وسيلة الثواب فهي أمران أحدهما شكر النعمة السالفة والثاني الاشتغال بسائر أنواع الخدمة أما الاشتغال بشكر النعمة السالفة فهي قوله تعالى رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ ولما كان الإنعام على الآباء إنعاماً على الأبناء لأن انتساب الابن إلى أب شريف نعمة من الله تعالى على الابن لا جرم اشتغل بشكر نعم الله على الآباء بقوله وَعَلَى وَالِدَى َّ وأما الاشتغال بسائر أنواع الخدمة فقوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وأما طلب ثواب الآخرة فقوله وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فإن قيل درجات الأنبياء أعظم من درجات الأولياء والصالحين فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين فقال يوسف تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وقال سليمان أَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ جوابه الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية والله أعلم
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاّذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَة ً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَى ْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ
اعلم أن سليمان عليه السلام لما تفقد الطير أوهم ذلك أنه إنما تفقده لأمر يختص به ذلك الطير واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه أحدها قول وهب أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده

وثانيها أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده وثالثها أنه كان يظله من الشمس فلما فقد ذلك تفقده
أما قوله فَقَالَ مَالِيَ لِى َ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ فأم هي المنقطعة نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال ما لي لا أراه على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له ومثله قولهم إنها لإبل أم شاء
أما قوله لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدب ثم اختلفوا في قوله لاعَذّبَنَّهُ فقال ابن عباس إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس وقيل أن يلقى للنمل فتأكله وقيل إيداعه القفص وقيل التفريق بينه وبين إلفه وقيل لألزمنه صحبة الأضداد وعن بعضهم أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل لألزمنه خدمة أقرانه
أما قوله فَمَكَثَ فقد قرىء بفتح الكاف وضمها غَيْرَ بَعِيدٍ ( غير زمان بعيد ) كقولك عن قريب ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخراً له
أما قوله أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علماً بما لم يحط به فيكون ذلك لطفاً في ترك الإعجاب والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته
أما قوله وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فاعلم أن سبأ قرىء بالصرف ومنعه وقد روي بسكون الباء وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمن جعله اسماً للقبيلة لم يصرف ومن جعله اسماً للحي أو للأب الأكبر صرف ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام والنبأ الخبر الذي له شأن
وقوله مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ وشرط حسنه صحة المعنى ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن لفظاً ومعنى ألا ترى أنه لو وضع مكان ( بنبأ ) بخبر لكان المعنى صحيحاً ولكن لفظ النبأ أولى لما فيه من الزيادة التي يطابقها وصف الحال
أما قوله إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَة ً تَمْلِكُهُمْ فالمرأة بلقيس بنت شراحيل وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها
وأما قوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ففيه سؤال وهو أنه كيف قال وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء مع قول سليمان وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 16 ) فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة ثم إلى الملك وأسباب الدنيا وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا
وأما قوله وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ففيه سؤال وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان وأيضاً فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم والجواب عن

الأول يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان وعن الثاني أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض واعلم أن ههنا بحثين
البحث الأول أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه أحدها أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس وبالنحو من سيبويه وكذا القول في القملة والصئبان ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب وثانيها أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه وثالثها كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ورابعها من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه والجواب عن الأول أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل وإنما يدفع ذلك بالإجماع وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك
البحث الثاني قالت المعتزلة قوله يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ يدل على أن فعل العبد من جهته لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورده مورد الذم ولأنه بين أنهم لا يهتدون والجواب من وجوه أحدها أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة وثانيها أنه متروك الظاهر فإنه قال فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدوداً ممنوعاً لسقط عنه التكليف فلم يبق ههنا إلا التمسك بفصل المدح والذم والجواب قد تقدم عنه مراراً فلا فائدة في الإعادة والله أعلم
أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله تعالى أَلاَّ يَسْجُدُواْ قراءات أحدها قراءة من قرأ بالتخفيف ( ألا )

للتنبيه ويا حرف النداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال ألا يا اسلمى يا دار ميَّ على البلى
ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
وثانيها بالتشديد أراد فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن ويجوز أن تكون لا مزيدة ويكون المعنى فهم لا يهتدون ( إلا ) أن يسجدوا وثالثها وهي حرف عبدالله و ( هي ) قراءة الأعمش هلا بقلب الهمزة هاء وعن عبدالله هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب ورابعها قراءة أبي إِلا يَسْجُدُونَ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمَ سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ
المسألة الثانية قال أهل التحقيق قوله أَلاَّ يَسْجُدُواْ يجب أن يكون بمعنى الأمر لأنه لو كان بمعنى المنع من السجدة لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له وهو كونه قادراً على إخراج الخبء عالماً بالأسرار معنى
المسألة الثالثة الآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم أما القدرة فقوله يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وسمي المخبوء بالمصدر وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث ومن الأرض بالنبات وأما العلم فقوله وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وتحرير الدلالة هكذا الإله يجب أن يكون قادراً على إخراج الخبء وعالماً بالخفيات والشمس ليست كذلك فهي لا تكون إلهاً وإذا لم تكن إلهاً لم يجز السجود لها أما أنه سبحانه وتعالى يجب أن يكون قادراً عالماً على الوجه المذكور فلما أنه واجب لذاته فلا تختص قادريته وعالميته ببعض المقدورات والمعلومات دون البعض وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه وكل ما كان متناهياً في الذات كان متناهياً في الصفات وإذا كان كذلك فحينئذ لا يعلم كونها قادرة على إخراج الخبء عالمة بالخفيات فإذا لم يعلم من حالها ذلك لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار فرجع حاصل الدلالة إلى ما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وفي قوله للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وجه آخر وهو أن هذا إشارة إلى ما استدل به إبراهيم عليه السلام في قوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) وفي قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ( البقرة 258 ) وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخرج الشمس من المشرق بعد أفولها في المغرب فهذا هو إخراج الخبء في السموات وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ومن قوله فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ومن قوله موسى عليه السلام رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( الشعراء 28 ) وحاصله يرجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر فكانت العبادة لقاهرها والمتصرف فيها أولى وأما إخراج الخبء من الأرض فهو يتناول إخراج النطفة من الصلب والترائب وتكوين الجنين منه فإن قيل إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق فإن إبراهيم قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ثم قال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وموسى عليه السلام قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) ثم قال رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فلم كان الأمر ههنا بالعكس فقدم خبء السموات على خبء الأرض جوابه أن إبراهيم وموسى عليهما السلام ناظراً مع من ادعى إلهية البشر فلا جرم ابتدأ بإبطال إلهية البشر ثم انتقلا إلى إبطال إلهية السموات وههنا المناظرة مع من ادعى إلهية الشمس لقوله وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ

فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ثم بالأرضيات
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فالمراد منه أنه سبحانه لما بين افتقار السموات والأرض وما بينهما إلى المدبر ذكر بعد ذلك أن ما هو أعظم الأجسام فهي مخلوقة ومربوبة وذلك يدل على أنه سبحانه هو المنتهى في القدرة والربوبية إلى ما لا يزيد عليه والله أعلم
المسألة الرابعة قيل من أَحَطتُ إلى الْعَظِيمِ كلام الهدهد وقيل كلام رب العزة
المسألة الخامسة الحق أن سجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمة الله عليهما لأنهم أجمعوا على أن سجدات القرآن أربع عشرة سجدة وهذا واحد منها ولأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك فثبت أن الذي ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد غير ملتفت إليه
المسألة السادسة يقال هل يفرق الواقف بين القراءتين جوابه نعم إذا خفف وقف على فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( النمل 24 ) ثم ابتدأ بألا يسجدوا وإن شاء وقف على ألا يا ثم ابتدأ اسجدوا وإذا شدد لم يقف إلا على ( العرش العظيم )
أما قوله سَنَنظُرُ فمن النظر الذي هو التأمل وأراد صدقت أم كذبت إلا أن أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ أبلغ لأنه إذا كان معروفاً بالكذب كان متهماً بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به وإنما قال فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ على لفظ الجمع لأنه قال وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ( النمل 24 ) فقال فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى الذين هذا دينهم
أما قوله ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك و يَرْجِعُونَ من قوله تعالى يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ( سبأ 30 ) ويقال دخل عليها من كوة وألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة
قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنَّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَى َّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَة ً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّة ٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاٌّ مْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ
اعلم أن قوله قَالَتْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ بمعنى أن يقال إن الهدهد ألقى إليها الكتاب فهو محذوف كأنه ثابت روي أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية وقيل نقرها فانتبهت فزعة

أما قوله كِتَابٌ كَرِيمٌ ففيه ثلاثة أوجه أحدها حسن مضمونه وما فيه وثانيها وصفته بالكريم لأنه من عند ملك كريم وثالثها أن الكتاب كان مختوماً وقال عليه السلام ( كرم الكتاب ختمه ) وكان عليه السلام ( يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتماً )
أما قوله إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ففيه أبحاث
البحث الأول أنه استئناف وتبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت إني ألقي إليَّ كتاب كريم قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت وقرأ عبدالله إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ عطفاً على إِنّى وقرىء إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بالفتح وفيه وجهان أحدهما أنه بدل من كتاب كأنه قيل ألقي إليَّ أنه من سليمان وثانيهما أن يريد أن من سليمان ولأنه بسم الله كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله وقرأ أبي ( أن من سليمان وأن بسم الله ) على أن المفسرة وأن في ( ألا تعلوا ) مفسرة أيضاً ومعنى لا تعلوا لا تتكبروا كما تفعل الملوك وقرأ ابن عباس بالغين معجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد
البحث الثاني يقال لما قدم سليمان اسمه على قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جوابه حاشاه من ذلك بل ابتدأ هو ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس أن هذا الكتاب من سليمان ثم حكت ما في الكتاب والله تعالى حكى ذلك فالتقديم واقع في الحكاية
البحث الثالث أن الأنبياء عليهم السلام لا يطيلون بل يقتصرون على المقصود وهذا الكتاب مشتمل على تمام المقصود وذلك لأن المطلوب من الخلق إما العلم أو العمل والعلم مقدم على العمل فقوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً
وأما قوله أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَى َّ فهو نهي عن الانقياد لطاعة النفس والهوى والتكبر
وأما قوله وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ فالمراد من المسلم إما المنقاد أو المؤمن فثبت أن هذا الكتاب على وجازته يحوي كل ما لا بد منه في الدين والدنيا فإن قيل النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد جوابه معاذ الله أن يكون هناك تقليد وذلك لأن رسول سليمان إلى بلقيس كان الهدهد ورسالة الهدهد معجز والمعجز يدل على وجود الصانع وعلى صفاته ويدل على صدق المدعي فلما كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة لا جرم لم يذكر في الكتاب دليلاً آخر
أما قوله قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى فالفتوى هي الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن أي أجيبوني في الأمر الفتى وقصدت بالانقطاع إليهم واستطلاع رأيهم تطييب قلوبهم مَا كُنتُ قَاطِعَة ً أَمْراً أَيُّ لا لَكَ أمْراً إلا بمحضركم
أما قوله قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّة ٍ فالمراد قوة الأجسام وقوة الآلات ( والعدد ) والمراد بالبأس النجدة ( والثبات ) في الحرب وحاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين أحدهما إظهار القوة الذاتية والعرضية ليظهر أنها إن أرادتهم للدفع والحرب وجدتهم بحيث تريد والآخر قولهم وَالاْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ وفي ذلك إظهار الطاعة لها إن أرادت السلم ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا والله أعلم

قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّة َ أَهْلِهَآ أَذِلَّة ً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّى مُرْسِلَة ٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّة ٍ فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّة ً وَهُمْ صَاغِرُونَ
اعلم أنها لما عرضت الواقعة على أكابر قومها وقالوا ما تقدم أظهرت رأيها وهو أن الملوك إذا دخلوا قرية بالقهر أفسدوها أي خربوها وأذلوا أعزتها فذكرت لهم عاقبة الحرب
وأما قوله وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ فقد اختلفوا أهو من كلامها أو من كلام الله تعالى كالتصويب لها والأقرب أنه من كلامها وأنها ذكرته تأكيداً لما وصفته من حال الملوك أما الكلام في صفة الهدية فالناس أكثروا فيها لكن لا ذكر لها في الكتاب وقولها فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان ولما وصلت الهدايا إلى سليمان عليه السلام ذكر أمرين الأول قوله أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فأظهر بهذا الكلام قلة الاكتراث بذلك المال
أما قوله بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الهدية اسم للمهدي كما أن العطية اسم للمعطي فتضاف إلى المهدي وإلى المهدى إليه والمضاف إليه ههنا هو المهدى إليه والمعنى أن الله تعالى آتاني الدين الذي هو السعادة القصوى وآتاني من الدنيا ما لا مزيد عليه فكيف يستمال مثلي بمثل هذه الهدية بل أنتم تفرحون بما يهدى إليكم لكن حالي خلاف حالكم وثانيها بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثلها وثالثها كأنه قال بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها الثاني قوله ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فقيل ارجع خطاب للرسول وقيل للهدهد محملاً كتاباً آخر
أما قوله تعالى لاَّ قِبَلَ أي لا طاقة وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة أي لا يقدرون أن يقابلوهم وقرأ ابن مسعود ( لا قبل لهم بهم ) والضمير في ( منها ) لسبأ والذل أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً
قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِى ٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَءَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِى ٌّ كَرِيمٌ

اعلم أن في قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا دلالة على أنها عزمت على اللحوق بسليمان ودلالة على أن أمر ذلك العرش كان مشهوراً فأحب أن يحصل عنده قبل حضورها واختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرض على وجوه أحدها أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة الله تعالى وعلى نبوة سليمان عليه السلام حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت وثانيها أراد أن يؤتى بذلك العرش فيغير وينكر ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره والمقصود اختبار عقلها وقوله تعالى قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى ( النمل 41 ) كالدلالة على ذلك وثالثها قال قتادة أراد أن يأخذه قبل إسلامها لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها ورابعها أن العرش سرير المملكة فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه
أما قوله قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ فالعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ومن الشياطين الخبيث المارد
أما قوله قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ فالمعنى من مجلسك ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت فقيل المراد مجلس الحكم بين الناس وقيل الوقت الذي يخطب فيه الناس وقيل إلى انتصاف النهار
وأما قوله لَقَوِى ٌّ أي على حمله أَمِينٌ آتي به كما هو لا أختزل منه شيئاً
أما قوله قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ففيه بحثان
الأول اختلفوا في ذلك الشخص على قولين قيل كان من الملائكة وقيل كان من الإنس فمن قال بالأول اختلفوا قيل هو جبريل عليه السلام وقيل هو ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام ومن قال بالثاني اختلفوا على وجوه أحدها قول ابن مسعود إنه الخضر عليه السلام وثانيها وهو المشهور من قول ابن عباس إنه آصف بن برخيا وزير سليمان وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب وثالثها قول قتادة رجل من الإنس كان يعلم اسم الله الأعظم ورابعها قول ابن زيد كان رجلاً صالحاً في جزيرة في البحر خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان وخامسها بل هو سليمان نفسه والمخاطب هو العفريت الذي كلمه وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فتحداهم أولاً ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت وهذا القول أقرب لوجوه أحدها أن لفظة ( الذي ) موضوعة

في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة والشخص المعروف بأنه عنده علم الكتاب هو سليمان عليه السلام فوجب انصرافه إليه أقصى ما في الباب أن يقال كان آصف كذلك أيضاً لكنا نقول إن سليمان عليه السلام كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبي فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان عليه السلام أولى الثاني أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان عليه السلام وأنه غير جائز الثالث أن سليمان عليه السلام لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق الرابع أن سليمان قال هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان
البحث الثاني اختلفوا في الكتاب فقيل اللوم المحفوظ والذي عنده علم منه جبريل عليه السلام وقيل كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء ومعلوم في الجملة أن ذلك مدح وأن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش فلذلك قالوا إنه الاسم الأعظم وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات
أما قوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ ففيه بحثان
الأول ( آتيك ) في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً واسم فاعل
الثاني اختلفوا في قوله قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ على وجهين الأول أنه أراد المبالغة في السرعة كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وهذا قول مجاهد الثاني أن نجريه على ظاهره والطرف تحريك الأجفان عند النظر فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور العين امتد إلى المرئي وإذا أغمضت الجفن فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين فهذا هو المراد من ارتداد الطرف وههنا سؤال وهو أنه كيف يجوز والمسافة بعيدة أن ينقل العرش في هذا القدر من الزمان وهذا يقتضي إما القول بالطفرة أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين جوابه أن المهندسين قالوا كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ثم إن زمان طلوعها زمان قصير فإذا قسمنا زمان طلوع تمام القرص على زمان القدر الذي بين الشام واليمن كانت اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال ثم إنه عليه السلام لما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر والكلام في تفسير الابتلاء قد مر غير مرة ثم إنه عليه السلام بين أن نفع الشكر عائد إلى الشاكر لا إلى الله تعالى أما أنه عائد إلى الشاكر فلوجوه أحدها أنه يخرج عن عهدة ما وجب عليه من الشكر وثانيها أنه يستمد به المزيد على ما قال لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبرهيم 7 ) وثالثها أن المشتغل بالشكر مشتغل باللذات الحسية وفرق ما بينهما كفرق ما بين المنعم والنعمة في الشرف ثم قال وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِى ٌّ كَرِيمٌ غني عن شكره لا يضره كفرانه كريم لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر
قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ

اعلم أن قوله نَكّرُواْ معناه اجعلوا العرش منكراً مغيراً عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة وكان لا تدل معرفتها به على ثبات عقلها وإذا غير دلت معرفتها أو توقفها فيه على فضل عقل ولا يمتنع صحة ما قيل إن سليمان عليه السلام ألقى إليه أن فيها نقصان عقل لكي لا يتزوجها أو لا تحظى عنده على وجه الحسد فأراد بما ذكرنا اختبار عقلها
أما قوله نَنظُرْ فقرىء بالجزم على الجواب وبالرفع على الاستئناف واختلفوا في أَتَهْتَدِى على وجهين أحدهما أتعرف أنه عرشها أم لا كما قدمنا الثاني أتعرف به نبوة سليمان أم لا ولذلك قال أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ وذلك كالذم ولا يليق إلا بطريقة الدلالة فكأنه عليه السلام أحب أن تنظر فتعرف به نبوته من حيث صار متنقلاً من المكان البعيد إلى هناك وذلك يدل على قدرة الله تعالى وعلى صدق سليمان عليه السلام ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها لأغراض كانت له فعند ذلك سألها
أما قوله أَهَكَذَا عَرْشُكِ فاعلم أن هكذا ثلاث كلمات حرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة ولم يقل أهذا عرشك ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً فقالت كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل هو هو ولا ليس به وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف
أما قوله وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا ففيه سؤالان وهو أن هذا الكلام كلام من وأيضاً فعلى أي شيء عطف هذا الكلام وعنه جوابان الأول أنه كلام سليمان وقومه وذلك لأن بلقيس لما سئلت عن عرشها ثم إنها أجابت بقولها كَأَنَّهُ هُوَ فالظاهر أن سليمان وقومه قالوا إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام ثم عطفوا على ذلك قولهم وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته قبل علمها ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام الثاني أنه من كلام بلقيس موصولاً بقولها كَأَنَّهُ هُوَ والمعنى وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة ثم أن قوله وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إلى آخر الآية يكون من كلام رب العزة
أما قوله تعالى وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ففيه وجهان الأول المراد وصدها عبادتها لغير الله عن الإيمان الثاني وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل وقرىء أنها بالفتح على أنه بدل من فاعل صد وبمعنى لأنها واحتجت المعتزلة بهذه الآية فقالوا لو كان تعالى خلق الكفر فيها لم يكن الصاد لها كفرها المتقدم ولا كونها من جملة الكفار بل كان يكون الصاد لها عن الإيمان تجدد خلق الله الكفر فيها والجواب أما على التأويل الثاني فلا شك في سقوط الاستدلال وأما على الأول فجوابنا أن كونها من جملة الكفار صار سبباً لحصول الداعية المستلزمة للكفر وحينئذ يبقى ظاهر الآية موافقاً لقولنا والله أعلم
قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّة ً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

اعلم أنه تعالى لما حكى إقامتها على الكفر مع كل ما تقدم من الدلائل ذكر أن سليمان عليه السلام أظهر من الأمر ما صار داعياً لها إلى الإسلام وهو قوله قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ والصرح القصر كقوله فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً وقيل صحن الدار وقرأ ابن كثير عن سَاقَيْهَا بالهمز ووجهه أنه سمع سؤقاً فأجرى عليه الواحد والممرد المملس روي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض كالماء بياضاً ثم أرسل الماء تحته وألقى فيه السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الإنس والجن والطير وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية وقيل خافوا أن يولد له منها ولد فيجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا إن في عقلها نقصاناً وإنها شعراء الساقين ورجلها كحافر حمار فاختبر سليمان عقلها بتنكير العرش واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ومعلوم من حال الزجاج الصافي أنه يكون كالماء فلما أبصرت ذلك ظنته ماءاً راكداً فكشفت عن ساقيها لتخوضه فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً وهذا على طريقة من يقول تزوجها وقال آخرون كان المقصود من الصرح تهويل المجلس وتعظيمه وحصل كشف الساق على سبيل التبع فلما قيل لها هو صرح ممرد من قوارير استترت وعجبت من ذلك واستدلت به على التوحيد والنبوة فقالت رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فيما تقدم بالثبات على الكفر ثم قالت وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت ظلمت نفسي بسوء ظني سليمان واختلفوا في أنه هل تزوجها أم لا وأنه تزوجها في هذه الحال أو قبل أن كشفت عن ساقيها والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها وليس لذلك ذكر في الكتاب ولا في خبر مقطوع بصحته ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها اختاري من قومك من أزوجك منه فقالت مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني فقال النكاح من الإسلام فقالت إن كان كذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكاً والله أعلم
القصة الثالثة قصة صالح عليه السلام
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِى الْمَدِينَة ِ تِسْعَة ُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة ً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذالِكَ لاّيَة ً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ

قرىء أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ بالضم على اتباع النون الباء
أما قوله فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ ففيه قولان أحدهما المراد فريق مؤمن وفريق كافر الثاني المراد قوم صالح قبل أن يؤمن منهم أحد
أما قوله يَخْتَصِمُونَ فالمعنى أن الذين آمنوا إنما آمنوا لأنهم نظروا في حجته فعرفوا صحتها وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون خصماً لمن لم يقبلها وإذا كان هذا الاختصام في باب الدين دل ذلك على أن الجدال في باب الدين حق وفيه إبطال التقليد
أما قوله قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ففيه بحثان الأول في تفسير استعجال السيئة قبل الحسنة وجهان أحدهما أن الذين كذبوا صالحاً عليه السلام لما لم ينفهم الحجاج توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب فقالوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( العنكبوت 29 ) على وجه الاستهزاء فعنده قال صالح لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ والمراد أن الله تعالى قد مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه وثانيهما أنهم كانوا يقولون لجهلهم إن العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت على زعمه أتينا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا ويدفع العذاب عنا فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وقال هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر

البحث الثاني أن المراد بالسيئة العقاب وبالحسنة الثواب فأما وصف العذاب بأنه سيئة فهو مجاز وسبب هذا التجويز إما لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً وأما وصف الرحمة بأنها حسنة فمنهم من قال إنه حقيقة ومنهم من قال إنه مجاز والأول أقرب ثم إن صالحاً عليه السلام لما قرر هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد وهو قولهم اطَّيَّرْنَا بِكَ أي تشاءمنا بك لأن الذي يصيبنا من شد وقحط فهو بشؤمك وبشؤم من معك
قال صاحب ( الكشاف ) كان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيمن وإن مر بارحاً تشاءم فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر وهو قدر الله وقسمته فأجاب صالح عليه السلام بقوله طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ أي السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم عند الله وهو قضاؤه وقدره إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم وقيل بل المراد إن جزاء الطيرة منكم عند الله وهو العقاب والأقرب الوجه الأول لأن القوم أشاروا إلى الأمر الحاصل فيجب في جوابه أن يكون فيه لا في غيره ثم بين أهذا جهل منهم بقوله بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ فيحتمل أن غيرهم دعاهم إلى هذا القول ويحتمل أن يكون المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته ثم إنه سبحانه قال وَكَانَ فِى الْمَدِينَة ِ تِسْعَة ُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفتهم وأحوالهم لا لاختلاف السبب فبين تعالى أنهم يفسدون في الأرض ولا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح فلهذا قال يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ ثم بين تعالى أن من جملة ذلك ما هموا به من أمر صالح عليه السلام
أما قوله تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ فيحتمل أن يكون أمراً أو خبراً في محل الحال بإضمار قد أي قالوا متقاسمين والبيات متابعة العدو ليلاً
أما قوله ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ يعني لو اتهمنا قومه حلفنا لهم أنا لم نحضر وقرىء ( مهلك ) بفتح الميم واللام وكسرها من هلك ومهلك بضم الميم من أهلك ويحتمل المصدر والمكان والزمان ثم إنه سبحانه قال وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وقد اختلفوا في مكر الله تعالى على وجوه أحدها أن مكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فهلكوا وهلك الباقون بالصيحة وثانيها جاؤا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة يرون الأحجار ولا يرمون رامياً وثالثها أن الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم
أما قوله أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ استئناف ومن قرأ بالفتح رفعه بدلاً من العاقبة أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هي تدمرهم أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر كان أي كان عاقبة مكرهم الدمار

أما قوله خَاوِيَة ٍ فهو حال عمل فيها ما دل عليه تلك وقرأ عيسى بن عمر ( خاوية ) بالرفع على خبر المبتدأ المحذوف والله أعلم
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَة ً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ
قال صاحب ( الكشاف ) واذكر لوطاً أو أرسلنا لوطاً بدلالة وَلَقَدْ أَرْسَلنَا ( النمل 45 ) عليه و ( إذ ) بدل على الأول ظرف على الثاني
أما قوله أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ فهو على وجه التنكير وإن كان بلفظ الاستفهام وربما كان التوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ
أما قوله وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ففيه وجوه أحدها أنهم كانوا لا يتحاشون من إظهار ذلك على وجه الخلاعة ولا يتكاتمون وذلك أحد ما لأجله عظم ذلك الفعل منهم فذكر في توبيخه لهم ماله عظم ذلك الفعل وثانيها أن المراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها وأن الله تعالى لم يخلق الذكر للذكر فهي مضادة لله في حكمته وثالثها تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم فإن قلت فسرت ( تبصرون ) بالعلم وبعده بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فكيف يكونون علماء وجهلاء قلت أراد تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك أو تجهلون العاقبة أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها ثم إنه تعالى بين جهلهم بأن حكى عنهم أنهم أجابوا عن هذا الكلام بما لا يصلح أن يكون جواباً له فقال فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ

فجعلوا الذي لأجله يخرجون أنهم يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش وهذا يوجب تنعيمهم وتعظيمهم أولى لكن في المفسرين من قال إنما قالوا ذلك على وجه الهزء ثم بين تعالى أنه نجاه وأهله إلا امرأته وأهلك الباقين وقد تقدم كل ذلك مشروحاً والله أعلم وههنا آخر القصص في هذه السورة والله أعلم
القول في خطاب الله عز وجل مع محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
في هذه الآية قولان الأول أنه متعلق بما قبله من القصص والمعنى الحمد لله على إهلاكهم وسلام على عباده الذين اصطفى بأن أرسلهم ونجاهم الثاني أنه مبتدأ فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام وكان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كالمخالف لمن قبله في أمر العذاب لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه أمره تعالى بأن يشكر ربه على ما خصه بهذه النعم وبأن يسلم على الأنبياء عليهم السلام الذين صبروا على مشاق الرسالة
فأما قوله اللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ فهو تبكيت للمشركين وتهكم بحالهم وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً على نهاية ضلالهم وجهلهم وقرىء يُشْرِكُونَ بالياء والتاء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا قرأها قال ( بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم )
ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى تكلم بعد ذلك في عدة فصول
الفصل الأول في الرد على عبدة الأوثان ومدار هذا الفصل على بيان أنه سبحانه وتعالى هو الخالق لأصول النعم وفروعها فكيف تحسن عبادة ما لا منفعة منه ألبتة ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر أنواعا
النوع الأول ما يتعلق بالسموات
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَة ٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الفرق بين أم وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ و أَمَّنْ خَلَقَ أن الأولى متصلة لأن المعنى أيهما خير وهذه منقطعة بمعنى بل والحديقة البستان عليه سور من الإحداق وهو الإحاطة وقيل ذَاتُ لأن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما يقال النساء ذهبت والبهجة الحسن لأن الناظر يبتهج به مَّعَ الله بَلْ أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له وقرىء أَنَّ مَعَ اللَّهِ بمعنى ( تدعون أو تشركون )
المسألة الثانية أنه تعالى بين أنه الذي اختص بأن خلق السموات والأرض وجعل السماء مكاناً للماء والأرض للنبات وذكر أعظم النعم وهي الحدائق ذات البهجة ونبه تعالى على أن هذا الإنبات في الحدائق لا يقدر عليه إلا الله تعالى لأن أحدنا لو قدر عليه لما احتاج إلى غرس ومصابرة على ظهور الثمرة وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يخص بالعبادة ثم قال بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ وقد

اختلفوا فيه فقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر وقيل يعدلون بالله سواه ونظير هذه الآية أول سورة الإنعام
المسألة الثالثة يقال ما حكمة الالتفات في قوله فَأَنبَتْنَا جوابه أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السموات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض الحرة وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها وفاعل السبب فاعل للمسبب فإذن أنا المنبت للشجرة فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم أزال هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله فَأَنبَتْنَا وقال مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والكرب والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلاً بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا
النوع الثاني ما يتعلق بالأرض
أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى َ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلاهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
قال صاحب ( الكشاف ) أَمَّن جَعَلَ وما بعده بدل من أَمَّنْ خَلَقَ ( النمل 6 ) فكان ( حكمها ) حكمه
واعلم أنه تعالى ذكر من منافع الأرض أموراً أربعة
المنفعة الأولى كونها قراراً وذلك لوجوه الأول أنه دحاها وسواها للاستقرار الثاني أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه الثالث أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات الرابع أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس ولولا ذلك لما اختلفت الفصول ولما حصلت المنافع الخامس أنه سبحانه وتعالى جعلها ساكنة فإنها لو كانت متحركة لكانت إما متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة وعلى التقديرين لا يحصل الانتفاع بالسكنى على الأرض السادس أنه سبحانه جعلها كفاتاً للأحياء والأموات وأنه يطرح عليها كل قبيح ويخرج منها كل مليح
المنفعة الثانية الأرض قوله وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً فاعلم أن أقسام المياه المنبعثة عن الأرض أربعة الأول ماء العيون السيالة وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة ثم لا يزال يستتبع جزء منها جزءاً الثاني ماء العيون الراكدة وهي تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت

إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها الثالث مياه القنى والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذاً تندفع إليه بأدنى حركة الرابع مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون الراكدة فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها
المنفعة الثالثة للأرض قوله وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى َ والمراد منها الجبال فنقول أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءاً ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئاً من البخار يتحلل ونفس الأرض التي تحته كالقرعة والعيون كالأذناب والبخار كالقوابل ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة أحدها أن في باطن الجبال من النداوات مالا يكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيها أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين وثالثها أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهراً وباطناً أكثر والاحتقان أشد السبب المحلل وهو الحر أقل فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال
المنفعة الرابعة للأرض قوله وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط وأيضاً فلينتفع بذلك الحاجز وأيضاً المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزاً لكي لا يفسد أحدهما بالآخر وقال بعض الحكماء في قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 19 20 ) قال عند عدم البغي يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر فإن قيل ولم جعل البحر ملحاً قلنا لولا ملوحته لأجن وانتشر فساد أجونته في الأرض وأحدث الوباء العام واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار والأنهار تستمد في الأكثر من العيون وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابهاً مستمراً فإن كثيراً من العيون يغور وكثيراً ما تقحط السماء فلا بد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت

الأنهار هناك فحصلت البحار من ذلك الجانب ثم إنه سبحانه لما بين أنه هو المختص بالقدرة على خلق الأرض التي فيها هذه المنافع الجليلة وجب أن يكون هو المختص بالإلهية ونبه بقوله تعالى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ على عظم جهلهم بالذهاب عن هذا التفكر
النوع الثالث ما يتعلق باحتياج الخلق إليه سبحانه
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّو ءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
اعلم أنه سبحانه نبه في هذه الآية على أمرين أحدهما قوله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ قال صاحب ( الكشاف ) الضرورة الحالة المحوجة إلى الالتجاء والاضطرار افتعال منها يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر واعلم أن المضطر هو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله تعالى وعن السدي الذي لا حول له ولا قوة وقيل المذنب إذا استغفر فإن قيل قد عم المضطرين بقوله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وكم من مضطر يدعو فلا يجاب جوابه قد بينا في أصول الفقه أن المفرد المعرف لا يفيد العموم وإنما يفيد الماهية فقط والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية وأيضاً فإنه تعالى وعد بالاستجابة ولم يذكر أنه يستجيب في الحال وتمام القول في شرائط الدعاء والإجابة مذكور في قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) فأما قوله تعالى وَيَكْشِفُ السُّوء فهو كالتفسير للاستجابة فإنه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة وضيق إلى سعة إلا القادر الذي لا يعجز والقاهر الذي لا ينازع وثانيهما قوله وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الاْرْضِ فالمراد توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن وأراد بالخلافة الملك والتسلط وقرىء يَذَّكَّرُونَ بالياء مع الإدغام وبالتاء مع الإدغام وبالحذف وما مزيدة أي يذكرون تذكرا قليلاً والمعنى نفي التذكر والقلة تستعمل في معنى النفي
النوع الرابع ما يتعلق أيضاً باحتياج الخلق ولكنه حاجة خاصة في وقت خاص
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

اعلم أنه تعالى نبه في هذه الآية على أمرين الأول قوله أَمَّن يَهْدِيكُمْ والمراد يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في الأرض إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر الثاني قوله وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ فإنه سبحانه هو الذي يحرك الرياح فتثير السحاب ثم تسوقه إلى حيث يشاء فإن قيل لا نسلم أنه تعالى هو الذي يحرك الرياح فإن الفلاسفة قالت الرياح إنما تتولد عن الدخان وليس الدخان كله هو الجسم الأسود المرتفع مما احترق بالنار بل كل جسم أرضي يرتفع بتصعيد الحرارة سواء كانت الحرارة حرارة النار أو حرارة الشمس فهو دخان قالوا وتولد الرياح من الأدخنة على وجهين أحدهما أكثري والآخر أقلي أما الأكثري فهو أنه إذا صعدت أدخنة كثيرة إلى فوق فعند وصولها إلى الطبقة الباردة إما أن ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء أو لا ينكسر فإن انكسر فلا محالة يثقل وينزل فيحصل من نزولها تموج الهواء فتحدث الريح وإن لم ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء فلا بد وأن يتصاعد إلى أن يصل إلى كرة النار المتحركة بحركة الفلك وحينئذ لا يتمكن من الصعود بسبب حركة النار فترجع تلك الأدخنة وتصير ريحاً لا يقال لو كان اندفاع هذه الأدخنة بسبب حركة الهواء العالي لما كانت حركتها إلى أسفل بل إلى جهة حركة الهواء العالي لأنا نقول الجواب من وجهين أحدهما أنه ربما أوجبت هيئة صعود تلك الأدخنة وهيئة لحوق المادة بها أن يتحرك إلى خلاف جهة المتحرك المانع كالسهم يصيب جسماً متحركاً فيعطفه تارة إلى جهته إن كان الحابس كما يقدر على صرف المتحرك عن متوجهه يقدر أيضاً على صرفه إلى جهة حركة نفسه وتارة إلى خلاف تلك الجهة إذا كان المفارق يقدر على الحبس ولا يقدر على الصرف الثاني أنه ربما كان صعود بعض الأدخنة من تحت مانعاً للأدخنة النازلة من فوق إلى أن يتسفل ذلك فلأجل هذا السبب يتحرك إلى سائر الجوانب واعلم أن لأهل الإسلام ههنا مقامين الأول أن يقيم الدلالة على فساد هذه العلة وبيانه من وجهين الأول أن الأجزاء الدخانية أرضية فهي أثقل من الأجزاء البخارية المائية ثم إن البخار لما يبرد ينزل على الخط المستقيم مطراً فالدخان لما برد فلماذا لم ينزل على الخط المستقيم بل ذهب يمنة ويسرة الثاني أن حركة تلك الأجزاء إلى أسفل طبيعية وحركتها يمنة ويسرة عرضية والطبيعية أقوى من العرضية وإذا لم يكن أقوى فلا أقل من المساواة ثم إن الريح عند حركتها يمنة ويسرة ربما تقوى على قلع الأشجار ورمي الجدار بل الجبال فتلك الأجزاء الدخانية عندما تحركت حركتها الطبيعية التي لها وهي الحركة إلى السفل وجب أن تهدم السقف ولكنا نرى الغبار الكثير ينزل من الهواء ويسقط على السقف ولا يحس بنزوله فضلاً عن أن يهدمه فثبت فساد ما ذكروه المقام الثاني هب أن الأمر كما ذكروه ولكن الأسباب الفاعلية والقابلية لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى فإنه لولا الشمس وتأثيرها في تصعيد الأبخرة والأدخنة ولولا طبقات الهواء وإلا لما حدثت هذه الأمور ومعلوم أن من وضع أسباباً فأدته إلى منافع عجيبة وحكم بالغة فذلك الواضع هو الذي فعل تلك المنافع فعلى جميع الأحوال لا بد من شهادة هذه الأمور على مدبر حكيم واجب لذاته قطعاً لسلسلة الحاجات

النوع الخامس ما يتعلق بالحشر والنشر
أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة بقوله أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ لأن نعم الآخرة بالثواب لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف فقد تضمن الكلام كل هذه النعم ومعلوم أنها لا تتم إلا بالأرزاق فلذلك قال وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء والاْرْضِ ثم قال مَّعَ الله بَلْ منكراً لما هم عليه ثم بين بقوله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أن لا برهان لكم فإذن هم مبطلون وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوى من وعلى فساد التقليد فإن قيل كيف قيل لهم أَم مَّنْ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم منكرون للإعادة جوابه كانوا معترفين بالابتداء ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار وههنا آخر الدلائل المذكورة على كمال قدرة الله تعالى
قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه المختص بالقدرة فكذلك بين أنه هو المختص بعلم الغيب وإذا ثبت ذلك ثبت أنه هو الإله المعبود لأن الإله هو الذي يصح منه مجازاة من يستحق الثواب على وجه لا يلتبس بأهل العقاب فإن قيل الاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت المستثنى منه ودلت الآية ههنا على استثناء الله سبحانه وتعالى عمن في السموات والأرض فوجب كونه ممن في السموات والأرض وذلك يوجب كونه تعالى في المكان والجواب هذه الآية متروكة الظاهر لأن من قال إنه تعالى في المكان زعم أنه فوق السموات ومن قال إنه ليس في مكان فقد نزهه عن كل الأمكنة فثبت بالإجماع أنه تعالى ليس في السموات والأرض فإذن وجب تأويله فنقول إنه تعالى ممن في السموات والأرض كما يقول المتكلمون الله تعالى في كل مكان على معنى أن علمه في الأماكن كلها لا يقال إن كونه في السموات والأرض مجاز وكونهم فيهن حقيقة وإرادة المتكلم بعبارة واحدة ومجازاً غير جائزة لأنا نقول كونهم في السموات والأرض كما أنه حاصل حقيقة وهو حصول ذواتهم في الأحياز فكذلك حاصل مجازاً وهو كونهم عالمين

بتلك الأمكنة فإذا حملنا هذه الغيبة على المعنى المجازي وهو الكون فيها بمعنى العلم دخل الرب سبحانه وتعالى والعبيد فيه فصح الاستثناء
أما قوله وَمَا يَشْعُرُونَ فهو صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم الغيب وذكر في جملة الغيب متى البعث بقوله أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فأيان بمعنى متى وهي كلمة مركبة من أي والآن وهو الوقت وقرىء أَيَّانَ بكسر الهمزة
أما قوله بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ فاعلم أن كلام صاحب ( الكشاف ) فيه مرتب على ثلاثة أبحاث
البحث الأول فيه اثنتا عشرة قراءة بل أدرك بل أدرك بل ادارك بل تدارك بل أأدرك بهمزتين بل آأدرك بألف بينهما بل آدرك بالتخفيف والنقل بل ادرك بفتح اللام وتشديد الدال وأصله بل أدرك على الاستفهام بلى أدرك بلى أأدرك أم تدارك أو أدرك
البحث الثانث ادارك أصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وادَّرك افتعل
البحث الثالث معنى ادَّرك علمهم انتهى وتكامل وأدرك تتابع واستحكم ثم فيه وجوه أحدها أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفتها وهم شاكون جاهلون وذلك قوله بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ يريد المشركين ممن في السماوات والأرض لأنهم لما كانوا من جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع كما يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم فإن قيل الآية سيقت لاختصاص الله تعالى بعلم الغيب وإن العباد لا علم لهم بشيء منه وإن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به فكيف ناسب هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة والجواب كأنه سبحانه قال كيف يعلمون الغيب مع أنهم شكوا في ثبوت الآخرة التي دلت الدلائل الظاهرة القاهرة عليها فمن غفل عن هذا الشيء الظاهر كيف يعلم الغيب الذي هو أخفى الأشياء الوجه الثاني أن وصفهم باستحكام العلم تهكم بهم كما تقول لأجهل الناس ما أعلمك على سبيل الهزء وذلك حيث شكوا في إثبات ما الطريق إليه واضح ظاهر الوجه الثالث أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى من قولك أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك أما وجه قراءة من قرأ بل أأدرك على الاستفهام فهو أنه استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم وكذا من قرأ أم أدرك وأم تدارك لأنها أم هي التي بمعنى بل والهمزة وأما من قرأ بلى أدرك فإنه لما جاء ببلى بعد قوله وَمَا يَشْعُرُونَ كان معناه بلى يشعرون ثم فسر الشعور بقوله أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم فكأنه قال شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون وأما من قرأ بلى أأدرك على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون ثم أنكر علمهم بكونها وإذ أنكر علمهم بكونها وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها فإن قلت هذه الإضرابات الثلاث ما معناها قلت ماهي إلا بيان درجاتهم وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم بأنهم لا يعلون أن القيامة كائنة ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وفيه نكتة وهي أنه تعالى جعل الآخرة مبدأ

عماهم فلذلك عداه بمن دون عن لأن الفكر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَآئِبَة ٍ فِى السَّمَآءِ والأرض إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في حال المبدأ تكلم بعده في حال المعاد وذلك لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من الشك في كمال القدرة أو في كمال العلم فإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن غيره وثبت أنه قادر على أن يعيد التركيب والحياة إليها وإذا ثبت إمكان ذلك ثبت صحة القول بالحشر فلما بين الله تعالى هذين الأصلين فيما قبل هذه الآية لا جرم لم يحكه في هذه الآية فحكى عنهم أنهم تعجبوا من إخراجهم أحياء وقد صاروا تراباً وطعنوا فيه من وجهين الأول قولهم لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا أي هذا كلام كما قيل لنا فقد قيل لمن قبلنا ولم يظهر له أثر فهو إذن من أساطير الأولين يريدون ما لا يصح من الأخبار فإن قيل ذكر ههنا لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا وفي آية أخرى لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَاذَا ( المؤمنون 83 ) فما الفرق قلنا التقديم دليل على أن المقدم هو المقصود الأصلي وأن الكلام سيق لأجله ثم إنه سبحانه لما كان قد بين الدلالة على هذين الأصلين ومن الظاهر أن كل من أحاط بهما فقد عرف صحة الحشر والنشر ثبت أنهم أعرضوا عنها ولم يتأملوها وكان سبب ذلك الإعراض حب الدنيا وحب الرياسة والجاه وعدم الانقياد للغير لا جرم اقتصر على بيان أن الدنيا فانية زائلة فقال قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وفيه سؤالان

السؤال الأول لم لم يقل كيف كانت عاقبة المجرمين جوابه لأن تأنيثها غير حقيقي ولأن المعنى كيف كان آخر أمرهم
السؤال الثاني لم لم يقل عاقبة الكافرين جوابه الغرض أن يحصل التخويف لكل العصاة ثم إنه تعالى صبر رسوله على ما يناله من هؤلاء الكفار فقال وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فجمع بين إزالة الغم عنه بكفرهم وبين إزالة الخوف من جانبهم وصار ذلك كالتكفل بنصرته عليهم وقوله وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ أي في حرج قلب يقال ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً بالفتح والكسر والضيق تخفيف الضيق ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم الوجه الثاني للكفار قولهم مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ وقوله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ دل على أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب الله تعالى بقوله عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ( البقرة 195 ) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم ومعناه تبعكم ولحقكم وقرأ الأعرج رَدِفَ لَكُم بوزن ذهب وهما لغتان والكسر أفصح وههنا بحثان
البحث الأول أن عسى ولعل في وعد الملوك ووعيدهم يدلان على صدق الأمر وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده
الثاني أنه قد ثبت بالدلائل العقلية أن عذاب الحجاب أشد من عذاب النار ولذلك قال كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) فقدم الحجاب على الجحيم ثم إنهم كانوا محجوبين في الحال فكان سبب العذاب بكماله حاصلاً إلا أن الاشتغال بالدنيا ولذاتها كالعائق عن إدراك ذلك الألم كما أن العضو الخدر إذا مسته النار فإن سبب الألم حاصل في الحال لكنه لا يحصل الشعور بذلك الألم لقيام العائق فإذا زال العائق عظم البلاء فكذا ههنا إذا زال البدن عظم عذاب الحجاب فقوله سبحانه عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ يعني المقتضي له والمؤثر فيه حاصل وتمامه إنما يحصل بعد الموت ثم إنه سبحانه بين السبب في ترك تعجيل العذاب فقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ والفضل الإفضال ومعناه أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة وأكثرهم لا يعرفون هذه النعمة ولا يشكرونها وهذه الآية تبطل قول من قال إنه لا نعمة لله على الكفار ثم بين سبحانه أنه مطلع على ما في قلوبهم فقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وههنا بحث عقلي وهو أنه قدم ما تكنه صدورهم على ما يعلنون من العلم والسبب أن ما تكنه صدورهم هو الدواعي والقصود وهي أسباب لما يعلنون وهي أفعال الجوارح والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فهذا هو السبب في ذلك التقديم قرىء ( تكن ) يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته يعني أنه تعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم
أما قوله وَمَا مِنْ غَائِبَة ٍ فقال صاحب ( الكشاف ) سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية فكانت التاء فيها بمنزلتها في العاقبة والعافية والنطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ والمبين الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة

إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لِّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أنه سبحانه لما تمم الكلام في إثبات المبدإ والمعاد ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنبوة ولما كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو القرآن لا جرم بين الله تعالى أولاً كونه معجزة من وجوه أحدها أن الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة والإنجيل مع العلم بأنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً وأنه لم يخالط أحداً من العلماء ولم يشتغل قط بالاستفادة والتعلم فإذن لا يكون ذلك إلا من قبل الله تعالى واختلفوا فقال بعضهم أراد به ما اختلفوا فيه وتباينوا وقال آخرون أراد به ما حرفه بعضهم وقال بعضهم بل أراد به أخبار الأنبياء والأول أقرب وثانيها قوله وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤمِنِينَ وذلك لأن بعض الناس قال إنا لما تأملنا القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنبوة وشرح صفات الله تعالى وبيان نعوت جلاله ما لم نجده في شيء من الكتب ووجدنا ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول موافقة لها وجدناه مبرأ عن التناقض والتهافت فكان هدى ورحمة من هذه الجهات ووجدنا القوى البشرية قاصرة على جمع كتاب على هذا الوجه فعلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى فكان القرآن معجزاً من هذه الجهة وثالثها أنه هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزوا عن معارضته وذلك معجز ثم إنه تعالى لما بين كونه معجزاً دالاً على الرسالة ذكر بعده أمرين الأول قوله إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ والمراد أن القرآن وإن كان يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون لكن لا تكن أنت في قيدهم فإن ربك هو الذي يقضي بينهم أي بين المصيب والمخطىء منهم وذلك كالزجر للكفار فلذلك قال وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القادر الذي لا يمنع العليم بما يحكم فلا يكون إلا الحق فإن قيل القضاء والحكم شيء واحد فقوله يَقْضِى بِحُكْمِهِ كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه والجواب معنى قوله بِحُكْمِهِ أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل أو أراد بحكمه ويدل عليه قراءة من قرأ ( بحكمه ) جمع حكمة الثاني أنه تعالى أمره بعد ظهور حجة رسالته بأن يتوكل على الله ولا يلتفت إلى أعداء الله ويشرع في تمشية مهمات الرسالة بقلب قوي فقال فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثم علل ذلك بأمرين أحدهما قوله إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ وفيه بيان أن المحق حقيق بنصرة الله تعالى وأنه لا يخذل وثانيهما قوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وإنما حسن جعله سبباً للأمر بالتوكل وذلك

لأن الإنسان ما دام يطمع في أحد أن يأخذ منه شيئاً فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته فإذا قطع طمعه عنه قوي قلبه على إظهار مخالفته فالله سبحانه وتعالى قطع محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم بأن بين له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمى فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل وهذا سبب لقوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي فإن قيل ما معنى قوله إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ جوابه هو تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته
أما قوله تعالى وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ فالمعنى ما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته أي يصدقون بها فهم مسلمون أي مخلصون من قوله بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ( البقرة 112 ) يعني جعله سالماً لله تعالى خالصاً له والله أعلم
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّة ً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِأايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّة ٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِأايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِأايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن الله تعالى بين بالدلائل القاهرة كمال القدرة وكمال العلم ثم فرع عليهما القول بإمكان الحشر ثم بين الوجه في كون القرآن معجزاً ثم فرع عليه نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم تكلم الآن في مقدمات قيام القيامة وإنما أخر تعالى الكلام في هذا الباب عن إثبات النبوة لما أن هذه الاْشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق وهذا هو النهاية في جودة الترتيب واعلم أنه تعالى ذكر تارة ما يكون كالعلامة لقيام القيامة وتارة الأمور التي تقع عند قيام القيامة فذكر أولاً من علامات القيامة دابة الأرض والناس تكلموا فيها من وجوه أحدها في مقدار جسمها وفي الحديث أن طولها ستون ذراعاً وروي أيضاً أن رأسها تبلغ السحاب وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب وثانيها في كيفية خلقتها فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن إيَّل وصدر أسد ولون نمر وخاصرة ( بقرة ) وذنب كبش وخف بعير وثالثها في كيفية خروجها عن علي عليه السلام أنه تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام ورابعها في موضع خروجها ( سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أين تخرج الدابة فقال من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى المسجد

الحرام ) وقيل تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية وخامسها في عدد خروجها فروي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ثم تكمن دهراً طويلاً فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم يقفون ( نظارة )
واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور فإن صح الخبر فيه عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وإلا لم يلتفت إليه
أما قوله تعالى وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم فالمراد من القول متعلقه وهو ما وعدوا به من قيام الساعة ووقوعه حصوله والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها أما دابة الأرض فقد عرفتها
وأما قوله تُكَلّمُهُمْ فقرىء ( تكْلِمهم ) من الكلم وهو الجرح روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى عليه السلام وخاتم سليمان فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه وتنكت الكافر في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه واعلم أنه يجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضاً على معنى التكثير يقال فلان مكلم أي مجرح وقرأ أبي ( تنبئهم ) وقرأ ابن مسعود تكلمهم بأن الناس والقراءة بإن مكسورة حكاية لقول الدابة ذلك أو هي حكاية لقول الله تعالى بين به أنه أخرج الدابة لهذه العلة فإن قيل إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف يقول ( بآياتنا ) جوابه أن قولها حكاية لقول الله تعالى أو على معنى بآيات ربنا أو لاختصاصها بالله تعالى أضافت آيات الله إلى نفسها كما يقال بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا وإنما هي خيل مولاه وبلاده ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار أي تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون
وأما قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّة ٍ فَوْجاً مّمَّن يُكَذّبُ بِئَايَاتِنَا فاعلم أن هذا من الأمور الواقعة بعد قيام القيامة فالفرق بين من الأولى والثانية أن الأولى للتبعيض والثانية للتبيين كقوله مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 )
أما قوله فَهُمْ يُوزَعُونَ معناه يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه كما وصفت جنود سليمان بذلك وقوله حَتَّى إِذَا جَاءوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِئَايَاتِى فهذا وإن احتمل معجزات الرسل كما قاله بعضهم فالمراد كل الآيات فيدخل فيه سائر الكفار الذين كذبوا بآيات الله أجمع أو بشيء منها
أما قوله وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً فالواو للحال كأنه قال أكذبتم بها بادي الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها
أما قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فالمراد لما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ا كأنه قال كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل ثم قال وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب تكذيبهم بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ( المرسلات 35 ) ثم إنه سبحانه بعد أن خوفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً

أما وجه دلالته على التوحيد فلما ظهر في العقول أن التقليب من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية وإما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرته تعالى في هذه الصورة على القلب من النور إلى الظلمة وبالعكس فأي امتناع في ثبوت قدرته على القلب من الحياة إلى الموت مرة ومن الموت إلى الحياة أخرى وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الخلق منافع عظيمة فما المانع من بعثتهم إلى الخلق لأجل تحصيل تلك المنافع فقد ثبت أن هذه الكلمة الواحدة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة التي منها منشؤ كفرهم واستحقاقهم العذاب ثم في الآية سؤالان
السؤال الأول ما السبب في أن جعل الإبصار للنهار وهو لأهله جوابه تنبيهاً على كمال هذه الصفة فيه
السؤال الثاني لما قال جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ فلم لم يقل والنهار لتبصروا فيه جوابه لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية
وأما قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خص المؤمنين بالذكر وإن كانت أدلة للكل من حيث اختصوا بالقبول والانتفاع على ما تقدم في نظائره
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ
اعلم أن هذا هو العلامة الثانية لقيام القيامة
أما قوله وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ففيه وجوه أحدها أنه شيء شبيه بالقرن وأن إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه بإذن الله تعالى فإذا سمع الناس ذلك الصوت وهو في الشدة بحيث لا تحتمله طبائعهم يفزعون عنده ويصعقون ويموتون وهو كقوله تعالى فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( المدثر 8 ) وهذا قول الأكثرين وثانيها يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموت فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع صوت الآلة وثالثها أن الصور جمع الصور وجعلوا النفخ فيها نفخ الروح والأول أقرب لدلالة الظاهر عليه ولا مانع يمنع منه
أما قوله فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ فاعلم أنه إنما قال ( ففزع ) ولم يقل فيفزع للإشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به والمراد فزعهم عند النفخة الأولى

أما قوله إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ فالمراد إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل الشهداء وعن الضحاك الحور وخزنة النار وحملة العرش وعن جابر موسى منهم لأنه صعق مرة ومثله قوله تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وليس فيه خبر مقطوع والكتاب إنما يدل على الجملة
أما قوله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ فقرىء ( أتوه ) و ( أتاه ) ودخرين وداخرين فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ والداخر والدخر الصاغر وقيل معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمر الله وانقيادهم له
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة ً وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَى ْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
اعلم أن هذا هو العلامة الثالثة لقيام القيامة وهي تسيير الجبال والوجه في حسبانهم أنها جامدة فلأن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً
أما قوله صُنْعَ اللَّهِ فهو من المصادر المؤكدة كقوله وَعَدَ اللَّهُ ( النساء 95 ) و صِبْغَة َ اللَّهِ ( البقرة 138 ) إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ والمعنى أنه لما قدم ذكر هذه الأمور التي لا يقدر عليها سواه جعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب قال القاضي عبد الجبار فيه دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه والجواب أن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات فيمتنع وصف الأعراض بها والله أعلم
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما تكلم في علامات القيامة شرح بعد ذلك أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكون مطيعاً أو عاصياً أما المطيع فهو الذي جاء بالحسنة وله أمران أحدهما أن له ما هو خير منها وذلك هو الثواب فإن قيل الحسنة التي جاء العبد بها يدخل فيها معرفة الله تعالى والإخلاص في الطاعات والثواب إنما هو الأكل والشرب فكيف يجوز أن يقال الأكل والشرب خير من معرفة الله جوابه من جوابه

أحدها أن ثواب المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ولذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة ولو لم تحمل الآية على ذلك لزم أن يكون الأكل والشرب خيراً من معرفة الله تعالى وأنه باطل وثانيها أن الثواب خير من العمل من حيث إن الثواب دائم والعمل منقضي ولأن العمل فعل العبد والثواب فعل الله تعالى وثالثها فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا أي له خير حاصل من جهتها وهو الجنة
السؤال الثاني الحسنة لفظة مفردة معرفة وقد ثبت أنها لا تفيد العموم بل يكفي في تحققها حصول فرد وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأناً وأعلاها درجة وهو الإيمان فلهذا قال ابن عباس من أفراد الحسنة كلمة الشهادة وهذا يوجب القطع بأن لا يعاقب أهل الإيمان وجوابه ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلداً الأمر الثاني للمطيع هو أنهم آمنون من كل فزع لا كما قال بعضهم إن أهوال القيامة تعم المؤمن والكافر فإن قيل أليس أنه تعالى قال في أول الآية فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( النمل 87 ) فكيف نفى الفزع ههنا جوابه أن الفزع الأول هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس لشدة تقع وهو يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه كما قيل يدخل الرجل بصدر هياب وقلب وجاب وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وأما الثاني فالخوف من العذاب أما قراءة من قرأ من فزع بالتنوين فهي تحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العقاب وأما ما يلحق الإنسان من الهيبة والرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد وفي الأخبار ما يدل عليه ومن فزع شديد مفرط الشدة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار وأمن يعدي بالجار وبنفسه كقوله تعالى أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ ( الأعراف 99 ) فهذا شرح حال المطيعين أما شرح حال العصاة فهو قوله وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ قيل السيئة الإشراك وقوله فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ فاعلم أنه يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة فكأنه قيل فكبوا في النار كقوله فَكُبْكِبُواْ ( الشعراء 94 ) ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذاناً بأنهم يلقون على وجوههم فيها ( مكبوبين )
أما قوله هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فيجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول
إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَة ِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَى ءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة وصفة أهل القيامة من الثواب

والعقاب وذلك كمال ما يتعلق ببيان أصول الدين ختم الكلام بهذه الخاتمة اللطيفة فقال قل يا محمد إني أمرت بأشياء الأول أني أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا أتخذ له شريكاً وأن الله تعالى لما قدم دلائل التوحيد فكأنه أمر محمداً بأن يقول لهم هذه الدلائل التي ذكرتها لكم إن لم تفد لكم القول بالتوحيد فقد أفادت لي ذلك فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها فإني مصر عليها غير مرتاب فيها ثم إنه وصف الله تعالى بأمرين أحدهما أنه رب هذه البلدة والمراد مكة وإنما اختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه
أما قوله الَّذِى حَرَّمَهَا فقرىء ( التي حرمها ) وإنما وصفها بالتحريم لوجوه أحدها أنه حرم فيها أشياء على من يحج وثانيها أن اللاجيء إليها آمن وثالثها لا ينتهك حرمتها إلا ظالم ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله تعالى فكأنه قال لما علمت وعلمتم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب عليَّ أن أخصه بالعبادة وثانيها وصف الله تعالى بقوله وَلَهُ كُلُّ شَىء وهذا إشارة إلى ما تقدم من الدلائل المذكورة في هذه السورة على التوحيد من كونه تعالى خالقاً لجميع النعم فأجمل ههنا تلك المفصلات وهذا كمن أراد صفة بعض الملوك بالقوة فيعد تلك التفاصيل ثم بعد التطويل يقول إن كل العالم له وكل الناس في طاعته الثاني أمر بأن يكون من المسلمين الثالث أمر بأن يتلو القرآن عليهم ولقد قام بكل ذلك صلوات الله عليه أتم قيام فمن اهتدى في هذه المسائل الثلاث المتقدمة وهي التوحيد والحشر والنبوة فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ أي منفعة اهتدائه راجعة إليه وَمَن ضَلَّ فلا علي وما أنا إلا رسول منذر ثم إنه سبحانه ختم هذه ( السورة ) بخاتمة في نهاية الحسن وهي قوله وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة أو على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة وبالإنذار سَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ القاهرة فَتَعْرِفُونَهَا لكن حين لا ينفعكم الإيمان وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لأنه من وراء جزاء العاملين والله أعلم
تم تفسير السورة والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي
وعلى آله وصحبه أجمعين على أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

سورة القصص
مكية كلها إلا قوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلُهُ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ وقيل إلا آية وهي إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ الآية وهي سبع
أو ثمان وثمانون آية
طس م تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَة ً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْى ِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأرض وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ
اعلم أن قوله تعالى طسم كسائر الفواتح وقد تقدم القول فيها و تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة و الْكِتَابِ الْمُبِينِ هو إما اللوح وإما الكتاب الذي وعد الله إنزاله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فبين أن آيات هذه السورة هي آيات ذلك الكتاب ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام أو لأنه بين بفصاحته أنه من كلام الله دون كلام العباد أو لأنه يبين صدق نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو لأنه يبين خبر الأولين والآخرين أو لأنه يبين كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال
أما قوله تعالى نَقُصُّ عَلَيْكَ أي على لسان جبريل عليه السلام لأنه كان يتلو على محمد حتى يحفظه وقوله مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فهو مفعول نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نتلو عليك بعض خبرهما بالحق محقين كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنون 20 ) وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه وجهان أحدهما أنه تعالى قد أراد

بذلك من لا يؤمن أيضاً لكنه خص المؤمنين بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والثاني يحتمل أنه تعالى علم أن الصلاح في تلاوته هو إيمانهم وتكون إرادته لمن لا يؤمن كالتبع قوله تعالى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ قرىء فرعون بضم الفاء وكسرها والكسر أحسن وهو كالقسطاس والقسطاس عَلاَ استكبر وتجبر وتعظم وبغى والمراد به قوة الملك والعلو في الأرض يعني أرض مملكته ثم فصل الله تعالى بعض ذلك بقوله وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً أي فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم مخالفته أو يشيع بعضهم بعضاً في استخدامه أو أصنافاً في استخدامه أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ليكونوا له أطوع أو المراد ما فسره بقوله يَسْتَضْعِفُ طَائِفَة ً مّنْهُمْ أي يستخدمهم يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فهذا هو المراد بالشيع قوله يَسْتَضْعِفُ طَائِفَة ً مّنْهُمْ تلك الطائفة بنو إسرائيل وفي سبب ذبح الأبناء وجوه أحدها أن كاهناً قال له يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب ملكك على يده فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم وعند أكثر المفسرين بقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة قال وهب قتل القبط في طلب موسى عليه السلام تسعين ألفاً من بني إسرائيل قال بعضهم في هذا دليل على حمق فرعون فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن وإن كذب فما وجه القتل وهذا السؤال قد يذكر في تزييف علم الأحكام من علم النجوم ونظيره ما يقوله نفاة التكليف إن كان زيد في علم الله وفي قضائه من السعداء فلا حاجة إلى الطاعة وإن كان من الأشقياء فلا فائدة في الطاعة وأيضاً فهذا السؤال لو صح لبطل علم التعبير ومنفعته وأيضاً فجواب المنجم أن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا وعلى هذا التقدير لا يكون السعي في قتله عبثاً
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأن إسناد مثل هذا الخبر إلى الكاهن اعتراف بأنه قد يخبر عن الغيب على سبيل التفصيل ولو جوزناه لبطلت دلالة الأخبار عن الغيب على صدق الرسل وهو بإجماع المسلمين باطل وثانيها وهو قول السدي أن فرعون رأى في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس واشتملت على مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه فقالوا يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يده هلاك مصر فأمر بقتل الذكور وثالثها أن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه وفرعون كان قد سمع ذلك فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل وهذا الوجه هو الأولى بالقبول قال صاحب ( الكشاف ) يَسْتَضْعِفُ حال من الضمير في وَجَعَلَ أو صفة لشيعا أو كلام مستأنف و يُذَبّحُ بدل من يَسْتَضْعِفُ وقوله إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يدل على أن ذلك القتل ما حصل منه إلا الفساد وأنه لا أثر له في دفع قضاء الله تعالى
أما قوله وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ فهو جملة معطوفة على قوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى عليه السلام وفرعون واقتصاصاً له واللفظ في قوله وَنُرِيدُ للاستقبال ولكن أريد به حكاية حال ماضية ويجوز أن يكون حالاً من يَسْتَضْعِفُ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم فإن قيل كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المن عليهم وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يتوقف إلى وقت آخر قلنا لما كان منة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم

أما قوله وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً أي متقدمين في الدنيا والدين وعن مجاهد دعاة إلى الخير وعن قتادة ولاة كقوله وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ( المائدة 20 ) وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ يعني لملك فرعون وأرضه وما في يده
أما قوله وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ فاعلم أنه يقال مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه ( أو يرقد ) فوطأه ومهده ونظيره أرض له ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام أن ينفذ أمرهم ويطلق أيديهم وقوله وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ قرىء وَيَرَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا أي يرون منهم ما كانوا خائفين منه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود بني إسرائيل
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ ( القصص 5 ) ابتدأ بذكر أوائل نعمه في هذا الباب بقوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى والكلام في هذا الوحي ذكرناه في سورة طه ( 37 38 ) في قوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى وقوله أَنْ أَرْضِعِيهِ كالدلالة على أنها أرضعته وليس في القرآن حد ذلك فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ أن يفطن به جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ قال ابن جريج إنه بعد أربعة أشهر صاح فألقى في اليم والمراد باليم ههنا النيل وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى والخوف غم يحصل بسبب مكروه يتوقع حصوله في المستقبل والحزن غم يلحقه بسبب مكروه حصل في الماضي فكأنه قيل ولا تخافي من هلاكه ولا تحزني بسبب فراقه أَنَاْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ لتكوني أنت المرضعة له وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلى أهل مصر والشام وقصة الإلقاء في اليم قد تقدمت في سورة طه وقال ابن عباس إن أم موسى عليه السلام لما تقارب ولادها كانت قابلة من القوابل التي وكلهم فرعون بالحبالى مصافية لأم موسى عليه السلام فلما أحست بالطلق أرسلت إليها وقالت لها قد نزل بي ما نزل ولينفعني اليوم حبك إياي فجلست القابلة فلما وقع موسى عليه السلام إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى عليه السلام قلبها فقالت يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ولكني وجدت لابنك هذا حباً شديداً فاحتفظي بابنك فإنه أراه عدونا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل

على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس فلفته ووضعته في تنور مسجور فطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا لم دخلت القابلة عليك قالت إنها حبيبة لي دخلت للزيارة فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى أين الصبي قالت لا أدري فسمعت بكاء في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً فأخذته ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت فرعون جد في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتاً ثم تقذف التابوت في النيل فذهبت إلى نجار من أهل مصر فاشترت منه تابوتاً فقال لها ما تصنعين به فقالت ابن لي أخشى عليه كيد فرعون أخبؤه فيه وما عرفت أنه يفشي ذلك الخبر فلما انصرفت ذهب النجار ليخبر به الذباحين فلما جاءهم أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فأخذ الله بصره ولسانه فجعل لله تعالى أنه إن رد عليه بصره ولسانه فإنه لا يد لهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق فرد عليه بصره ولسانه وانطلقت أم موسى وألقته في النيل وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطىء إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته وفتحته فإذا هي بصبي صغير في المهد وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر فرقاً منك فهم فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله
أما قوله ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ فالالتقاط إصابة الشيء من غير طلب والمراد بآل فرعون جواريه
أما قوله لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً فالمشهور أن هذه اللام يراد بها العاقبة قالوا وإلا نقض قوله وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ ونقض قوله وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مّنّى ( طه 39 ) ونظير هذه اللام قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) وقوله الشاعر لدوا للموت وابنوا للخراب
واعلم أن التحقيق ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن هذه اللام هي لام التعليل على سبيل المجاز وذلك لأن مقصود الشيء وغرضه يؤول إليه أمره فاستعملوا هذه اللام فيما يؤول إليه الشيء على سبيل التشبيه كإطلاق لفظ الأسد على الشجاع والبليد على الحمار قرأ حمزة والكسائي ( حزناً ) بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بالفتح وهما لغتان مثل السقم والسقم
أما قوله كانوا خاطئين ففيه وجهان أحدهما قال الحسن معنى كَانُواْ خَاطِئِينَ ليس من الخطيئة

بل المعنى وهم لا يشعرون أنه الذي يذهب بملكهم وأما جمهور المفسرين فقالوا معناه كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم وقرىء خاطين تخفيف خاطئين أي خاطين الصواب إلى الخطأ وبين تعالى أنها التقطته ليكون قرة عين لها وله جميعاً قال ابن إسحق إن الله تعالى ألقى محبته في قلبها لأنه كان في وجهه ملاحة كل من رآه أحبه ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور ولأنها لما فتحت التابوت رأته يمتص إصبعه ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال برصها ويقال ما كان لها ولد فأحبته قال ابن عباس لما قالت فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ فقال فرعون يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه فقال عليه السلام ( والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت لهداه الله تعالى كما هداها ) قال صاحب ( الكشاف ) قُرَّة ُ عَيْنٍ خبر مبتدأ محذوف ولا يقوى أن يجعل مبتدأ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ خبراً ولو نصب لكان أقوى وقراءة ابن مسعود دليل على أنه خبر قرأ لاَ تَقْتُلُوهُ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ وذلك لتقديم لا تقتلوه ثم قالت المرأة عَسَى أَن يَنفَعَنَا فنصيب منه خيراً أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا لأنه أهل للتبني
أما قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فأكثر المفسرين على أنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وعلى يده وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل وقال ابن عباس يريد لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام وقال آخرون هذا من تمام كلام المرأة أي لا يشعر بنو إسرائيل وأهل مصر أن التقطناه وهذا قول الكلبي
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
ذكروا في قوله فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغاً وجوهاً أحدها قال الحسن فارغاً من كل هم إلا من هم موسى عليه السلام وثانيها قال أبو مسلم فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ( إبراهيم 43 ) وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) فارغاً صفراً من العقل والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف ورابعها قال الحسن ومحمد بن إسحق فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها أن ألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك فجاءها الشيطان فقال لها كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت إهلاكه ولما أتاها خبر موسى عليه السلام أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وخامسها قال أبو عبيدة فارغاً من الحزن لعلمها بأنه لا يقتل اعتماداً على تكفل الله بمصلحته قال ابن قتيبة وهذا من العجائب كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن والله تعالى يقول لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع

أنها لشدة ثقتها بوعد الله لم تخف عند إظهار اسمه وأيقنت أنها وإن أظهرت فإنه يسلم لأجل ذلك الوعد إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار يضر فربط الله على قلبها ويحتمل قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بالوحي فأمنت وزال عن قلبها الحزن فعلى هذا الوجه يصح أن يتأول على أن قلبها سلم من الحزن على موسى أصلاً وفيه وجه ثالث وهو أنها سمعت أن امرأة فرعون عطفت عليه وتبنته إن كادت لتبدي به بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً بما سمعت لولا أن سكنا ما بها من شدة الفرح والابتهاج لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الواثقين بوعد الله تعالى لا يتبنى امرأة فرعون اللعين وبعطفها وقرىء ( قرعاً ) أي خالياً من قولهم أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء وفرغاً من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر يعني بطل قلبها من شدة ما ورد عليها
أما قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ فاعلم أن على قول من فسر الفراغ بالفراغ من الحزن قد ذكرنا تفسير قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى وأما على قول من فسر الفراغ بحصول الخوف فذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني وقال في رواية عكرمة كادت تقول واإبناه من شدة وجدها به وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع وقال الكلبي ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون وقال السدي لما أخذ ابنها كادت تقول هو ابني فعصمها الله تعالى ثم قال لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدقين بوعد الله وهو قوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ( القصص 7 )
أما قوله وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ أي اتبعي أثره وانظري إلى أن وقع وإلى من صار وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم فَبَصُرَتْ بِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما أبصرته قال المبرد أبصرته وبصرت به بمعنى واحد وقوله عَن جُنُبٍ أي عن بعد وقرىء عن جانب وعن جنب والجنب الجانب أي نظرت نظرة مزورة متجانبة وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بحالها وغرضها
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَى ْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن قوله وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ يقتضي تحريمها من قبله فإذا لم يصح بالتعبد والنهي لتعذر التمييز فلا بد من فعل سواه وذلك الفعل يحتمل أنه تعالى مع حاجته إلى اللبن أحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء فلذلك لم يرضع أو أحدث في لبنهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه أو وضع في لبن أمه

لذة فلما تعودها لا جرم كان يكره لبن غيرها وعن الضحاك كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهو موضع الرضاع أي الثدي أو الرضاع وقوله مِن قَبْلُ أي من قبل أن رددناه إلى أمه ومن قبل مجيء أخت موسى عليه السلام ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا فعند ذلك قالت أخته هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه وهم له ناصحون لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه ولا يخونونكم فيه والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد وقال السدي إنها لما قالت وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ دل ظاهر ذلك على أن أهل البيت يعرفونه فقال لها هامان قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه ولكني إنما قلت هم للملك ناصحون ليزول شغل قلبه وكل ما روي في هذا الباب يدل على أن فرعون كان بمنزلة آسية في شدة محبته لموسى عليه السلام لا على ما قال من زعم أنها كانت مختصة بذلك فقط ثم قال تعالى فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمّهِ بهذا الضرب من اللطف كَى ْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فيما كان وعدها من أنه يرده إليها ولقد كانت عالمة بذلك ولكن ليس الخبر كالعيان فتحققت بوجود الموعود وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيه وجوه أربعة أحدها ولكن أكثر الناس في ذلك العهد وبعد لا يعلمون لإعراضهم عن النظر في آيات الله وثانيها قال الضحاك ومقاتل يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعدها برده إليها وثالثها هذا كالتعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى عليه السلام فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً ورابعها أن يكون المعنى إنا إنما رددناه إليها لَتَعْلَمُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ والمقصود الأصلي من ذلك الرد هذا الغرض الديني ولكن الأكثر لا يعلمون أن هذا هو الغرض الأصلي وأن ما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع قال الضحاك لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه قالت لا قال فما بالك قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَة َ عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَب إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ
اعلم أن في قوله بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى قولين أحدهما أنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة

واعتدال المزاج والبنية والثاني وهو الأصح أنهما معنيان متغايران ثم اختلفوا على وجوه أحدها وهو الأقرب أن الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية وثانيها الأشد عبارة عن كمال القوة والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة وثالثها الأشد عبارة عن البلوغ والاستواء عبارة عن كمال الخلقة ورابعها قال ابن عباس الأشد ما بين الثمان عشرة سنة إلى الثلاثين ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان ومن الأربعين يأخذ في النقصان وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما حق لأن الإنسان يكون في أول العمر في النمو والتزايد ثم يبقى من غير زيادة ولا نقصان ثم يأخذ في الانتقاص فنهاية مدة الازدياد من أول العمر إلى العشرين ومن العشرين إلى الثلاثين يكون التزايد قليلاً والقوة قوية جداً ثم من الثلاثين إلى الأربعين يقف فلا يزداد ولا ينتقص ومن الأربعين إلى الستين يأخذ في الانتقاص الخفي ومن الستين إلى آخر العمر يأخذ في الانتقاص البين الظاهر ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة والحكمة فيه ظاهرة لأن الإنسان يكون إلى رأس الأربعين قواه الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قوية مستكلمة فيكون الإنسان منجذباً إليها فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي
المسألة الثانية اختلفوا في واحد الأشد قال الفراء الأشد واحدها شد في القياس ولم يسمع لها بواحد وقال أبو الهيثم واحد الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة والشدة القوة والجلادة
أما قوله اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ففيه وجهان الأول أنها النبوة وما يقرن بها من العلوم والأخلاق وعلى هذا التقدير ليس في الآية دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله وَدَخَلَ الْمَدِينَة َ لا تفيد الترتيب الثاني آتيناه الحكمة والعلم قال تعالى وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ ( الأحزاب 34 ) وهذا القول أولى لوجوه أحدها أن النبوة أعلى الدرجات البشرية فلا بد وأن تكون مسبوقة بالكمال في العلم والسيرة المرضية التي هي أخلاق الكبراء والحكماء وثانيها أن قوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ يدل على أنه إنما أعطاه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه والنبوة لا تكون جزاء على العمل وثالثها أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ لأن قوله وَكَذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الحكم والعلم ثم بين إنعامه عليه قبل قتل القبطي وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المدينة فالجمهور على أنها هي المدينة التي كان يسكنها فرعون وهي قرية على رأس فرسخين من مصر وقال الضحاك هي عين شمس
المسألة الثانية اختلفوا في معنى قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مّنْ أَهْلِهَا على أقوال فالقول الأول أن موسى عليه السلام لما بلغ أشده واستوى وآتاه الله الحكم والعلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل فتكلم بالحق وعاب دينهم واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن أخافوه وخافهم وكان له من بني

إسرائيل شيعة يقتدون به ويسمعون منه وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفاً فدخلها يوماً على حين غفلة من أهلها ثم الأكثرون على أنه عليه السلام دخلها نصف النهار وقت ما هم قائلون وعن ابن عباس يريد بين المغرب والعشاء والأول أولى لأنه تعالى أضاف الغفلة إلى أهلها وإذا دخل المرء مستتراً لأجل خوف لا تضاف الغفلة إلى القوم القول الثاني قال السدي إن موسى عليه السلام حين كبر كان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ما يلبس ويدعى موسى ابن فرعون فركب يوماً في أثره فأدركه المقيل في موضع فدخلها نصف النهار وقد خلت الطرق فهو قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ القول الثالث قال ابن زيد ليس المراد من قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مّنْ أَهْلِهَا حصول الغفلة في تلك الساعة بل المراد الغفلة من ذكر موسى وأمره فإن موسى حين كان صغيراً ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته فأراد فرعون قتله فجيء بجمر فأخذه وطرحه في فيه فمنه عقدة لسانه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره وذلك قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الروايات على بعض لأنه ليس في القرآن ما يدل على شيء منها
المسألة الثالثة قال تعالى فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ قال الزجاج قال هذا وهذا وهما غائبان على وجه الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال هذا من شيعته وهذا من عدوه ثم اختلفوا فقال مقاتل الرجلان كانا كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط واحتج عليه بأن موسى عليه السلام قال له في اليوم الثاني إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ ( القصص 18 ) والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلماً لأنه لا يقال فيمن يخالف الرجل في دينه وطريقه إنه من شيعته وقيل إن القبطي الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه وقيل الرجلان المقتتلان أحدهما السامري وهو الذي من شيعته والآخر طباخ فرعون والله أعلم بكيفية الحال فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه أي سأله أن يخلصه منه واستنصره عليه فوكزه موسى عليه السلام الوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل بجمع الكف وقرأ ابن مسعود ( فلكزه موسى ) وقال بعضهم الوكز في الصدر واللكز في الظهر وكان عليه السلام شديد البطش وقال بعض المفسرين فوكزه بعصاه قال المفضل هذا غلط لأنه لا يقال وكزه بالعصا فَقَضَى عَلَيْهِ أي أماته وقتله
المسألة الرابعة احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء عليه السلام من وجوه أحدها أن ذلك القبطي إما أن يقال إنه كان مستحق القتل أو لم يكن كذلك فإن كان الأول فلم قال هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ولم قال رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ ولم قال في سورة أخرى فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 20 ) وإن كان الثاني وهو أن ذلك القبطي لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنباً وثانيها أن قوله وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ يدل على أنه كان كافراً حربياً فكان دمه مباحاً فلم استغفر عنه والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً وثالثها أن الوكز لا يقصد به القتل ظاهراً فكان ذلك القتل قتل خطأ فلم استغفر منه والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال إنه كان لكفره مباح الدم
أما قوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ففيه وجوه أحدها لعل الله تعالى وإن أباح قتل الكافر إلا أنه قال

الأولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر فلما قتل فقد ترك ذلك المندوب فقوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان وثانيها أن قوله ( هذا ) إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه فقوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أي عمل هذا المقتول من عمل الشيطان المراد منه بيان كونه مخالفاً لله تعالى مستحقاً للقتل وثالثها أن يكون قوله ( هذا ) إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه يقال فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه
أما قوله رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فعلى نهج قول آدم عليه السلام رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) والمراد أحد وجهين إما على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإن لم يكن هناك ذنب قط أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب
أما قوله فَاغْفِرْ لِى أي فاغفر لي ترك هذا المندوب وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد رب إني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الملعون فإن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به فَاغْفِرْ لِى أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون فَغَفَرَ لَهُ أي ستره عن الوصول إلى فرعون ويدل على هذا التأويل أنه على عقبه قال رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ولو كانت إعانة المؤمن ههنا سبباً للمعصية لما قال ذلك
وأما قوله فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً ولكن فرعون لما ادعى أنه كان كافراً في حال القتل نفى عن نفسه كونه كافراً في ذلك الوقت واعترف بأنه كان ضالاً أي متحيراً لا يدري ما يجب عليه أن يفعله وما يدبر به في ذلك أما قوله إن كان كافراً حربياً فلم استغفر عن قتله قلنا كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع فلعل قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت أو إن كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررنا قوله ذلك القتل كان قتل خطأ قلنا لا نسلم فلعل الرجل كان ضعيفاً وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة فوكزه كان قاتلاً قطعاً ثم إن سلمنا ذلك ولكن لعله عليه السلام كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون ذلك الوكز الذي كان الأولى تركه فلهذا أقدم على الاستغفار على أنا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنا بينا أنه لا دليل ألبتة على أنه كان رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك صادراً منه قبل النبوة وذلك لا نزاع فيه
المسألة الخامسة قالت المعتزلة الآية دلت على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله تعالى لأنه عليه السلام قال هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فنسب المعصية إلى الشيطان فلو كانت بخلق الله تعالى لكانت من الله لا من الشيطان وهو كقول يوسف عليه السلام مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى ( يوسف 100 ) وقول صاحب موسى عليه السلام وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ( الكهف 63 ) وقوله تعالى لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 27 )
أما قوله رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ففيه وجوه أحدها أن ظاهره يدل على أنه قال إنك لما أنعمت علي بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين وهذا يدل على أن ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية إذ لو كانت معصية لنزل الكلام منزلة ما إذا قيل إنك لما أنعمت علي بقبول توبتي عن تلك المعصية فإني أكون مواظباً على مثل تلك المعصية وثانيها قال القفال كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً والباء للقسم أي

بنعمتك علي وثالثها قال الكسائي والفراء إنه خبر ومعناه الدعاء كأنه قال فلا تجعلني ظهيراً قال الفراء وفي حرف عبدالله فَلاَ تَجْعَلْنِى ظَهِيرًا واعلم أن في الآية دلالة على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة وقال ابن عباس لم يستثن ولم يقل فلن أكون ظهيراً إن شاء الله فابتلي به في اليوم الثاني وهذا ضعيف لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة وإنما خاف منه ذلك العدو فقال إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص 19 ) لا أنه وقع منه
فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَة ِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاٌّ مْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاٌّ مْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ يَسْعَى قَالَ يامُوسَى إِنَّ الْمَلاّ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
اعلم أن عند موت ذلك الرجل من الوكز أصبح موسى عليه السلام من غد ذلك اليوم خائفاً من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب به وخرج على استتار فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ وهو الإسرائيلي بِالاْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يطلب نصرته بصياح وصراخ قال له موسى إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ قال أهل اللغة الغوي يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعل أي إنك لمغو لقومي فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه بسببك ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي واحتج به من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام فقال كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ الجواب من وجهين الأول أن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظاً جفاة ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) فالمراد بالغوي المبين ذلك الثاني أنه عليه السلام إنما سماه غوياً لأن من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذر عليه دفع خصمه عما يرومه من ضرره يكون خلاف طريقة الرشد واختلفوا في قوله تعال قَالَ يَاءادَمُ مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ أهو من كلام الإسرائيلي أو القبطي فقال بعضهم لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي ورآه على غضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال هذا القول وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس للرجل إلا هو وصار ذلك سبباً لظهور القتل ومزيد الخوف وقال آخرون بل هو قول القبطي وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى مُوسَى

فهذا القول إذن منه لا من غيره وأيضاً فقوله إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ لا يليق إلا بأن يكون قولاً للكافر
واعلم أن الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن وقيل المتعظم الذي لا يتواضع لأمر أحد ولما وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله
أما قوله وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ يَسْعَى قال صاحب ( الكشاف ) يسعى يجوز ارتفاعه وصفاً لرجل وانتصابه حالاً عنه لأنه قد تخصص بقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ والائتمار التشاور يقال الرجلان ( يتآمران ) يأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر والمعنى يتشاورون بسببك وأكثر المفسرين على أن هذا الرجل مؤمن آل فرعون فعلى وجه الإشفاق أسرع إليه ليخوفه بأن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك
أما قوله فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ أي خائفاً على نفسه من آل فرعون ينتظر هل يلحقه طلب فيؤخذ ثم التجأ إلى الله تعالى لعلمه بأنه لا ملجأ سواه فقال رَبّ نَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنباً وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصاً
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ الْقَوِى ُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاٌّ جَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَى َّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ

اعلم أن الناس اختلفوا في قوله وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ فال بعضهم إنه خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة فأوصله الله تعالى إلى مدين وهذا قول ابن عباس وقال آخرون لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى ومن الناس من قال بل جاءه جبريل عليه السلام وعلمه الطريق وذكر ابن جرير عن السدي لما أخذ موسى عليه السلام في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين واحتج من قال إنه خرج وما قصد مدين بأمرين أحدهما قوله وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ ولو كان قاصداً للذهاب إلى مدين لقال ولما توجه إلى مدين فلما لم يقل ذلك بل قال تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي والثاني قوله عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ وهذا كلام شاك لا عالم والأقرب أن يقال إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالماً بالطريق ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق لأنه يبعد من موسى عليه السلام في عقله وذكائه أن لا يسأل ثم قال ابن إسحاق خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر
أما قوله عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ ( الصافات 99 ) وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاماً في الاستدلال والجواب والدعاء والتضرع إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام وهكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وهو الماء الذي يسقون منه وكان بئراً فيما روي ووروده مجيئه والوصول إليه وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيره ومستقاه أُمَّة ٍ جماعة كثيرة العدد مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ والذود الدفع والطرد فقوله ( تذودان ) أي تحبسان ثم فيه أقوال الأول تحبسان أغنامهما واختلفوا في علة ذلك الحبس على وجوه أحدها قال الزجاج لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي وثانيها كانتا تكرهان المزاحمة على الماء وثالثها لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ورابعها لئلا تختلطا بالرجال القول الثاني كانتا تذودان عن وجوههما نظراً الناظر ليراهما والقول الثالث تذودان الناس عن غنمهما القول الرابع قال الفراء تحبسانها عن أن تتفرق وتتسرب قَالَ مَا خَطْبُكُمَا أي ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطباً كما يسمى المشئون شأناً في قولك ما شأنك قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ

وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه أحدها أن العادة في السقي للرجال والنساء يضعفن عن ذلك وثانيها ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير وثالثها قولهما حتى يصدر الرعاء ورابعها انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء وخامسها قولهما وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ودلالة ذلك على أنه لو كان قوياً حضر ولو حضر لم يتأخر السقي فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المعتاد قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الدال فالمعنى في القرارة الأولى حتى ينصرفوا عن الماء ويرجعوا عن سقيهم وصدر ضد ورد ومن قرأ بضم الياء فالمعنى في القراءة حتى يصدر القوم مواشيهم
أما قوله فَسَقَى لَهُمَا أي سقى غنمهما لأجلهما وفي كيفية السقي أقوال أحدها أنه عليه السلام سأل القوم أن يسمحوا فسمحوا وثانيهما قال قوم عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلا عشرة وقيل أربعون وقيل مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر وثالثها أن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو عليه السلام رمى ذلك الحجر وسقى لهما وليس بيان ذلك في القرآن والله أعلم بالصحيح منه لكن المرأة وصفت موسى عليه السلام بالقوة فدل ذلك على أنها شاهدت منه ما يدل على فضل قوته وقال تعالى ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر وفيه دلالة أيضاً على كمال قوة موسى عليه السلام قال الكلبي أتى موسى أهل الماء فسألهم دلواً من ماء فقالوا له إن شئت ائت الدلو فاستق لهما قال نعم وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر فأخذ موسى عليه السلام الدلو فاستقى به وحده وصب في الحوض ودعا بالبركة ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما فإن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية قلنا ليس في القرآن ما يدل على أن أباهما كان شعيباً والناس مختلفون فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما إن أباهما هو بيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد وقال الحسن إنه رجل مسلم قبل الدين عن شعيب على أنا وإن سلمنا أنه كان شعيباً عليه السلام لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه وأما المروءة فالناس فيها مختلفون وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر لا سيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة
وأما قوله قَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فالمعنى إني لأي شيء أنزلت إلي من خير قليل أو كثير غث أو سمين لفقير وإنما عدى فقيراً باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب
واعلم أن هذا الكلام يدل على الحاجة إما إلى الطعام أو إلى غيره إلا أن المفسرين حملوه على الطعام قال ابن عباس يريد طعاماً يأكله وقال الضحاك مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وروي أن موسى عليه السلام لما قال ذلك رفع صوته ليسمع المرأتين ذلك فإن قيل إنه عليه السلام لما بقي معه من القوة ما قدر بها على حمل ذلك الدلو العظيم فكيف يليق بهمته العالية أن يطلب الطعام أليس أنه عليه السلام قال ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي ) قلنا أما رفع الصوت بذلك لإسماع المرأتين وطلب الطعام فذاك لا يليق بموسى عليه السلام ألبتة فلا تقبل تلك الرواية ولكن لعله عليه السلام قال ذلك في نفسه مع ربه تعالى وفي الآية وجه آخر كأنه قال رب إني بسبب ما أنزلت إلي من خير الدين صرت فقيراً

في الدنيا لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة فقال ذلك رضي بهذا البدل وفرحاً به وشكراً له وهذا التأويل أليق بحال موسى عليه السلام
أما قوله تعالى فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء فقوله عَلَى اسْتِحْيَاء في موضع الحال أي مستحيية قال عمر بن الخطاب قد استترت بكم قميصها وقيل ماشية على بعد مائلة عن الرجال وقال عبد العزيز بن أبي حازم على إجلال له ومنهم من يقف على قوله تَمْشِى ثم يبتدىء فيقول عَلَى اسْتِحْيَاء قالت إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ يعني أنها على الاستحياء قالت هذا القول لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحيي لا سيما المرأة وفي ذلك دلالة على أن شعيباً لم يكن له معين سواهما وروي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي أما الاختلاف في أن ذلك الشيخ كان شعيباً عليه السلام أو غيره فقد تقدم والأكثرون على أنه شعيب وقال محمد بن إسحاق في البنتين اسم الكبرى صفورا والصغرى ليا وقال غيره صفرا وصفيرا وقال الضحاك صافورا والتي جاءت إلى موسى عليه السلام هي الكبرى على قول الأكثرين وقال الكلبي الصغرى وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل
أما قوله قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ففيه إشكالات أحدها كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال عليه السلام ( اتقوا مواضع التهم ) وثانيها أنه سقى أغنامهما تقرباً إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه فإن ذلك غير جائز في المروءة ولا في الشريعة وثالثها أنه عرف فقرهن وفقر أبيهن وعجزهم وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث كان يمكنه الكسب الكثير بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من السقي من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة ورابعها كيف يليق بشعيب النبي عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون ذلك الرجل عفيفاً أو فاسقاً والجواب عن الأول أن نقول أما العمل بقول امرأة فكما نعمل بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى في الأخبار وما كانت إلا مخبرة عن أبيها وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع والجواب عن الثاني أن المرأة وإن قالت ذلك فلعل موسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرك برؤية ذلك الشيخ وروي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمناً حتى قال شعيب عليه السلام هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق تحمله فقبل ذلك على سبيل الاضطرار وهذا هو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات والجواب عن الرابع لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها فكان يعتمد عليها
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فكشفت عنها فقال موسى عليه السلام إني من عنصر إبراهيم عليه السلام فكوني من خلفي حتى لا ترفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحل لي فلما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع فقال شعيب تناول يا فتى فقال موسى عليه السلام أعوذ بالله قال شعيب ولم قال لأنا من أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً

فقال شعيب ولكن عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف فجلس موسى عليه السلام فأكل وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره ذلك مع الخضر حين قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ( الكهف 77 ) والفرق أن أخذ الأجر على الصدقة لا يجوز أما الاستئجار ابتداء فغير مكروه
أما قوله وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ فالقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص قال الضحاك لما دخل عليه قال له من أنت يا عبدالله فقال أنا موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه فقال شعيب لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا سلطان له بأرضنا فلسنا في مملكته وليس في الآية دلالة على أنه قال ذلك عن الوحي أو على ما تقتضيه العادة فإن قيل المفسرون قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى عليه السلام ركب في ألف ألف وستمائة ألف فالملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام من دار مملكته قلنا هذا وإن كان نادراً إلا أنه ليس بمحال
أما قوله قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِى ُّ الامِينُ ففيه مسائل
المسألة الأولى وصفته بالقوة لما شاهدت من كيفية السقي وبالأمانة لما حكينا من غض بصره حال ذودهما الماشية وحال سقيه لهما وحال مشيه بين يديها إلى أبيها
المسألة الثانية إنما جعل خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ اسماً و الْقَوِى ُّ الامِينُ خبراً مع أن العكس أولى لأن العناية هي سبب التقديم
المسألة الثالثة القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما الفطنة والكياسة فلم أهمل أمر الكياسة ويمكن أن يقال إنها داخلة في الأمانة عن ابن مسعود رضي الله ( أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف وأبو بكر في عمر )
أما قوله قَالَ إِنّى أُرِيدُ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ فلا شبهة في أن هذا اللفظ وإن كان على الترديد لكنه عند التزويج عين ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين فكانت الزيادة كالتبرع والفقهاء ربما استدلوا به على أن العمل قد يكون مهراً كالمال وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز ولكنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا ويدل على أنه قد كان جائزاً في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة وعلى أنه كان جائزاً في تلك الشريعة نكاح المرأة بغير بدل تستحقه المرأة وعلى أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد ثم قال هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ تأجرني من أجرته إذا كنت له أجيراً وثماني حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه ومنه أجركم الله ورحمكم وثماني حجج مفعول به ومعناه رعية ثماني حجج ثم قال وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ وفيه وجهان الأول لا أريد أن أشق عليك بإلزام أثم الرجلين فإن قيل ما حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر قلنا حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه الثاني لا أريد أن أشق عليك في الرعي ولكني أساهلك فيها وأسامحك بقدر الإمكان ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس ومنه الحديث ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شريكي فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري ) ثم قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وفيه وجهان الأول يريد بالصلاح حسن المعاملة

ولين الجانب والثاني يريد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته
فإن قيل فالعقد كيف ينعقد مع هذا الشرط فإنك لو قلت امرأتي طالق إن شاء الله لا تطلق قلنا هذا مما يختلف بالشرائع
أما قوله تعالى قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ فاعلم أن ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب عليه السلام يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك ثم قال أَيَّمَا الاْجَلَيْنِ قَضَيْتُ من الأجلين أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان فَلاَ عُدْوَانَ عَلَى َّ أي لا يعتدي عليَّ في طلب الزيادة أراد بذلك تقرير أمر الخيار يعني إن شاء هذا وإن شاء هذا ويكون اختيار الأجل الزائد موكولاً إلى رأيه من غير أن يكون لأحد عليه إجبار ثم قال وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدي بعلي لهذا السبب
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاٌّ جَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاًّهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى ءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَة ٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِى َ مِن شَاطِى ءِ الْوَادِى الأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ أَن يامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاٌّ مِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
اعلم أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تزوج صغراهما وقضى أوفاهما ) أي قضى أوفى الأجلين وقال مجاهد قضى الأجل عشر سنين ومكث بعد ذلك عنده عشر سنين وقوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ

يدل على أن ذلك الإيناس حصل عقيب مجموع الأمرين ولا يدل على أنه حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل فبطل ما قاله القاضي من أن ذلك يدل على أنه لم يزد عليه وقوله وَسَارَ بِأَهْلِهِ ليس فيه دلالة على أنه خرج منفرداً معها وقوله امْكُثُواْ فيه دلالة على الجمع
أما قوله إِنّى آنَسْتُ نَاراً فقد مر تفسيره في سورة طه والنمل
أما قوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ ففيه أبحاث
الأول قال صاحب ( الكشاف ) الجذوة باللغات الثلاث وقد قرىء بهن جميعاً وهو العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن قال الزجاج الجذوة القطعة الغليظة من الحطب
الثاني قد حكينا في سورة طه أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة فرقت ماشيته وضل وأصابهم مطر فوجدوا برداً شديداً فعنده أبصر ناراً بعيدة فسار إليها يطلب من يدله على الطريق وهو قوله مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ أو آتيكم من هذه النار بجذوة من الحطب لعلكم تصطلون وفي قوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ دلالة على إنه ضل وفي قوله لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ دلالة على البرد
أما قوله فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِى َ مِن شَاطِىء الْوَادِى الايْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ أَن يامُوسَى مُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فاعلم أن شاطىء الوادي جانبه وجاء النداء عن يمين موسى من شاطىء الوادي من قبل الشجرة وقوله مِنَ الشَّجَرَة ِ بدل من قوله مِن شَاطِىء الْوَادِى بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء كقوله لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ ( الزخرف 33 ) وإنما وصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة وتكليم الله تعالى إياه وههنا مسائل
المسألة الأولى احتجت المعتزلة على قولهم إن الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله مِنَ الشَّجَرَة ِ فإن هذا صريح في أن موسى عليه السلام سمع النداء من الشجرة والمتكلم بذلك النداء هو الله سبحانه وهو تعالى منزه أن يكون في جسم فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم أجاب القائلون بقدم الكلام فقالوا لنا مذهبان الأول قول أبي منصور الماتريدي وأئمة ما وراء النهر وهو أن الكلام القديم القائم بذات الله تعالى غير مسموع إنما المسموع هو الصوت والحرف وذلك كان مخلوقاً في الشجرة ومسموعاً منها وعلى هذا التقدير زال السؤال الثاني قول أبي الحسن الأشعري وهو أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعاً كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية فعلى هذا القول لا يبعد أنه سمع الحرف والصوت من الشجرة وسمع الكلام القديم من الله تعالى لا من الشجرة فلا منافاة بين الأمرين واحتج أهل السنة بأن محل قوله إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لو كان هو الشجرة لكان قد قالت الشجرة إني أنا الله والمعتزلة أجابوا بأن هذا إنما يلزم لو كان المتكلم بالكلام هو محل الكلام لا فاعله وهذا هو أصل المسألة أجاب أهل السنة بأن الذراع المسموم قال لا تأكل مني فإني مسموم ففاعل ذلك الكلام هو الله تعالى فإن كان المتكلم بالكلام هو فاعل ذلك الكلام لزم أن يكون الله قد قال لا تأكل مني فإني مسموم وهذا باطل وإن كان المتكلم هو محل الكلام لزم أن تكون الشجرة قد قالت إني أنا الله وكل ذلك باطل
المسألة الثانية يحتمل أن يقال إنه تعالى خلق فيه علماً ضرورياً بأن ذلك الكلام كلام الله والمعتزلة لا يرضون بذلك قالوا لأنه لو علم بالضرورة أن ذلك الكلام كلام الله لوجب أن يعلم بالضرورة وجود الله تعالى

لأنه يستحيل أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلومة بالنظر ولو علم موسى أنه الله تعالى بالضرورة لزال التكليف ويحتمل أن يقال إنه تعالى لما أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت عرف أن مثل ذلك الكلام لا يمكن أن يكون كلام الخلق ويحتمل أن يقال إن ظهور الكلام من الشجرة كظهور التسبيح من الحصى في أنه يعلم أن مثل ذلك لا يكون إلا من الله تعالى ويحتمل أن يكون المعجز هو أنه رأى النار في الشجرة الرطبة فعلم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وبين خضرة الشجرة إلا الله تعالى ويحتمل أن يصح ما يروى أن إبليس لما قال له كيف عرفت أنه نداء الله تعالى قال لأني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم أن ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى وهذا إنما يصح على مذهبنا حيث قلنا البنية ليست شرطاً
المسألة الثالثة قال في سورة النمل ( 8 ) نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وقال ههنا يامُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقال في طه ( 11 12 ) نُودِى َ إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء
المسألة الرابعة قال الحسن إن موسى عليه السلام نودي نداء الوحي لا نداء الكلام والدليل عليه قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى قال الجمهور إن الله تعالى كلمه من غير واسطة والدليل عليه قوله تعالى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) وسائر الآيات وأما الذي تمسك به الحسن فضعيف لأن قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى لم يكن بالوحي لأنه لو كان ذلك أيضاً بالوحي لانتهى آخر الأمر إلى كلام يسمعه المكلف لا بالوحي وإلا لزم التسلسل بل المراد من قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى وصيته بأن يتشدد في الأمور التي تصل إليه في مستقبل الزمان بالوحي
أما قوله وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يامُوسَى مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاْمِنِينَ فقد تقدم تفسير كل ذلك وقوله كَأَنَّهَا جَانٌّ صريح في أنه تعالى شبهها بالجان ولم يقل إنه في نفسه جان فلا يكون هذا مناقضاً لكونه ثعباناً بل شبهها بالجان من حيث الاهتزاز والحركة لا من حيث المقدار وقد تقدم الكلام في خوفه ومعنى وَلَمْ يُعَقّبْ لم يرجع يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفر وقال وهب إنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى عليه السلام صرير أسنانها وسمع قعقعة الصخر في جوفها فحينئذ ولى واختلفوا في العصا على وجوه أحدها قالوا إن شعيباً كانت عنده عصي الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى بالليل إذا دخلت ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السلام من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فقال أرني العصا فلمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال خذ غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له معها شأناً وروي أيضاً أن شعيباً عليه السلام أمر ابنته أن تأتي بعصا لأجل موسى عليه السلام فدخلت البيت وأخذت العصا وأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلم يقع في يدها غيرها فلما رأى الشيخ ذلك رضي به ثم ندم بعد ذلك وخرج يطلب موسى عليه السلام فلما لقيه قال أعطني العصا قال موسى هي عصاي فأبى أن يعطيه إياها فاختصما ثم توافقا على أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال ضعوها على الأرض فمن حملها فهي له فعالجها الشيخ فلم

يطق وأخذها موسى عليه السلام بسهولة فتركها الشيخ لع ورعى له عشر سنين وثانيها روى ابن صالح عن ابن عباس قال كان في دار بيرون ابن أخي شعيب بيت لا يدخله إلا بيرون وابنته التي زوجها من موسى عليه السلام وأنها كانت تكنسه وتنطفه وكان في ذلك البيت ثلاث عشرة عصا وكان لبيرون أحد عشر ولداً من الذكور فكلما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصي فرجع موسى ذات يوم إلى منزله فلم يجد أهله واحتج إلى عصا لرعيه فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي وخرج بها فلما علمت المرأة ذلك انطلقت إلى أبيها وأخبرته بذلك فسر بذلك بيرون وقال لها إن زوجك هذا لنبي وإن له مع هذه العصا لشأناً وثالثها في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغد وأراد الرعي قال له شعيب عليه السلام اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنيناً عظيماً فأخشى عليك وعلى الأغنام منه فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر فسار على أثرها فرأى عشباً كثيراً ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى عليه السلام فقاتلته حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى عليه السلام رأى العصا دامية والتنين مقتولاً فارتاح لذلك وعلم أن لله تعالى في تلك العصا قدرة وآية وعاد إلى شعيب عليه السلام وكان ضريراً فمس الأغنام فإذا هي أحسن حالاً مما كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى عليه السلام بالقصة ففرح بذلك وعلم أن لموسى عليه السلام وعصاه شأناً فأراد أن يجازي موسى عليه السلام على حسن رعيه إكراماً وصلة لابنته فقال إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقي الغنم منه ففعل ثم سقى الأغنام منه فما أخطت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى عليه السلام وامرأته فوفى له شرطه ورابعها قال بعضهم تلك العصا هي عصا آدم عليه السلام وإن جبريل عليه السلام أخذ تلك العصا بعد موت آدم عليه السلام فكانت معه حتى لقي بها موسى عليه السلام ربه ليلاً وخامسها قال الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً أي أخذها من عرض الشجر يقال اعترض إذا لم يتخير وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الوجوه على بعض لأنه ليس في القرآن ما يدل عليها والأخبار متعارضة والله أعلم بها
أما قوله تعالى اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء فاعلم أن الله تعالى قد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات أحدها هذه وثانيها قوله في طه ( 22 ) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء وثالثها قوله في النمل ( 12 ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ قال العزيزي في غريب القرآن اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ أدخلها فيه
أما قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فأحسن الناس كلاماً فيه قال صاحب ( الكشاف ) فيه معنيان أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب الله له العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار

معجزة أخرى والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه الثاني أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران ومعنى قوله مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك وقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرهب فإن قيل قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه وذلك قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ وقوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ( طه 22 ) فما التوفيق بينهما قلنا المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى وبالمضموم إليه اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح هذا كله كلام صاحب ( الكشاف ) وهو في نهاية الحسن
أما قوله تعالى فَذَانِكَ قرىء مخففاً ومشدداً فالمخفف مثنى ( ذا ) والمشدد مثنى ( ذان ) قوله بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ حجتان نيرتان على صدقه في النبوة وصحة ما دعاهم إليه من التوحيد وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون حتى عرف ما الذي يظهره عنده من المعجزات لأنه تعالى حكى بعد ذلك عن موسى عليه السلام أنه قال إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( القصص 33 ) قال القاضي وإذا كان كذلك فيجب أن يكون في حال ظهور البرهانين هناك من دعاه إلى رسالته من أهله أو غيرهم إذا المعجزات إنما تظهر على الرسل في حال الإرسال لا قبله وإنما تظهر لكي يستدل بها غيرهم على الرسالة وهذا ضعيف لأنه ثبت أنه لا بد في إظهار المعجزة من حكمة ولا حكمة أعظم من أن يستدل بها الغير على صدق المدعي وأما كونه لا حكمة ههنا فلا نسلم فلعل هناك أنواعاً من الحكم والمقاصد سوى ذلك لا سيما وهذه الآيات متطابقة على أنه لم يكن هناك مع موسى عليه السلام أحد
قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِأايَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِأايَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى ءَابَآئِنَا الاٌّ وَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

اعلم أنه تعالى لما قال فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ( القصص 32 ) تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه فعند ذلك طلب من الله تعالى ما يقوي قلبه ويزيل خوفه فقال رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً لأنه كان في لسانه حبسة إما في أصل الخلقة وإما لأجل أنه وضع الجمرة في فيه عندما نتف لحية فرعون
أما قوله فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدّقُنِى ففيه أبحاث
البحث الأول الردء اسم ما يستعان به فعل بمعنى مفعول به كما أن الدفء اسم لما يدفأ به يقال ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشب أو غيره لئلا يسقط
البحث الثاني قرأ نافع ( رداً ) بغير همز والباقون بالهمز وقرأ عاصم وحمزة ( يصدقني ) برفع القاف ويروى ذلك أيضاً عن أبي عمرو والباقون بجزم القاف وهو المشهور عن أبي عمرو فمن رفع فالتقدير ردءاً مصدقاً لي ومن جزم كان على معنى الجزاء يعني أن أرسلته صدقني ونظيره قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى ( مريم 5 6 ) بجزم الثاء من يرثني وروى السدي عن بعض شيوخه ردءاً كيما يصدقني
البحث الثالث الجمهور على أن التصديق لهرون وقال مقاتل المعنى كي يصدقني فرعون والمعنى أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون
البحث الرابع ليس الغرض بتصديق هرون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ألا ترى إلى قوله وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله صدقت
البحث الخامس قال الجبائي إنما سأل موسى عليه السلام أن يرسل هرون بأمر الله تعالى وإن كان لا يدري هل يصلح هرون للبعثة أم لا فلم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة ويحتمل أيضاً أن يقال إنه سأله لا مطلقاً بل مشروطاً على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقوله الداعي في دعائه
البحث السادس قال السدي إن نبيين وآيتين أقوى من نبي يواحد وآية واحدة قال القاضي والذي قاله من جهة العادة أقوى فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم وإن لم ينظر فالحالة واحدة هذا إذا كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة فإما إذا اختلفت وأمكن في إحداهما إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يختلفا ويصلح عند ذلك أن يقال إنهما بمجموعهما أقوى من إحداهما على ما قاله السدي لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهرون عليهما السلام لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة

أما قوله سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ فاعلم أن العضد قوام اليد وبشدتها تشتد يقال في دعاء الخير شد الله عضدك وفي ضده فت الله في عضدك ومعنى سنشد عضدك بأخيك سنقويك به فإما أن يكون ذلك لأن اليد تشتد لشدة العضد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور وإما لأن الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة
أما قوله وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا فالمقصود أن الله تعالى آمنه مما كان يحذر فإن قيل بين تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة وإن كانت هذه الآيات ظاهرة قلنا إن الآية التي هي قلب العصا حية كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهرون عليهما السلام لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة فجمعت بين الأمرين فأما صلب السحرة ففيه خلاف فمنهم من قال ما صلبوا وليس في القرآن ما يدل عليه وإن سلمنا ذلك ولكنه تعالى قال فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا فالمنصوص أنهم لا يقدرون على إيصال الضرر إليهما وإيصال الضرر إلى غيرهما لا يقدح فيه ثم قال أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ والمراد إما الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو الغلبة في الدولة والمملكة في ثاني الحال والأول أقرب إلى اللفظ
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِئَايَاتِنَا بَيّنَاتٍ فقد بينا في سورة طه أنه كيف أطلق لفظ الآيات وهو جمع على العصا واليد
أما قوله قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى فقد اختلفوا في مفترى فقال بعضهم المراد أنه إذا كان سحراً وفاعله يوهم خلافه فهو المفترى وقال الجبائي المراد أنه منسوب إلى الله تعالى وهو من قبله فكأنهم قالوا هو كذب من هذا الوجه ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى ءابَائِنَا الاْوَّلِينَ أي ما حدثنا بكونه فيهم ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا مثله أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى عليه السلام ومجيئه بما جاء به
واعلم أن هذه الشبهة ساقطة لأن حاصلها يرجع إلى التقليد ولأن حال الأولين لا يخلو من وجهين إما أن لا يورد عليهم بمثل هذه الحجة فحينئذ الفرق ظاهر أو أورد عليهم فدفعوه فحينئذ لا يجوز جعل جهلهم وخطئهم حجة فعند ذلك قال موسى عليه السلام وقد عرف منهم العناد رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ فإن من أظهر الحجة ولم يجد من الخصم اعتراضاً عليها وإنما لما وجد منه العناد صح أن يقول ربي أعلم بمن معه الهدى والحجة منا جميعاً ومن هو على الباطل ويضم إليه طريق الوعيد والتخويف وهو قوله وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة والدليل عليه قوله تعالى أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتِ عَدْنٍ ( الرعد 22 23 ) وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ( البلد 42 ) والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقباها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت فإن قيل العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار لأن الدنيا قد تكون خاتمتها بخير في حق البعض وبشر في حق البعض الآخر فلم

اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر قلنا إنه قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق فمن عمل فيها خلاف ما وضعها الله له فقد حرف فإذن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله بِئَايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والمراد أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع بل يحصلون على ضد ذلك وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحاً لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَة ِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ القِيَامَة ِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاٍّ ولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه وذكر ههنا شبهتين الأولى قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى وهذا في الحقيقة يشتمل على كلامين أحدهما نفى إله غيره والثاني إثبات إلهية نفسه فأما الأول فقد كان اعتماده على أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته أما أنه لا دليل عليه فلأن هذه الكواكب والأفلاك كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي فلا حاجة إلى إثبات صانع وأما أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته فالأمر فيه ظاهر
واعلم أن المقدمة الأولى كاذبة فإنا لا نسلم أنه لا دليل على وجود الصانع وذلك لأنا إذا عرفنا بالدليل حدوث الأجسام عرفنا حدوث الأفلاك والكواكب وعرفنا بالضرورة أن المحدث لا بد له من محدث فحينئذ

نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلاً فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذباً في دعواه ففرعون على نهاية جهله أحسن حالاً من هذا المستدل أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقاً للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقاً لذوات الناس وصفاتهم فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقاً للسماء والأرض لا سيما وقد دللنا في سورة طه ( 49 ) في تفسير قوله فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى على أنه كان عارفاً بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجاً على الأغمار من الناس الشبهة الثانية قوله فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وههنا أبحاث
الأول تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشعراء 24 ) ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء وذلك أيضاً من خبث فرعون ومكره ودهائه
الثاني اختلفوا في أن فرعون هل بنى هذا الصرح فال قوم إنه بناه قالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة وقعت في البحر وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه ورمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردت إليهم وهي ملطوخة بالدم فقال قد قتلت إله موسى فعند ذلك بعث الله تعالى جبريل عليه السلام لهدمه ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخاً بالدم فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القرآن فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحس فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه ثم قال عند ذلك لهامان ابْنِ لِى صَرْحاً أَبْلُغُ بِهِ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ

فهذا التأويل أولى مما عداه
الثالث إنما قال غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد
أما قوله وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن قال عليه السلام فيما حكى عن ربه ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار ) وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق
المسألة الثانية قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من الله تعالى فإن الله تعالى قد بين في كل غاصب لحكم الله أنه أخذ ذلك بغير حق واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه إما أن يكون منه أو من الله تعالى أو لا منه ولا من الله تعالى فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر وإن كان من الله تعالى فقد صح الغرض وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل
أما قوله وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا
أما قوله فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر ونحو ذلك وقوله وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ ( المرسلات 27 ) وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً واحِدَة ً ( الحاقة 14 ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( الزمر 67 ) سبحانه وتعالى وليس الغرض منه إلا تصوير أن كل مقدور وإن عظم فهو حقير بالقياس إلى قدرته
أما قوله وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فقد تمسك به الأصحاب في كونه تعالى خالقاً للخير والشر قال الجبائي المراد بقوله وَجَعَلْنَاهُمْ أي بينا ذلك من حالهم وسميناهم به ومنه قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وتقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله جعله فاسقاً وبخيلاً لا أنه خلقهم أئمة لأنهم حال خلقهم لهم كانوا أطفالاً وقال الكعبي إنما قال وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً من حيث خلى بينهم وبين ما فعلوه ولم يعاجل بالعقوبة ومن حيث كفروا ولم يمنعهم بالقسر وذلك كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة 125 ) لما زادوا عندها ونظير ذلك أن الرجل يسأل ما يثقل عليه وإن أمكنه فإذا

بخل به قيل للسائل جعلت فلاناً بخيلاً أي قد بخلته وقال أبو مسلم معنى الإمامة التقدم فلما عجل الله تعالى لهم العذاب صاروا متقدمين لمن وراءهم من الكافرين واعلم أن الكلام فيه قد تقدم في سورة مريم ( 83 ) في قوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ومعنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة وإنما جعلهم الله تعالى أئمة في هذا الباب لأنهم بلغوا في هذا الباب أقصى النهايات ومن كان كذلك استحقق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب ثم بين تعالى أن ذلك العقاب سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه وهو معنى قوله وَيَوْمَ الْقِيامَة ِ لاَ يُنصَرُونَ أو يكون معناه ويوم القيامة لاينصرون كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة
أما قوله وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً معناه لعنة الله والملائكة لهم وأمره تعالى بذلك فيها للمؤمنين وبين أنهم يوم القيامة من المقبوحين أي المبعدين الملعونين والقبح هو الإبعاد قال الليث يقال قبحه الله أي نحاه عن كل خير وقال ابن عباس رضي الله عنهما من المشئومين بسواد الوجه وزرقة العين وعلى الجملة فالأولون حملوا القبح على القبح الروحاني وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى والباقون حملوه على القبح في الصور وقيل فيه إنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم ويجمع بين الفضيحتين ثم بين تعالى أن الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى عليه السلام فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاْولَى والكتاب هو التوراة ووصفه تعالى بأنه بصائر للناس من حيث يستبصر به في باب الدين وهدى من حيث يستدل به ومن حيث إن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب ووصفه بأنه رحمة لأنه من نعم الله تعالى على من تعبد به وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما أهلك الله تعالى قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها قردة )
أما قوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فالمراد لكي يتذكروا قال القاضي وذلك يدل على إرادة التذكر من كل مكلف سواء اختار ذلك أو لم يختره ففيه إبطال مذهب المجبرة الذين يقولون ما أراد التذكر إلا ممن يتذكر فأما من لا يتذكر فقد كره ذلك منه ونص القرآن دافع لهذا القول قلنا أليس أنكم حملتم قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) على العاقبة فلم لا يجوز حمله ههنا على العاقبة فإن عاقبة الكل حصول هذا التذكر له وذلك في الآخرة
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الاٌّ مْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

اعلم أن في الآية سؤالات
السؤال الأول الجانب موصوف والغربي صفة فكيف أضاف الموصوف إلى الصفة الجواب هذه مسألة خلافية بين النحويين فعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى الصفة إلا بشرط خاص سنذكره وعند الكوفيين يجوز ذلك مطلقاً حجة البصريين أن إضافة الموصوف إلى الصفة تقتضي إضافة الشيء إلى نفسه وهذا غير جائز فذاك أيضاً غير جائز بيان الملازمة أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف فلفظ الظريف يدل على شيء معين في نفسه مجهول بحسب هذا اللفظ حصلت له الظرافة فإذا نصصت على زيد عرفنا أن ذلك الشيء الذي حصلت له الظرافة هو زيد إذا ثبت هذا فلو أضفت زيداً إلى الظريف كنت قد أضفت زيداً إلى زيد وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائزة فإضافة الموصوف إلى صفته وجب أن لا تجوز إلا أنه جاء على خلاف هذه القاعدة ألفاظ وهي قوله تعالى في هذه الآية وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ وقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ ( البينة 5 ) وقوله حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ ( النحل 30 ) ويقال صلاة الأولى ومسجد الجامع وبقلة الحمقاء فقالوا التأويل فيه جانب المكان الغربي ودين الملة القيمة وحق الشيء اليقين ودار الساعة الآخرة وصلاة الساعة الأولى ومسجد المكان الجامع وبقلة الحبة الحمقاء ثم قالوا في هذه المواضع المضاف إليه ليس هو النعت بل المنعوت إلا أنه حذف المنعوت وأقيم النعت مقامه فههنا ينظر إن كان ذلك النعت كالمتعين لذلك المنعوت حسن ذلك وإلا فلا ألا ترى أنه ليس لك أن تقول عندي جيد على معنى عندي درهم جيد ويجوز مررت بالفقيه على معنى مررت بالرجل الفقيه لأن الفقيه يعلم أنه لا يكون إلا من الناس والجيد قد يكون درهماً وقد يكون غيره وإذا كان كذلك حسن قوله جانب الغربي لأن الشيء الموصوف بالغربي الذي يضاف إليه الجانب لا يكون إلا مكاناً أو ما يشبهه فلا جرم حسنت هذه الإضافة وكذا القول في البواقي والله أعلم
السؤال الثاني ما معنى قوله إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ الجواب الجانب الغربي هو المكان الواقع في شق الغرب وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله ( له ) في الألواح والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام الوحي الذي أوحى إليه والخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على ( الموحى ) إليه ( وهي لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضراً ) وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات
السؤال الثالث لما قال وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ثبت أنه لم يكن شاهداً لأن الشاهد لا بد أن يكون حاضراً فما الفائدة في إعادة قوله وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الجواب قال ابن عباس رضي الله عنهما التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى

السؤال الرابع كيف يتصل قوله وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً بهذا الكلام ومن أي وجه يكون استدراكاً له الجواب معنى الآية ولكنا أنشأنا بعد عهد موسى عليه السلام إلى عهدك قروناً كثيرة فتطاول عليهم العمر وهو القرن الذي أنت فيه فاندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم فأرسلناك وعرفناك أحوال الأنبياء وأحوال موسى فالحاصل كأنه قال وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ولكنا أوحيناه إليك فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب فإذن هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده واعلم أن هذا تنبيه على المعجز كأنه قال إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله دلالة ظاهرة على نبوتك كما قال أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى ( طه 133 )
أما قوله وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ فالمعنى ما كنت مقيماً فيه
وأما قوله تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا ففيه وجهان الأول قال مقاتل يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك لما علمتها الثاني قال الضحاك يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً فأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء
أما قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه وَلَاكِن رَّحْمَة ً مّن رَّبِكَ أي علمناك رحمة وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي هي رحمة وذكر المفسرون في قوله إِذْ نَادَيْنَا وجوهاً أخر أحدها إذ نادينا أي قلنا لموسى وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء إلى قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( الأعراف 156 157 ) وثانيها قال ابن عباس إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم ( يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ) قال وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً لميقات ربه وثالثها قال وهب ( لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال رب أرنيهم قال إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم قال بلى يا رب فقال سبحانه يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه الله تعالى أصواتهم ثم قال أجبتكم قبل أن تدعوني ) الحديث كما ذكره ابن عباس ورابعها روى سهل بن سعد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا قال كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى ( يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخلته الجنة )
أما قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ فالإنذار هو التخويف بالعقاب على المعصية واعلم أنه تعالى لما بين قصة موسى عليه السلام قال لرسوله وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ فجمع تعالى بين كل ذلك لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى عليه السلام إذ المراد بقوله إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ إنزال التوراة حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله وَمَا كُنتَ ثَاوِياً أول أمره والمراد ناديناه وسط أمره وهو ليلة المناجاة ولما بين تعالى أنه عليه السلام لم يكن في هذه الأحوال حاضراً بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة للعالمين

ثم فسر تلك الرحمة بأن قال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ واختلفوا فيه فقال بعضهم لم يبعث إليهم نذير منهم وقال بعضهم حجة الأنبياء كانت قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجد تلك الحجة عليهم وقال بعضهم لا يبعد وقوع الفترة في التكاليف فبعثه الله تعالى تقريراً للتكاليف وإزالة لتلك الفترة
أما قوله وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ الآية فقال صاحب ( الكشاف ) ( لولا ) الأولى امتناعية وجوابها محذوف والثانية تحضيضية والفاء في قوله فَيَقُولُواْ للعطف ( وفي قوله للعطف ) وفي قوله فَنَتَّبِعَ جواب ( لولا ) لكونها في حكم الأمر من قبل أن الأمر باعث على الفعل والباعث والمحضض من واد واحد والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم يعني إنما أرسلنا الرسول إزالة لهذا العذر وهو كقوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ( المائدة 19 ) لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ واعلم أنه تعالى لم يقل ولولا أن يقولوا هذا العذر لما أرسلنا بل قال وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ فَيَقُولُواْ هذا العدو لما أرسلنا وإنما قال ذلك لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً وقد عرفوا بطلان دينهم لما قالوا ذلك بل إنما يقولون ذلك إذا نالهم العقاب فيدل ذلك على أنهم لم يذكروا هذا العذر تأسفاً على كفرهم بل لأنهم ما أطاقوا وفيه تنبيه على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم كقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج الجبائي على وجوب فعل اللطف قال لو لم يجب ذلك لم يكن لهم أن يقولوا هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك إذ من الجائز أن لا يبعث إليهم وإن كانوا لا يختارون الإيمان إلا عنده على قول من خالف في وجوب اللطف كما مر أن الجائز إذا كان في المعلوم لو خلق له لم يمكن إلا أن يفعل ذلك
المسألة الثانية احتج الكعبي به على أن الله تعالى يقبل حجة العباد وليس الأمر كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا يقبل الحجة وظهر بهذا أنه ليس المراد من قوله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( الأنبياء 23 ) ما يظنه أهل السنة وإذا ثبت أنه يقبل الحجة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق الله تعالى وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى
المسألة الثالثة قال القاضي فيه إبطال القول بالجبر من جهات إحداها أن اتباعهم وإيمانهم موقوف على أن يخلق الله ذلك فيهم سواء أرسل الرسول إليهم أم لا وثانيتها أنه إذا خلق القدرة على ذلك فيهم وجب سواء أرسل الرسول أم لا وثالثتها إذا أراد ذلك وجب أرسل الرسول إليهم أم لا فأي فائدة في قولهم هذا لو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى فيقال للقاضي هب أنك نازعت في الخلق والإرادة ولكنك وافقت في العلم فإذا علم الكفر منهم فهل يجب أم لا فإن لم يجب أمكن أن لا يوجد الكفر مع حصول العلم بالكفر وذلك جمع بين الضدين وإن وجب لزمك ما أوردته علينا واعلم أن الكلام وإن كان قوياً حسناً إلا أنه إذا توجه عليه النقض الذي لا محيص عنه فكيف يرضى العاقل بأن يعول عليه
فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِى َ مِثْلَ مَآ أُوتِى َ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيِّئَة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ

اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عند الخوف قالوا هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك بين أيضاً أنه بعد الإرسال إلى أهل مكة قالوا لَوْلا أُوتِى َ مِثْلَ مَا أُوتِى َ مُوسَى فهؤلاء قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فظهر أنه لا مقصود لهم سوى الزيغ والعناد
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا أي جاءهم الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر وتظليل الغمام وانفجار الحجر بالماء والمن والسلوى ومن أن الله كلمه وكتب له في الألواح وغيرها من الآيات فجاؤا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد كما قالوا لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ ( هود 12 ) وما أشبه ذلك
واعلم أن الذي اقترحوه غير لازم لأنه لا يجب في معجزات الأنبياء عليهم السلام أن تكون واحدة ولا فيما ينزل إليهم من الكتب أن يكون على وجه واحد إذ الصلاح قد يكون في إنزاله مجموعاً كالتوراة ومفرقاً كالقرآن ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ واختلفوا في أن الضمير في قوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ إلى من يعود وذكروا وجوهاً أحدها أن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً أن يؤتى مثل ما أوتي موسى عليه السلام فقال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى يعني أو لم

تكفروا يا هؤلاء اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال بموسى عليه السلام مع تلك الآيات الباهرة وثانيها أن الذين أوردوا هذا الاقتراح كفار مكة والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد وثالثها قال الكلبي إن مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة ليسألهم عن محمد وشأنه فقالوا إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بقول اليهود قالوا إنه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر فقال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى ورابعها قال الحسن قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام فمعناه على هذا أو لم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهرون ساحران وخامسها قال قتادة أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام فقالوا ساحران وسادسها وهو الأظهر عندي أن كفار قريش ومكة كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) معجزات موسى عليه السلام قال الله تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل فعلمنا أنه لا غرض لكم في هذا الاقتراح إلا التعنت ثم إنه تعالى حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى من وجهين الأول قولهم وَإِن تَظَاهَرَا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة ( ساحران ) بالألف وقرأ أهل الكوفة بغير ألف وذكروا في تفسير الساحرين وجوهاً أحدها المراد هرون وموسى عليهما السلام تظاهرا أي تعاونا وقرىء ( اظاهرا ) على الإدغام وسحران بمعنى ذوي سحر وجعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر وكثير من المفسرين فسروا قوله سِحْرَانِ بأن المراد هو القرآن والتوراة واختار أبو عبيدة القراءة بالألف لأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب وجوابه إنا بينا أن قوله سِحْرَانِ يمكن حمله على الرجلين وبتقدير أن يكون المراد الكتابين لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما تقول تظاهرت الأخبار وهذه التأويلات إنما تصح إذا حملنا قوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى إما على كفار مكة أو على الكفار الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام ولا شك أن ذلك أليق بمساق الآية الثاني قولهم إِنَّا بِكُلّ كَافِرُونَ أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء عليهم السلام ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين لا باليهود وذلك مبالغة في أنهم مع كثرة آيات موسى عليه السلام كذبوه فما الذي يمنع من مثله في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن ظهرت حجته ولما أجاب الله تعالى عن شبههم ذكر الحجة الدالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله قال الزجاج ( أتبعه ) بالجزم على الشرط ومن قرأ ( أتبعه ) بالرفع فالتقدير أنا أتبعه ثم قال فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ قال ابن عباس يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج وقال مقاتل فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما وهذا أشبه بالآية فإن قيل الاستجابة تقتضي دعاء فأين الدعاء ههنا قلنا قوله فَأْتُواْ بِكِتَابٍ أمر والأمر دعاء إلى الفعل ثم قال فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ يعني قد صاروا ملزمين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى ثم زيف طريقتهم بقوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد وأنه لا بد من الحجة والاستدلال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهو عام يتناول الكافر لقوله إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ واحتج الأصحاب به في أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين
وقالت المعتزلة الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقاً ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان والدليل عليه

قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ محمول على القسم الثاني ولا يجوز حمله على القسم الأول لأنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن عدم بعثة الرسول جار مجرى العذر لهم فبأن يكون عدم الهداية عذراً لهم أولى ولما بين تعالى نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الدلالة قال وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ وتوصيل القول هو إتيان بيان بعد بيان وهو من وصل البعض بالبعض وهذا القول الموصل يحتمل أن يكون المراد منه إنا أنزلنا القرآن منجماً مفرقاً يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكير والتنبيه فإنهم كل يوم يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر وعلى هذا التقدير يكون هذا جواباً عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة كما أوتي موسى كتابه كذلك ويحتمل أن يكون المراد وصلنا أخبار الأنبياء بعضها ببعض وأخبار الكفار في كيفية هلاكهم تكثيراً لمواضع الاتعاظ والانزجار ويحتمل أن يكون المراد بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزاً مرة بعد أخرى لعلهم يتذكرون ثم إنه تعالى لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بأن قال الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ أي من قبل القرآن أسلموا بمحمد فمن لا يعرف الكتب أولى بذلك واختلفوا في المراد بقوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وذكروا فيه وجوهاً أحدها قال قتادة إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها فلما بعث الله تعالى محمداً آمنوا به من جملتهم سلمان وعبدالله بن سلام وثانيها قال مقاتل نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وهم أصحاب السفينة جاؤا من الحبشة مع جعفر وثالثها قال رفاعة بن قرظة نزلت في عشرة أنا أحدهم وقد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل من حصل في حقه تلك الصفة كان داخلاً في الآية ثم حكى عنهم ما يدل على تأكيد إيمانهم وهو قولهم بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ فقوله إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا يدل على التعليل يعني أن كونه حقاً من عند الله يوجب الإيمان به وقوله إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقوله بِهِ إِنَّهُ لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه ثم إنه تعالى لما مدحهم بهذا المدح العظيم قال أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وذكروا فيه وجوهاً أحدها أنهم يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل بعثته وبعد بعثته وهذا هو الأقرب لأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا به بعد البعثة وبين أيضاً أنهم كانوا به قبل مؤمنين البعثة ثم أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك وثانيها يؤتون الأجر مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذي كانوا قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومرة أخرى بإيمانهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها قال مقاتل هؤلاء لما آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران أجر على الصف وأجر على الإيمان يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه قال السدي اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول سلام عليكم ثم قال وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ والمعنى ( يدفعون ) بالطاعة المعصية المتقدمة ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو والصفح الأذى ويحتمل أن يكون المراد من الحسنة امتناعهم من المعاصي لأن نفس الامتناع حسنة ويدفع به ما لولاه لكان سيئة ويحتمل التوبة والإنابة والاستقرار عليها ثم قال وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
واعلم أنه تعالى مدحهم أولاً بالإيمان ثم

بالطاعات البدنية في قوله وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ ثم بالطاعات المالية في قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال القاضي دل هذا المدح على أن الحرام لا يكون رزقاً جوابه أن كلمة من للتبعيض فدل على أنهم استحقوا المدح بإنفاق بعض ما كان رزقاً وعلى هذا التقدير يسقط استدلاله ثم لما بين كيفية اشتغالهم بالطاعات والأفعال الحسنة بين كيفية إعراضهم عن الجهال فقال وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ واللغو ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره وكانوا يسمعون ذلك فلا يخوضون فيه بل يعرضون عنه إعراضاً جميلاً فلذلك قال تعالى وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وما أحسن ما قال الحسن رحمه الله في أن هذه الكلمة تحية بين المؤمنين وعلامة الاحتمال من الجاهلين ونظير هذه الآية قوله تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) ثم أكد تعالى ذلك بقوله حاكياً عنهم لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ والمراد لا نجازيهم بالباطل على باطلهم قال قوم نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأن ترك المسافهة مندوب وإن كان القتال واجباً

بداية الجزء الخامس والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَى ْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
إعلم أن في قوله تعالى إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء مسائل
المسألة الأولى هذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ثم قال الزجاج أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال عليه السلام ( يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسكا قال فما تريد يا ابن أخي قال أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى قال يا أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني إبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف )
المسألة الثانية أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وقال في آية أخرى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 ) ولا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والبيان والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدر وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال سبحانه أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ( الأنعام 122 ) الآية
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال فقالوا قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من

الهداية في قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى شيئاً وفي قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء شيئاً آخر لاختل النظم ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الدلالة أو الدعوة إلى الجنة أو تعريف طريق الجنة أو خلق المعرفة في القلوب على سبيل الإلجاء أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء لا جائز أن يكون المراد بيان الأدلة لأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير الهداية التي نفى الله عمومها وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة وأما الهداية بمعنى تعريف طريق الجنة فهي أيضاً غير مرادة من الآية لأنه تعالى علق هذه الهداية على المشيئة وتعريف طريق الجنة غير معلق على المشيئة لأنه واجب على الله تعالى والواجب لا يكون معلقاً على المشيئة فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير لا يجوز أن يقول إني أعطي عشرة دنانير إن شئت وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة وهما محالان ومستلزم المحال محال فذلك محال من الله تعالى والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة ولما بطلت الأقسام لم يبق إلا أن المراد أنه تعالى يخص البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها ولا يسأل عما يفعل ومتى أوردت الكلام على هذا الوجه سقط كل ما أورده القاضي عذراً عن ذلك
أما قوله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فالمعنى أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر شبههم وأجاب عنها بالأجوبة الواضحة وبين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ( القصص 57 ) قال المبرد الخطف الانتزاع بسرعة روى أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك تخطفنا من أرضنا أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا من أرضنا فأجاب الله سبحانه وتعالى عنها من وجوه الأول قوله أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً أي أعطيناكم مسكناً لا خوف لكم فيه إما لأن العرب كانوا يحترمون الحرم وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكانه فإنه يروى أن العرب خارج الحرم كانوا مشتغلين بالنهب والغارة وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكان الحر أو لقوله تعالى وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً ( آل عمران 97 ) وأما قوله يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء فهو تعالى كما بين كون ذلك الموضع خالياً عن المخاوف والآفات بين كثرة النعم فيه ومعنى يُجْبَى يجمع من قولهم جبيت الماء في الحوض إذا جمعته قرأ أهل المدينة تجبى بالتاء وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء وذلك أن تأنيث الثمرات تأنيث جمع وليس بتأنيث حقيقي فيجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على المعنى ومعنى الكلية الكثرة كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) وحاصل الجواب أنه تعالى لما جعل الحرم آمناً وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان فلو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى قال القاضي ولو أن الرسول قال لهم إن الذي ذكرتم من التخطف لو كان حقاً لم يكن عذراً لكم في أن لا تؤمنوا وقد ظهرت الحجة لانقطعوا أو قال لهم إن تخطفهم لكن بالقتل وغيره وقد آمنتم كالشهادة لكم فهو نفع عائد علكيم لانقطعوا أيضاً ولو قال لهم ما قدر مضرة التخطف في جنب العقاب الدائم الذي أخوفكم منه إن بقيتم على كفركم لانقطعوا لكنه تعالى احتج بما هو أقوى من حيث بين كذبهم في أنهم يتخطفون من حيث عرفوا من حال البقعة بالعادة أن ذلك لا يجري إن آمنوا ومثل ذلك إذا أمكن بيانه للخصم فهو أولى من سائر ما ذكرنا فلذلك قدمه الله تعالى

والآية دالة على صحة الحجاج الذي يتوصل به إلى إزالة شبهة المبطلين بقي ههنا بحثان
الأول قال صاحب ( الكشاف ) في انتصاب رزقاً إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله لأن معنى يجبى إليه ثمرات كل شيء ويرزق ثمرات كل شيء واحد وأن يكون مفعولاً له وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالاً من الثمرات لتخصيصها بالإضافة كما ينتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة
الثاني احتج الأصحاب بقوله رّزْقاً مّن لَّدُنَّا في أن فعل العبد خلق الله تعالى وبيانه أن تلك الأرزاق إنما كانت تصل إليهم لأن الناس كانوا يحملونها إليهم فلو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى لما صحت تلك الإضافة فإن قيل سبب تلك الإضافة أنه تعالى هو الذي ألقى تلك الدواعي في قلوب من ذهب بتلك الأرزاق إليهم قلنا تلك الدواعي إن اقتضت الرجحان فقد بينا في غير موضع أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وحينئذ يحصل المقصود وإن لم يحصل الرجحان انقطعت الإضافة بالكلية واعلم أنه تعالى إنما بين أن تلك الأرزاق ما وصلت إليهم إلا من الله تعالى لأجل أنهم متى علموا ذلك صاروا بحيث لا يخافون أحداً سوى الله تعالى ولا يرجون أحداً غير الله تعالى فيبقى نظرهم منقطعاً عن الخلق متعلقاً بالخالق وذلك يوجب كمال الإيمان والإعراض بالكلية عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله تعالى
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة وذلك لأنه تعالى لما بين لأهل مكة ما خصوا به من النعم أتبعه بما أنزله الله تعالى بالأمم الماضية الذين كانوا في نعم الدنيا فلما كذبوا الرسل أزال الله عنهم تلك النعم والمقصود أن الكفار لما قالوا إنا لا نؤمن خوفاً من زوال نعمة الدنيا فالله تعالى بين لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم لا الإقدام على الإيمان قال صاحب ( الكشاف ) البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه وانتصبت معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 ) أو بتقدير حذف الزمان المضاف وأصله بطرت أيام معيشتها وإما تضمين بطرت معنى كفرت
فأما قوله فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً ففي هذا الاستثناء وجوه أحدها قال ابن عباس رضي الله عنهما لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة وثانيها يحتمل أن شؤم معاصي

المهلكين بقي أثره في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين لها بعد هلاك أهلها وإذا لم يبق للشيء مالك معين قيل إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه أهلك تلك القرى بسبب بطر أهلها فكأن سائلاً أورد السؤال من وجهين الأول لماذا ما أهلك الله الكفار قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا مستغرقين في الكفر والعناد الثاني لماذا ما أهلكهم بعد مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأجاب عن السؤال الأول بقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة ثم ذكر المفسرون وجهين أحدهما وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً أي في القرية التي هي أمها وأصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رسولاً لإلزام الحجة وقطع المعذرة الثاني وما كان ربك مهلك القرى التي في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة رسولاً وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء ومعنى يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا يؤدي ويبلغ وأجاب عن السؤال الثاني بقوله وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ أنفسهم بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمناً
وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَى ْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثالث عن تلك الشبهة لأن حاصل شبهتهم أن قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى أما أنه خير فلوجهين أحدهما أن المنافع هناك أعظم وثانيهما أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار فيها أكثر وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومنافع الدنيا منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فكيف ونصيب كل أحد بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة ألبتة فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل ورحم الله الشافعي حيث قال من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بالطاعة فكأنه رحمه الله إنما أخذه من هذه الآية ثم إنه تعالى أكد هذا الترجيح من وجه آخر وهو أنا لو قدرنا أن نعم الله كانت تنتهي إلى الانقطاع والفناء وما كانت تتصل بالعذاب الدائم لكان صريح العقل يقتضي ترجيح نعم الآخرة

على نعم الدنيا فكيف إذا اتصلت نعم الدنيا بعقاب الآخرة فأي عقل يرتاب في أن نعم الآخرة راجحة عليها وهذا هو المراد بقوله أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ ( الصافات 57 ) فهو يكون كمن أعطاه الله قدراً قليلاً من متاع الدنيا ثم يكون في الآخرة من المحضرين للعذاب والمقصود أنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا فقال الله لهم لو لم يحصل عقيب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقتضي ترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا فكيف وهذه الدنيا يحصل بعدها العقاب الدائم وأورد هذا الكلام على لفظ الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بالترجيح وتخصيص لفظ المحضرين بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن قال تعالى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( الصافات 57 ) فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( الصافات 127 ) وفي لفظه إشعار به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة إنما يليق بمجالس الضرر والمكاره
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَاؤُلا ءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاٌّ نبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أنه يسأل الكفار يوم القيامة عن ثلاثة أشياء أحدها قوله وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ لما ثبت أن الكفار يوم القيامة قد عرفوا بطلان ما كانوا عليه وعرفوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة فيقول لهم أين ما كنتم تعبدونه وتجعلونه شريكاً في العبادة وتزعمون أنه يشفع أين هو لينصركم ويخلصكم من هذا الذي نزل بكم ثم بين تعالى ما يقوله من حق عليه القول والمراد من القول هو قوله لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( هود 119 ) ومعنى حق عليه القول أي حق عليه مقتضاه واختلفوا في أن الذين حق عليهم هذا القول من هم فقال بعضهم الرؤساء الدعاة إلى الضلال وقال بعضهم الشياطين قوله رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصوف محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا والمراد كما أن غينا باختيارنا فكذا غيهم باختيارهم يعني أن أغواءنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين بالإقدام على تلك العقائد والأعمال وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تلوموني ولوموا أنفسكم إبراهيم 22

وقال تعالى لإبليس إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( إبراهيم 22 ) فقوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ ( الحجر 42 ) يدل على أن ذلك الاتباع لهم من قبل أنفسهم لا من قبل إلجاء الشيطان إلى ذلك ثم قال تبرأنا إليك منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم والحاصل أنهم يتبرءون منهم كما قال تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( البقرة 166 ) وأيضاً فلا يمتنع في قوله تعالى أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( النحل 27 ) أن يريد به هؤلاء الرؤساء والشياطين فإنهم لما أطاعوهم فقد صيروهم لمكان الطاعة بمنزله الشريك لله تعالى وإذا حمل الكلام على هذا الوجه كان جوابهم أن يقولوا إلهنا هؤلاء ما عبدونا إنما عبدوا أهواءهم الفاسدة وثانيها قوله تعالى وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ والأقرب أن هذا على سبيل التقرير لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم فالمراد أنهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة وأن العذاب ثابت فيهم وكل ذلك على وجه التوبيخ وفي ذكره ردع وزجر في دار الدنيا فأما قوله تعالى لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ فكثير من المفسرين زعموا أن جواب لو محذوف وذكروا فيه وجوهاً أحدها قال الضحاك ومقاتل يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة وثانيها لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق وثالثها ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون ورابعها لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب وخامسها قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قوله تعالى لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( الشعراء 201 ) وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقريره وجوه أحدها أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله ادْعُواْ فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار ويصيرون بحيث لا يبصرون شيئاً فقال تعالى لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ شيئاً أما لما صاروا من شدة الخوف بحيث لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب وثانيها أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام قلنا هذا كقوله فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا ههنا وثالثها أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية الأمر الثالث من الأمور التي يسأل الله الكفار عنها قوله وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء ( القصص 65 66 ) أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم فهم لا يتساءلون لا يسأل بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات لأنهم يتساوون جميعاً في عمي الأنباء عليهم والعجز عن الجواب وقرىء فعميت وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك يتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ويفوضون الأمر إلى علم الله وذلك قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( المائدة 109 ) فما ظنك بهؤلاء الضلال قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان القول بالجبر لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله تعالى ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا إنما أتينا في تكذيب الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم والقدرة

الموجبة لذلك فكانت حجتهم على الله تعالى طاهرة وكذلك القول فيما تقدم لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك في الغواية وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك فتكون الحجة لهم في ذلك قوية والعذر ظاهراً والجواب أن القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والثواب والعقاب إلا ويعيد استدلاله بها وكما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف فكذا وجه جوابنا حرف واحد وهو أن علم الله تعالى بعدم الإيمان مع وقوع الإيمان متنافيان لذاتيهما فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمر بالجمع بين الضدين والذي اعتمد القاضي عليه في دفع هذا الحرف في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن بل الواجب السكوت ولو أورد الكافر هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهراً فثبت أن الإشكال مشترك والله أعلم
فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاٍّ ولَى وَالاٌّ خِرَة ِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين حال المعذبين من الكفار وما يجري عليهم من التوبيخ أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة وزجراً عن الثبات على الكفر فقال فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وفي عسى وجوه أحدها أنه من الكرام تحقيق والله أكرم الأكرمين وثانيها أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح وثالثها عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا واعلم أن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى ويقولون لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) يعنون الوليد بن المغيرة أو أبا مسعود الثقفي فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ والمراد أنه المالك المطلق وهو منزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء لا اعتراض عليه ألبتة وعلى طريقة المعتزلة لما ثبت أنه حكيم مطلق علم أنه كل ما فعله كان حكمة وصواباً فليس لأحد أن يعترض عليه وقوله مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ والخيرة اسم من الاختيار قام مقام المصدر والخيرة أيضاً اسم للمختار يقال محمد خيرة الله في خلقه إذا عرفت هذا فنقول في الآية وجهان الأول وهو الأحسن أن يكون تمام الوقف على قوله وَيَخْتَارُ ويكون ما نفياً والمعنى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ليس لهم الخيرة إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل والثاني أن يكون ما بمعنى الذي فيكون الوقف عند قوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ثم يقول وَيَخْتَارُ ما كان لهم الخيرة قال=

ج24. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

أبو القاسم الانصاري وهذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله فإن قيل لما كلفه استوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا إذا علم قطعاً إنه لا يحصل ذلك الأفضل فتوريطه في العقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة ثم قولهم المستحق خير من المتفضل به جهل لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله أما الذي ما حصل الذات والصفات إلا بخلقه وبفضله وإحسانه فكيف يستنكف من تفضله ثم قال سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والاعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه يعلم ما تكن صدورهم من عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما يعلنون من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختير غيره في النبوة ولما بين علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال وَهُوَ اللَّهُ لا إله هُوَ وفيه تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات يجازي المحسنين على طاعتهم ويعاقب العصاة على عصيانهم وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة ونهاية تقوية القلب للمطيعين ويحتمل أيضاً أن لما بين فساد طريق المشركين من قوله يَوْمٍ يُنَادِيهِمْ فيقول أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( النحل 27 ) ختم الكلام في ذلك بإظهار هذا التوحيد وبيان أن الحمد والثناء لا يليق إلا به
أما قوله لَهُ الْحَمْدُ فِى الاْولَى وَالاْخِرَة ِ فو ظاهر على قولنا لأن الثواب غير واجب عليه بل هو سبحانه يعطيه فضلاً وإحساناً فله الحمد في الأولى والآخرة ويؤكد ذلك قول أهل الجنة الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ( فاطر 34 ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ ( الزمر 74 ) ءاخَرَ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( يونس 10 ) أما المعتزلة فعندهم الثواب مستحق فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة وأما أهل النار فما أنعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم قال القاضي إنه يستحق الحمد والشكر من أهل النار أيضاً بما فعله بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والإلطاف وسائر النعم لأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله عليهم من أن يوجب الشكر وهذا فيه نظر لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا بالضرورة أن التوبة عن القبائح يجب على الله قبولها وعلموا بالضرورة أن الاشتغال بالشكر الواجب عليهم يوجب على الله الثواب وهم قادرون على ذلك وعالمون بأن بذلك مما يخلصهم عن العذاب ويدخلهم في استحقاق الثواب أفترى أن الإنسان مع العلم بذلك والقدرة عليه يترك هذه التوبة كلا بل لا بد أن يتوبوا وأن يشتغلوا بالشكر ومتى فعلوا ذلك فقد بطل العقاب
أما قوله وَلَهُ الْحُكْمُ فهو إما في الدنيا أو في الآخرة فأما في الدنيا فحكم كل أحد سواه إنما نفذ بحكمه فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ولا على الزوجة حكم زوجها ولا على الابن حكم أبيه ولا على الرعية حكم سلطانهم ولا على الأمة حكم الرسول فهو الحاكم في الحقيقة وأما في الآخرة فلا شك أنه هو الحاكم لأنه الذي يتولى الحكم بين العباد في الآخرة فينتصف للمظلومين من الظالمين
أما قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالمعنى وإلى محل حكمه وقضائه ترجعون فإن كلمة إلى لانتهاء الغاية وهو تعالى منزه من المكان والجهة

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال بقوله وَهُوَ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاْولَى وَالاْخِرَة ِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( القصص 70 ) فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه فقال لرسوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فنبه على أن الوجه في كون الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان لأن المرء في الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فيمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم لولا الراحة والسكون بالليل فلا بد منهما والحالة هذه فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات فبين تعالى أنه لا قادر على ذلك إلا الله تعالى وإنما قال أَفَلاَ تَسْمَعُونَ أَفلاَ تُبْصِرُونَ لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر فلما لم ينتفعوا نزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر قال الكلبي قوله أَفَلاَ تَسْمَعُونَ معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك وقوله أَفلاَ تُبْصِرُونَ معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال قال صاحب ( الكشاف ) السرمد الدائم المتصل من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد فإن قيل هلا قال بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه قلنا ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة وإنما قرن بالضياء أفلا تسمعون لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل أفلا تبصرون لأن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه ومن رحمته زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ولتبتغوا من فضله في الآخر وهو النهار ولأداء الشكر على المنفعتين معاً
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ

اعلم أنه سبحانه لما هجن طريقة المشركين أولاً ثم ذكر التوحيد ودلائله ثانياً عاد إلى تهجين طريقتهم مرة أخرى وشرح حالهم في الآخرة فقال وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أي القيامة فيقول أَيْنَ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ والمعنى أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين قولكم تقربنا إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله فيكون ذلك زائداً في غمهم إذا خوطبوا بهذا القول
أما قوله وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّة ٍ شَهِيداً فالمراد ميزنا واحداً ليشهد عليهم ثم قال بعضهم هم الأنبياء يشهدون بأنهم بلغوا القوم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زائداً في غمهم وقال آخرون بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب لأنه تعالى عم كل أمة وكل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه الأحوال التي لم يوجد فيها النبي وهي أزمنة الفترات والأزمنة التي حصلت بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعلموا حينئذٍ أن الحق لله ولرسله وَضَلَّ عَنْهُم غاب عنهم غيبة الشىء الضائع مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ من الباطل والكذب
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَة ِ أُوْلِى الْقُوَّة ِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاٌّ خِرَة َ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرض إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّة ً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
اعلم أن نص القرآن يدل على أن قارون كان من قوم موسى عليه السلام وظاهر ذلك يدل على أنه كان ممن قد أمن به ولا يبعد أيضاً حمله على القرابة قال الكلبي إنه كان ابن عم موسى عليه السلام لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى وموسى بن عمران بن قاهث بن لاوى وقال محمد بن إسحق إنه كان عم موسى عليه السلام لأن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث وقارون بن يصهر بن قاهث وعن ابن

عباس أنه كان ابن خالته ثم قيل إنه كان يسمى المنور لحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري
أما قوله فَبَغَى عَلَيْهِمْ ففيه وجوه أحدها أنه بغى بسبب ماله وبغيه أنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله والثاني أنه من الظلم قيل ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم الثالث قال القفال بغى عليهم أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده الرابع قال الضحاك طغى عليهم واستطال عليهم فلم يوفقهم في أمر الخامس قال ابن عباس تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم السادس قال شهر بن حوشب بغيه عليهم أنه زاد عليهم في الثياب شبراً وهذا يعود إلى التكبر السابع قال الكلبي بغيه عليهم أنه حسد هرون على الحبورة يروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر وأغرق الله تعالى فرعون جعل الحبورة لهرون فحصلت له النبوة والحبورة وكان صاحب القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة فوجد قارون من ذلك في نفسه فقال يا موسى لك الرسالة ولهرون الحبورة ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا فقال موسى عليه السلام والله ما صنعت ذلك لهرون ولكن الله جعله له فقال والله لا أصدقك أبداً حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهرون قال فأمر موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل أن يجىء كل رجل منهم بعصاه فجاءوا بها فألقاها موسى عليه السلام في قبة له وكان ذلك بأمر الله تعالى فدعا ربه أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هرون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون أما ترى ما صنع الله لهرونا فقال والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فاعتزل قارون ومعه ناس كثير وولى هرون الحبورة والمذبح والقربان فكان بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هرون فيضعها في المذبح وتنزل النار من السماء فتأكلها واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان قارون من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى )
أما قوله إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ أُوْلِى الْقُوَّة ِ ففيه أبحاث
الأول قال الكعبي ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف الله مال قارون إلى نفسه بقوله وَءاتَيْنَاهُ وأجاب بأنه لا حجة في أنه كان حراماً ويجوز أن من تقدمه من الملوك جمعوا وكنزوا فظفر قارون بذلك وكان هذا الظفر طريق التملك أو وصل إليه بالإرث من جهات ثم بالتكسب من جهة المضاربات وغيرها وكان الكل محتملاً
البحث الثاني المفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به وقيل هي الخزائن وقياس واحدها مفتح بفتح الميم ويقال ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله والعصبة الجماعة الكثيرة والعصابة مثلها فالعشرة عصبة بدليل قوله تعالى في إخوة يوسف عليه السلام وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ ( يوسف 8 ) وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم
إذا عرفت معنى الألفاظ فنقول ههنا قولان أحدهما أن المراد بالمفاتح المفاتيح وهي التي يفتح بها الباب قالوا كانت مفاتيحه من جلود الإبل وكل مفتاح مثل إصبع وكان لكل خزانة مفتاح وكان إذا ركب

قارون حملت المفاتيح على ستين بغلاً ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين الأول أن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح الثاني أن الكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتيح والجواب عن الأول أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقد جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد وأيضاً فهذا الذي يقال إن تلك المفاتيح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن فلا تقبل هذه الرواية وتفسير القرآن أن تلك المفاتيح كانت كثيرة وكان كل واحد منها معيناً لشيء آخر فكان يثقل على العصبة ضبطها ومعرفتها بسبب كثرتها وعلى هذا الوجه يزول الاستبعاد وعن الثاني أن ظاهر الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق القول الثاني وهو اختيار ابن عباس والحسن أن تحمل المفاتح على نفس المال وهذا أبين وعن الشبهة أبعد قال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء وكانت خزائنه أربعمائة ألف فيحمل كل رجل عشرة آلاف القول الثالث وهو اختيار أبي مسلم أن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( الأنعام 59 ) والمراد آتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أولي القوة والهداية أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها والقائمين عليها أن يحفظوها ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور أحدها قوله لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة أصلاً وقال بعضهم إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح بها وما أحسن ما قال المتنبي أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( الحديد 23 ) قال ابن عباس كان فرحه ذلك شركاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى وثانيها قوله وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاْخِرَة َ والظاهر أنه كان مقراً بالآخرة والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة ويسلك طريقة التواضع وثالثها قوله وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وفيه وجوه أحدها لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا فلأجل ذلك ما كان يتفرغ للتنعم والالتذاذ فنهاه الواعظ عن ذلك وثانيها لما أمره الواعظ بصرف المال إلى الآخرة بين له بهذا الكلام أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة وثالثها المراد منه الإنفاق في طاعة الله فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب قال عليه السلام ( فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار ) ورابعها قوله وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر وإنما قال كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ تنبيهاً على قوله لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبراهيم 7 ) وخامسها قوله وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ والمراد ما كان عليه من الظلم والبغي وقيل إن هذا القائل هو موسى عليه السلام وقال آخرون بل مؤمنو قومه وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما لو قيل لم يكن عليه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه بكفر النعمة فقال إنما أوتيته على علم عندي وفيه وجوه أحدها قال

قتادة ومقاتل والكلبي كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك وثانيها قال سعيد بن المسيب والضحاك كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وكالب ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة والنحاس فيجعله ذهباً وثالثها أراد به علمه بوجوه المكاسب والتجارات ورابعها أن يكون قوله إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أي الله أعطاني ذلك مع كونه عالماً بي وبأحوالي فلو لم يكن ذلك مصلحة لما فعل وقوله عِندِى أي عندي أن الأمر كذلك كما يقول المفتى عندي أن الأمر كذلك أي مذهبي واعتقادي ذلك ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّة ً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وفيه وجهان الأول يجوز أن يكون هذا إثباتاً لعلمه بأن الله تعالى قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى لأنه قد قرأه في التوراة وأخبر به موسى عليه السلام وسمعه من حفاظ التواريخ كأنه قيل له أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته الثاني يجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك كأنه لما قال أوتيته على علم عندي فتصلف بالعلم وتعظم به قيل أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين
أما قوله وَأَكْثَرُ جَمْعاً فالمعنى أكثر جمعاً للمال أو أكثر جماعة وعدداً وحاصل الجواب أن اغتراره بماله وقوته وجموعه من الخطأ العظيم وأنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافاً
فأما قوله وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فالمراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة به إلى السؤال فإن قيل كيف الجمع بينه وبين قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) قلنا يحمل ذلك على وقتين على ما قررناه وذكر أبو مسلم وجهاً آخر فقال السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتقرير والتبكيت وقد يكون للاستعتاب وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( النحل 84 ) هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( المرسلات 35 36 )
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِى َ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَة ٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ

أما قوله فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ فيدل على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر إلا أن الناس ذكروا وجوهاً مختلفة في كيفية تلك الزينة قال مقاتل خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول وعليها الثياب الأرجوانية ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلى والثياب الحمر على البغال الشهب وقال بعضهم بل خرج في تسعين ألفاً هكذا وقال آخرون بل على ثلثمائة والأولى ترك هذه التقريرات لأنها متعارضة ثم إن الناس لما رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم يرغب في الدنيا الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى َ قَارُونُ من هذه الأمور والأموال والراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا وأما العلماء وأهل الدين فقالوا للذين تمنوا هذا ويلكم ثواب الله خير من هذه النعم لأن للثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار ودائمة وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاث قال صاحب ( الكشاف ) ويلك أصله الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى
أما قوله وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فقال المفسرون لا يوفق لها والضمير في يلقاها إلى ماذا يعود فيه وجهان أحدهما إلى ما دل عليه قوله وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصابرون والثاني قال الزجاج يعني ولا يلقى هذه الكلمة وهي قولهم ثواب الله خير إلا الصابرون على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار
وأما قوله فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ففيه وجهان أحدهما أنه لما أشر وبطر وعتا خسف الله به وبداره الأرض جزاء على عتوه وبطره والفاء تدل على ذلك لأن الفاء تشعر بالعلية وثانيها قيل إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت نفسه فجمع بني إسرائيل وقال إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا أنت سيدنا وكبيرنا فمرنا بما شئت قال نبرطل فلانة البغي حتى تنسبه إلى نفسها فيرفضه بنو إسرائيل فجعل لها طستاً من ذهب مملوءاً ذهباً فلما كان يوم عيد قام موسى فقال يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ومن زنى وهو ( غير ) محصن جلدناه وإن أحصن رجمناه فقال قارون وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يقولون إنك فجرت بفلانة فأحضرت فناشدها موسى بالله الذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله تعالى فقالت كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجداً يبكي وقال يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله عز وجل إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك فقال يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ثم قال خذيهم فانطبقت الأرض عليهم فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام ما أفظك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم أما وعزتي لودعوني مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون

بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله ثم إن قارون يخسف به كل يوم مائة قامة قال القاضي إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك فإنه لا يمتنع ما روى على وجه المبالغة في الزجر وأما قولهم إنه تعالى قال لو استغاث بي لأغثته فإن صح حمل على استغاثة مقرونة بالتوبة فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف لأن موسى عليه السلام ما فعله إلا عن أمره فبعيد وقولهم إنه يتجلجل في الأرض أبداً فبعيد لأنه لا بد له من نهاية وكذا القول فيما ذكر من عدد القامات والذي عندي في أمثال هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين وليست المسألة مسألة عملية حتى يكتفى فيها بالظن ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب
أما قوله وَمَا كَانَ مِنَ فالمراد من المنتقمين من موسى أو من الممتنعين من عذاب الله تعالى يقال نصره من عدوه فانتصر أي منعه منه فامتنع
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالاٌّ مْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ
اعلم أن القوم الذين شاهدوا قارون في زينته لما شاهدوا ما نزل به من الخسف صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى عليه السلام وداعياً إلى الرضا بقضاء الله تعالى وقسمته وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبياء الله ورسله
أما قوله يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ فاعلم أن وي كلمة مفصولة عن كأن وهي كلمة مستعملة عند التنبه للخطأ وإظهار التندم فلما قالوا الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى َ قَارُونُ ( القصص 79 ) ثم شاهدوا الخسف تنبهوا لخطئهم فقالوا وي ثم قالوا كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة قال سيبويه سألت الخليل عن هذا الحرف فقال إن وي مفصولة من كان وأن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وذكر الفراء وجهين أحدهما أن المعنى ويلك فحذف اللام وإنما جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك اعلم أن الله وهذا قول قطرب حكاه عن يونس الثاني وي منفصلة من كأن وهو للتعجب يقول الرجل لغيره وي أما ترى ما بين يديك فقال الله وي ثم استأنف كان الله يبسط فالله تعالى إنما ذكرها تعجيباً لخلقه قال الواحدي وهذا وجه مستقيم غير أن العرب لم تكتبها منفصلة ولو كان على ما قالوه لكتبوها

منفصلة وأجاب الأولون بأن خط المصحف لا يقاس عليه ثم قالوا لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وهذا تأكيد لما قبله
أما قوله تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَة ُ فتعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما وعن علي عليه السلام إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها قال صاحب ( الكشاف ) ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون لقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( القصص 4 ) والفساد لقارون لقوله وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ ( القصص القصص 77 ) ويقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ كما تدبره علي بن أبي طالب عليه السلام
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَى ْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علواً في الأرض ولا فساداً بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل لهم فقال مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وفيه وجوه أحدهما المعنى من جاء بالحسنة حصل له من تلك الكلمة خير وثانيها حصل له شيء هو أفضل من تلك الحسنة ومعناه أنهم يزادون على ثوابهم وقد مر تفسيره في آخر النمل وأما قوله وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فظاهره أن لا يزادوا على ما يستحقون وإذا صح ذلك في السيئات دل أن المراد في الحسنات بما هو خير منها ما ذكرناه من مزيد الفضل على الثواب قال صاحب ( الكشاف ) تقدير الآية ومن جاء بالسيئة فلا يجزون إلا ما كانوا يعملون لكنه كرر ذلك لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ويجزي بالحسنة عشر أمثالها وههنا سؤالان

السؤال الأول قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) كرر ذلك الإحسان واكتفى بذكر الإساءة بمرة واحدة وفي هذه الآية كرر ذكر الإساءة مرتين واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة فما السبب الجواب لأن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في الزجر عن المعصية لائقة بهذا الباب لأن المبالغة في الزجر عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة وأما الآية الآخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى
السؤال الثاني كيف قال لا تجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد والجواب لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه قال الجبائي وهذا يدل على بطلان مذهب من يجوز على الله تعالى أن يعذب الأطفال عذاباً دائماً بغير جرم قلنا لا يجوز أن يفعله وليس في الآية ما يدل عليه ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة واستقصى في ذلك شرح له ما يتصل بأحواله فقال إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قال أبو علي الذي فرض عليك أحكامه وفرائضه لرادك بعد الموت إلى معاد وتنكير المعاد لتعظيمه كأنه قال إلى معاد وأي معاد أي ليس لغيرك من البشر مثله وقيل المراد به مكة ووجهه أن يراد برده إليها يوم الفتح ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن عظيم لاستيلاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليها وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفر والسورة مكية فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهراً ظافراً وقال مقاتل إنه عليه السلام خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه فنزل جبريل عليه السلام وقال تشتاق إلى بلدك ومولدك فقال عليه السلام نعم فقال جبريل عليه السلام فإن الله تعالى يقول إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ يعني إلى مكة ظاهراً عليهم وهذا أقرب لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل العود وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب قال أهل التحقيق وهذا أحد ما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ثم قال قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ووجه تعلقه بما قبله أن الله تعالى وعد رسوله الرد إلى معاد قال قُلْ للمشركين رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم ثم قال لرسوله وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ ففي كلمة إلا وجهان أحدهما أنها للاستثناء ثم قال صاحب ( الكشاف ) هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل ( وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) ويمكن أيضاً إجراؤه على ظاهره أي وما كنت ترجو إلا أن يرحمك الله برحمته فينعم عليك بذلك أي ما كنت ترجو إلا على هذا والوجه الثاني أن إلا بمعنى لكن للاستدراك أي ولكن رحمة من ربك ألقى إليك ونظيره قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَة ً مّن رَّبِكَ ( القصص 46 ) خصصك به ثم إنه كلفه بأمور أحدها كلفه بأن لا يكون مظاهراً للكفار فقال فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لّلْكَافِرِينَ وثانيها أن قال وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ الميل إلى المشركين قال الضحاك وذلك حين دعوه إلى دين آبائه ليزوجوه ويقاسموه شطراً من مالهم أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله وثالثها قوله وَادْعُ إِلَى رَبّكَ أي

إلى دين ربك وأراد التشدد في دعاء الكفار والمشركين فلذلك قال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم ورابعها قوله وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ وهذا وإن كان واجباً على الكل إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصاً لأجل التعظيم فإن قيل الرسول كان معلوماً منه أن لا يفعل شيئاً من ذلك ألبتة فما فائدة هذا النهي قلنا لعل الخطاب معه ولكن المراد غيره ويجوز أن يكون المعنى لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلاً في أمورك فإن من وثق بغير الله تعالى فكأنه لم يكمل طريقه في التوحيد ثم بين أنه لا إله إلا هو أي لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو كقوله رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ( المزمل 9 ) فلا يجوز اتخاذ إله سواء ثم قال كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شيء سواه ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به ومنهم من قال معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلاً للعدم فكان قابلاً للهلاك فأطلق عليه اسم الهلاك نظراً إلى هذا الوجه
واعلم أن المتكلمين لما أرادوا إقامة الدلالة على أن كل شيء سوى الله تعالى يقبل العدم والهلاك قالوا ثبت أن العالم محدث وكل ما كان محدثاً فإن حقيقته قابلة للعدم والوجود وكل ما كان كذلك وجب أن يبقى على هذه الحالة أبداً لأن الإمكان من لوازم الماهية ولازم الماهية لا يزول قط إلا أنا لما نظرنا في هذه الدلالة ما وجدناها وافية بهذا الغرض لأنهم إنما أقاموا الدلالة على حدوث الأجسام والأعراض فلو قدروا على إقامة الدلالة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز أو قائم بالمتحيز لتم غرضهم إلا أن الخصم يثبت موجودات لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز فالدليل الذي يبين حدوث المتحيز والقائم بالمتحيز لا يبين حدوث كل ما سوى الله تعالى إلا بعد قيام الدلالة على نفي ذلك القسم الثالث ولهم في نفي هذا القسم الثالث طريقان أحدهما قولهم لا دليل عليه فوجب نفيه وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية والثاني قولهم لو وجد موجود هكذا لكان مشاركاً لله تعالى في نفي المكان والزمان والإمكان ولو كان كذلك لصار مثلاً لله تعالى وهو ضعيف لاحتمال أن يقال إنهما وإن اشتركا في هذا السلب إلا أنه يتميز كل واحد منهما عن الآخر بماهية وحقيقة وإذا كان كذلك ظهر أن دليلهم العقلي لا يفي بإثبات أن كل شيء هالك إلا وجهه والذي يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول ثبت أن صانع العالم واجب الوجود لذاته فيستحيل وجود موجود آخر واجب لذاته وإلا لاشتركا في الوجوب وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بخصوصيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً عما به المشاركة وعما به الممايزة وكل مركب ممكن مفتقر إلى جزئه ثم إن الجزأين إن كانا واجبين كانا مشتركين في الوجوب ومتمايزين باعتبار آخر فيلزم تركب كل واحد منهما أيضاً ويلزم التسلسل وهو محال وإن لم يكونا واجبين فالمركب عنهما المفتقر إليهما أولى أن لا يكون واجباً فثبت أن واجب الوجود واحد وأن كل ما عداه فهو ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح وافتقاره إلى المرجح إما حال عدمه أو حال وجوده فإن كان الأول

ثبت أنه محدث وإن كان الثاني فافتقار الموجود إلى المؤثر إما حال حدوثه أو حال بقائه والثاني باطل لأنه يلزم إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن الافتقار لا يحصل إلا حال الحدوث وثبت أن كل ما سوى الله تعالى محدث سواء كان متحيزاً أو قائماً بالمتحيز أو لا متحيزاً ولا قائماً بالمتحيز فإن نقضت هذه الدلالة بذات الله وصفاته فاعلم أن هناك فرقاً قوياً وإذا ثبت حدوث كل ما سواه وثبت أن كل ما كان محدثاً كان قابلاً للعدم ثبت بهذا البرهان الباهر أن كل شيء هالك إلا وجهه بمعنى كونه قابلاً للهلاك والعدم ثم إن الذين فسروا الآية بذلك قالوا هذا أولى وذلك لأنه سبحانه حكم بكونها هالكة في الحال وعلى ما قلناه فهي هالكة في الحال وعلى ما قلتموه أنها ستهلك لا إنها هالكة في الحال فكان قولنا أولى وأيضاً فالممكن إذا وجد من حيث هو لم يكن مستحقاً لا للوجود ولا للعدم من ذاته فهذه الاستحقاقية مستحقة له من ذاته وأما الوجود فوارد عليه من الخارج فالوجود له كالثوب المستعار له وهو من حيث هو هو كالإنسان الفقير الذي استعار ثوباً من رجل غني فإن الفقير لا يخرج بسبب ذلك عن كونه فقيراً كذا الممكنات عارية عن الوجود من حيث هي هي وإنما الوجود ثوب حصل لها بالعارية فصح أنها أبداً هالكة من حيث هي هي أما الذين حملوه على أنها ستعدم فقد احتجوا بأن قالوا الهلاك في اللغة له معنيان أحدهما خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به الثاني الفناء والعدم لا جائز حمل اللفظ على الأول لأن هلاكها بمعنى خروجها عن حد الانتفاع محال لأنها وإن تفرقت أجزاؤها فإنها منتفع بها لأن النفع المطلوب كونها بحيث يمكن أن يستدل بها على وجود الصانع القديم وهذه المنفعة باقية سواء بقيت متفرقة أو مجتمعة وسواء بقيت موجودة أو صارت معدومة وإذا تعذر حمل الهلاك على هذا الوجه وجب حمله على الفناء أجاب من حمل الهلاك على التفرق قال هلاك الشيء خروجه عن المنفعة التي يكون الشيء مطلوباً لأجلها فإذا مات الإنسان قيل هلك لأن الصفة المطلوبة منه حياته وعقله وإذا تمزق الثوب قيل هلك لأن المقصود منه صلاحيته للبس فإذا تفرقت أجزاء العالم خرجت السموات والكواكب والجبال والبحار عن صفاتها التي لأجلها كانت منتفعاً بها انتفاعاً خاصاً فلا جرم صح إطلاق اسم الهالك عليها فأما صحة الاستدلال بها على الصانع سبحانه فهذه المنفعة ليست منفعة خاصة بالشمس من حيث هي شمس والقمر من حيث هو قمر فلم يلزم من بقائها أن لا يطلق عليها اسم الهالك ثم احتجوا على بقاء أجزاء العالم بقوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وهذا صريح بأن تلك الأجزاء باقية إلا أنها صارت متصفة بصفة أخرى فهذا ما في هذا الموضع
المسألة الثانية احتج أهل التوحيد بهذه الآية على أن الله تعالى شيء قالوا لأنه استثنى من قوله كُلّ شَى ْء استثناء يخرج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت اللفظ فوجب كونه شيئاً يؤكده ما ذكرناه في سورة الأنعام وهو قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) واحتجاجهم على أنه ليس بشيء بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والكاف معناه المثل فتقدير الآية ليس مثل مثله شيء ومثل مثل الله هو الله فوجب أن لا يكون الله شيئاً جوابه أن الكاف صلة زائدة
المسألة الثالثة استدلت المجسمة بهذه الآية على أن الله تعالى جسم من وجهين الأول قالوا الآية صريحة في إثبات الوجه وذلك يقتضي الجسمية والثاني قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وكلمة إلى لانتهاء الغاية وذلك لا يعقل إلا في الأجسام والجواب لو صح هذا الكلام يلزم أن يفنى جميع أعضائه وأن لا يبقى منه

إلا الوجه وقد التزم ذلك بعض المشبهة من الرافضة وهو بيان ابن سمعان وذلك لا يقول به عاقل ثم من الناس من قال الوجه هو الوجود والحقيقة يقال وجه هذا الأمر كذا أي حقيقته ومنهم من قال الوجه صلة والمراد كل شيء هالك إلا هو وأما كلمة إلى فالمعنى وإلى موضع حكمه وقضائه ترجعون
المسألة الرابعة استدلت المعتزلة به على أن الجنة والنار غير مخلوقتين قالوا لأن الآية تقتضي فناء الكل فلو كانتا مخلوقتين لفنيتا وهذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) والجواب هذا معارض بقوله تعالى في صفة الجنة أُعِدَّتْ ( آل عمران 133 ) وفي صفة النار الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 ) ثم إما أن يحمل قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ على الأكثر كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) أو يحمل قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ على أن زمان فنائهما لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائهما لا جرم أطلق لفظ الدوام عليه
المسألة الخامسة قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ يدل على أن الذات ذات بالفعل لأنه حكم بالهلاك على الشيء فدل على أن الشيء في كونه شيئاً قابل للهلاك فوجب أن لا يكون المعدوم شيئاً والله أعلم والحمد لله رب العالمين

سورة العنكبوت
مكية وقيل مدنية وقيل نزلت من أولها إلى رأس عشر بمكة
وباقيها بالمدينة أو نزل إلى آخر العشر بالمدينة
وباقيها بمكة وبالعكس وهي سبعون أو تسع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
ال م أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
المسألة الأولى في تعلق أول هذه السورة بما قبلها وفيه وجوه الأول لما قال الله تعالى قبل هذه السورة إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ( القصص 85 ) وكان المراد منه أن يرده إلى مكة ظاهراً غالباً على الكفار ظافراً طالباً للثأر وكان فيه احتمال مشاق القتال صعب على البعض ذلك فقال الله تعالى الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا ولا يؤمروا بالجهاد الوجه الثاني هو أنه تعالى لما قال في أواخر السورة المتقدمة وَادْعُ إِلَى رَبّكَ ( القصص 87 ) وكان في الدعاء إليه الطعان والحراب والضراب لأن النبي عليه السلام وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفار بمجرد الدعاء فشق على البعض ذلك فقال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ الوجه الثالث هو أنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر فقال لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني ليس كل شيء هالكاً من غير رجوع بل كل هالك وله رجوع إلى الله إذا تبين هذا فاعليم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف فإنها مشاق في الحال ولا فائدة لها في المآل إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال فلا فائدة فيها فلما بين الله أنهم إليه يرجعون بين أن الأمر ليس على ما حسبوه بل حسن التكليف ليثيب الشكور ويعذب الكفور فقال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم

المسألة الثانية في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي ولنقدم عليه كلاماً كلياً في افتتاح السور بالحروف فنقول الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئاً غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه ثم يشرع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفعوم كقول القائل اسمع واجعل بالك إلى وكن لي وقد يكون شيئاً هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم كان المقدم على المقصود أكثر ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد والغافل ينبه أولاً فيقال ألا يا زيد إذا ثبت هذا فنقول إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاماً منظوماً وقولا مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الإلتفات عنه أما إذا سمع منه صوتاً بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود فاذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز والله أعلم بجميع الأشياء لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 ) الم اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران 1 3 ) المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ( الأعراف 1 2 ) يس وَالْقُرْءانِ ( ي س 1 2 ) ص وَالْقُرْءانِ ( ص 1 ) ق وَالْقُرْءانِ ( ق 1 ) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( السجدة 1 2 ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( الجاثية 1 2 ) إلا ثلاث سور كهعيص ( مريم 1 ) الضَّالّينَ الم أَحَسِبَ النَّاسُ الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم 1 2 ) والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ( المزمل 5 ) وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظاً أو لم يكن فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه وأيضاً فقد وردت سورة فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قلبها حروف كقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وقوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا ( النور 1 ) وقوله تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( الفرقان 1 ) وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) لأنا نقول جواباً عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ط 1 2 ) مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما وكتاب آخر يرد منه عليه فيه إنا كتبنا إليك كتباً إليك كتباً فيها أوامرنا فامتثلها لا شك

أن عبء الكتاب الآخر أكثر من ثقل الأول وعن الثاني أن قوله الْحَمْدُ اللَّهِ وَتَبَارَكَ الَّذِى تسبيحات مقصودة وتسبيح الله لا يغفل عنه العبد فلا يحتاج إلى منبه بخلاف الأوامر والنواهي وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا قد بينا أنها من القرآن فيها ذكر انزالها وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم في النفس وأثقل
وأما قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فنقول هذا ليس وارداً على مشغول القلب بشيء غيره بدليل أنه ذكر الكناية فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ الهاء راجع إلى معلوم عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان متنبهاً له فلم ينبه واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كما في قوله تعالى تَصِفُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) وقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( لأحزاب 1 ) عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ ( التحريم 1 ) لأنها أشياء هائلة عظيمة فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيهاً وأما هذه السورة افتتحت بالحروف وليس فيها الإبتداء بالكتاب والقرآن وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني لا يتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فإن قيل مثل هذا الكلام وفي معناه ورد في سورة التوبة وهو قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( التوبة 16 ) ولم يقدم عليه حروف التهجي فنقول الجواب عنه في غاية الظهور وهو أن هذا ابتداء كلام ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة فقال أَحَسِبَ وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام بأم والتنبيه يكون في أول الكلام لا في أثنائه وأما الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم 1 2 ) فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى هذا تمام الكلام في الحروف
المسألة الثالثة في إعراب الم وقد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد ههنا على ما ذكرناه أن الحروف لا إعراب لها لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة
المسألة الرابعة في سبب نزول هذه الآيات وفيه أقوال الأول أنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة الثاني أنها نزلت في أقوام بمكة هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون الثالث أنها نزلت في مهجع بن عبد الله قتل يوم بدر
المسألة الخامسة في التفسير قوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية واختلف أئمة النحو في قوله أَن يَقُولُواْ فقال بعضهم أن يتركوا بأن يقولوا وقال بعضهم أن يتركوا يقولون آمنا ومقتضى ظاهر هذا أنهم يمنعون من قولهم آمنا كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أن تمنع من ذلك وهذا بعيد فإن الله لا يمنع أحداً من أن يقول آمنت ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم
المسألة السادسة في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى

في العبادة حصول محبة الله كما ورد في الخبر ( لا يزال العبد يتقرب إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله لكن للقلب ترجمان وهو اللسان وللسان مصدقات هي الأعضاء ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الاتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في سبيل الله نفسه وماله وزكى بترك ما سواه أعماله زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله فيحرر في جرائد المحبين اسمه ويقرر في أقسام المقربين قسمه وإليه الإشارة بقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني أظنوا أن تقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهودهم بلا مزكين بل لا بد من ذلك جميعه ليكونوا من المحبين
فائدة ثانية وهي أن أدنى درجات العبد أن يكون مسلماً فإن ما دونه دركات الكفر فالإسلام أول درجة تحصل للعبد فإذا حصل له هذه المرتبة كتب اسمه وأثبت قسمه لكن المستخدمين عند الملوك على أقسام منهم من يكون ناهضاً في شغله ماضياً في فعله فينقل من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة ومنهم من يكون كسلاناً متخلفاً فينقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها ومنهم من يترك على شغله من غير تغيير ومنهم من يقطع رسمه ويمحى من الجرائد اسمه فكذلك عباد الله قد يكون المسلم عابداً مقبلاً على العبادة مقبولاً للسعادة فينقل من مرتبة المؤمنين إلى درجة الموقنين وهي درجة المقربين ومنهم من يكون قليل الطاعة مشتغلاً بالخلاعة فينقل إلى مرتبة دونه وهي مرتبة العصاة ومنزلة القساة وقد يستصغر العيوب ويستكثر الذنوب فيخرج من العبادة محروماً ويلحق بأهل العناد مرجوماً ومنهم من يبقى في أول درجة الجنة وهم البله فقال الله بشارة للمطيع الناهض أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ يعني أظنوا أنهم يتركون في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ( المجادلة 11 ) فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً ( النساء 95 ) وقال بضده للكسلان أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني إذا قال آمنت ويتخلف بالعصيان يترك ويرضى منه لا بل ينقل إلى مقام أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
ذكر الله ما يوجب تسليتهم فقال كذلك فعل الله بمن قبلكم ولم يتركهم بمجرد قولهم مِنَ بل فرض عليهم الطاعات وأوجب عليهم وفي قوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وجوه الأول قول مقاتل فليرين الله الثاني فليظهرن الله الثالث فليميزن الله فالحاصل على هذا هو أن المفسرين ظنوا أن حمل الآية على ظاهرها يوجب تجدد علم الله والله عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان فكيف يمكن أن يقال بعلمه عند الامتحان فنقول الآية محمولة على ظاهرها وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع فقبل التكليف كان الله يعلم أن زيداً مثلا سيطيع وعمراً سيعصي ثم وقت التكليف والاتيان يعلم أنه مطيع والآخر عاص وبعد الاتيان يعلم أنه أطاع والآخر عصى ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال وإنما

المتغير المعلوم ونبين هذا بمثال من الحسيات ولله المثل الأعلى وهو أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت من موضع وقوبل بوجهها جهة ولم تحرك ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض ظهر فيها زيد في ثوب أبيض وإذا عبر عليها عمرو في لباس أصفر يظهر فيها كذلك فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو يذهب فهمه إلى أنها في صقالتها اختلفت أو يخطر بباله أنها عن سكانها انتقلت لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير الخارجات فافهم علم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال فإن المرآة ممكنة التغير وعلم الله غير ممكن عليه ذلك فقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ يعني يقع ممن يعلم الله أن يطيع الطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ يعني من قال أنا مؤمن وكان صادقاً عند فرض العبادات يظهر منه ذلك ويعلم ومن قال ذلك وكان منافقاً كذلك يبين وفي قوله الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل وقوله الْكَاذِبِينَ باسم الفاعل فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر وفلان نفذ أمره وفلان نافذ الأمر فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ ومن اسم الفاعل يفهم ذلك إذا ثبت هذا فنقول وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أوائل ايجاب التكاليف وعن قوم مستديمين للكفر مستمرين عليه فقال في حق المؤمنين الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الكافر الْكَاذِبِينَ بالصيغة المنبئة عن الثبات والدوام ولهذا قال يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) بلفظ اسم الفاعل وذلك لأن في اليوم المذكور الصدق قد يرسخ في قلب المؤمن وهو اليوم الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
لما بين حسن التكليف بقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الإستقبال ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل وهذا إبطال مذهب من يقول التكاليف إرشادات والإيعاد عليه ترغيب وترهيب ولا يوجد من الله تعذيب ولو كان يعذب ما كان عاجزاً عن العذاب عاجلاً فلم كان يؤخر العقاب فقال تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد والله لا يخلف الميعاد وأما الإمهال فلا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الإستعجال
ثم قال تعالى سَاء مَا يَحْكُمُونَ يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع والعقل لا يحكم على الله بذلك فإن الله له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة

ثم قال مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
لما بين بقوله أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى وبين في قوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أن من ترك ما كلف به يعذب كذا بين أن يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنا ذكرنا في مواضع أن الأصول الثلاثة وهي الأول وهو الله تعالى ووحدانيته والأصل الآخر وهو اليوم الآخر والأصل المتوسط وهو النبي المرسل من الأول الموصل إلا الآخر لا يكاد ينفصل في الذكر الإلهي بعضها عن بعض فقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا ( العنكبوت 2 ) فيه إشارة إلى الأصل الأول يعني أظنوا أنه يكفي الأصل الأول وقوله وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( العنكبوت 2 3 ) يعني بإرسال الرسل وإيضاح السبل فيه إشارة إلى الأصل الثاني وقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ مع قوله مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فيه إشارة إلى الأصل الثالث وهو الآخر
المسألة الثانية ذكر بعض المفسرين في تفسير لقاء الله أنه الرؤية وهو ضعيف فإن اللقاء والملاقاة بمعنى وهو في اللغة بمعنى الوصول حتى أن جمادين إذا تواصلا فقد لاقى أحدهما الآخر
المسألة الثالثة قال بعض المفسرين المراد من الرجاء الخوف والمعنى من قوله مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ من كان يخاف الله وهو أيضاً ضعيف فإن المشهور في الرجاء هو توقع الخير لا غير ولأنا أجمعنا على أن الرجاء ورد بهذا المعنى يقال أرجو فضل الله ولا يفهم منه أخاف فضل الله وإذا كان وارداً لهذا لا يكون لغيره دفعاً للاشتراك
المسألة الرابعة يمكن أن يكون المراد بأجل الله الموت ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بالحشر فإن كان هو الموت فهذا ينبىء عن بقاء النفوس بعد الموت كما ورد في الأخبار وذلك لأن القائل إذا قال من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل يفهم منه أن متصلاً بوصول السلطان يكون هو الخير حتى أنه لو وصل هو وتأخر الخير يصح أن يقال للقائل أما قلت ما قلت ووصل السلطان ولم يظهر الخير فلو لم يحصل اللقاء عند الموت لما حسن ذلك كما ذكرنا في المثال وإذا تبين هذا فلولا البقاء لما حصل اللقاء
المسألة الخامسة قوله مَن كَانَ يَرْجُو شرط وجزاؤه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له وهذا باطل فما الجواب عنه نقول المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما بعده من الثواب يعني من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت بثواب الله يثاب على طاعته عنده ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتياً على وجه يثاب هو
المسألة السادسة قال وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولم يذكر صفة غيرهما كالعزيز الحكيم وغيرهما وذلك لأنه سبق القول في قوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ وسبق الفعل بقوله وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وبقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وبقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما لا يدرك بالبصر ومنه ما يدرك به كالقصود والعلم يشملهما وهو السميع يسمع ما قالوه وهو العليم يعلم من صدق فيما قال ممن كذب وأيضاً عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وههنا لطيفة

وهي أن العبد له ثلاثة أمور هي أصناف حسناته أحدها عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم وعمل لسانه وهو يسمع وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد كما وصف في الخبر في وصف الجنة
وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
لما بين أن التكليف حسن واقع وأن عليه وعداً وإيعاداً ليس لهما دافع بين أن طلب الله ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه فإنه غني مطلقاً ليس شيء غيره يتوقف كما له عليه ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ( فصلت 46 ) وقوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ ( الإسراء 7 وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الآية السابقة مع هذه الآية يوجبان إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له وذلك لأن من يفعل فعلاً لأجل ملك ويعلم أن الملك يراه ويبصره يحسن العمل ويتقنه وإذا علم أن نفعه له ومقدر بقدر عمله يكثر منه فإذا قال الله إنه سميع عليم فالعبد يتقن عمله ويخلصه له وإذا قال بأن جهاده لنفسه يكثر منه
المسألة الثانية لقائل أن يقول هذا يدل على أن الجزاء على العمل لأن الله تعالى لما قال مِنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ فهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح فنقول هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق وبيانه هو أن الله تعالى لما بين أن المكلف إذا جاهد يثيبه فإذا أتى به هو يكون جهاداً نافعاً له ولا نزاع فيه وإنما النزاع في أن الله يجب عليه أن يثيب على العمل لولا الوعد ولا يجوز أن يحسن إلى أحد إلا بالعمل ولا دلالة للآية عليه
المسألة الثالثة قوله فَإِنَّمَا يقتضي الحصر فينبغي أن يكون جهاد المرء لنفسه فحسب ولا ينتفع به غيره وليس كذلك فإن من جاهد ينتفع به ومن يريد هو نفعه حتى أن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعان فنقول ذلك نفع له فإن انتفاع الولد انتفاع للأب والحصر ههنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع ويدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وفيه مسائل
الأولى تدل الآية على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله لأنه بالأصلح لا يستفيد فائدة وإلا لكان مستكملاً بتلك الفائدة وهي غيره وهي من العالم فيكون مستكملاً بغيره فيكون محتاجاً إليه وهو غني عن العالمين وأيضاً أفعاله غير معللة لما بينا
المسألة الثانية تدل الآية على أنه ليس في مكان وليس على العرش على الخصوص فإنه من العالم والله غني عنه والمستغني عن المكان لا يمكن دخوله في مكان لأن الداخل في المكان يشار إليه بأنه ههنا أو هناك على سبيل الاستقلال وما يشار إليه بأنه ههنا أو هناك يستحيل أن لا يوجد لا ههنا ولا هناك وإلا لجوز

العقل إدراك جسم لا في مكان وإنه محال
المسألة الثالثة لو قال قائل ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم وإلا لكان هو في قادريته محتاجاً إلى قدرة هي غيره وكل ما هو غيره فهو من العالم فيكون محتاجاً وهو غني نقول لم قلتم إن قدرته من العالم وهذا لأن العالم كل موجود سوى الله بصفاته أي كل موجود هو خارج عن مفهوم الإله الحي القادر المريد العالم السميع البصير المتكلم والقدرة ليست خارجة عن مفهوم القادر والعلم ليس خارجاً عن مفهوم العالم
المسألة الرابعة الآية فيها بشارة وفيها إنذار أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنياً عن العالمين فلو أهلك عباده بعذابه فلا شيء عليه لغناه عنهم وهذا يوجب الخوف العظيم وأما البشارة فلأنه إذا كان غنياً فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده لا شيء عليه لاستغنائه عنه وهذا يوجب الرجاء التام
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ
لما بين إجمالاً أن من يعمل صالحاً فلنفسه بين مفصلاً بعض التفصيل أن جزاء المطيع الصالح عمله فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنها تدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يوجب التغاير
المسألة الثانية أنها تدل على أن الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان لأن تكفير السيئات والجزاء بالأحسن معلق عليها وهي ثمرة الإيمان ومثال هذا شجرة مثمرة لا شك في أن عروقها وأغصانها منها والماء الذي يجري عليها والتراب الذي حواليها غير داخل فيها لكن الثمرة لا تحصل إلا بذلك الماء والتراب الخارج فكذلك العمل الصالح مع الإيمان وأيضاً الشجرة لو احتفت بها الحشائش المفسدة والأشواك المضرة ينقص ثمرة الشجرة وإن غلبتها عدمت الثمرة بالكلية وفسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان
المسألة الثالثة الإيمان هو التصديق كما قال وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( يوسف 17 ) أي بمصدق واختص في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال الله وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل إن علم مفصلاً أنه قول الله أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم والعمل الصالح عندنا كل ما أمر الله به صار صالحاً بأمره ولو نهى عنه لما كان صالحاً فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه وقالت المعتزلة ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي فالصدق عمل صالح في نفسه ويأمر الله به لذلك فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي وعندهم الأمر والنهي يترتب على الحسن والقبح والمسألة بطولها في ( كتب ) الأصول

المسألة الرابعة العمل الصالح باق لأن الصالح في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف يقال فسدت الزروع إذا هلكت أو خرجت عن درجة الانتفاع ويقال هي بعد صالحة أي باقية على ما ينبغي إذا علم هذا فنقول العمل الصالح لا يبقى بنفسه لأنه عرض ولا يبقى بالعامل أيضاً لأنه هالك كما قال تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ فبقاؤه لا بد من أن يكون بشيء باق لكن الباقي هو وجه الله لقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فينبغي أن يكون العمل لوجه الله حتى يبقى فيكون صالحاً وما لا يكون لوجهه لا يبقى لا بنفسه ولا بالعامل ولا بالمعمول له فلا يكون صالحاً فالعمل الصالح هو الذي أتى به المكلف مخلصاً لله
المسألة الخامسة هذا يقتضي أن تكون النية شرطاً في الصالحات من الأعمال وهي قصد الإيقاع لله ويندرج فيها النية في الصوم خلافاً لزفر وفي الوضوء خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله
المسألة السادسة العمل الصالح مرفوع لقوله تعالى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) لكنه لا يرتفع إلا بالكلم الطيب فإنه يصعد بنفسه كما قال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وهو يرفع العمل فالعمل من غير المؤمن لا يقبل ولهذا قدم الإيمان على العمل وههنا لطيفة وهي أن أعمال المكلف ثلاثة عمل قلبه وهو فكره واعتقاده وتصديقه وعمل لسانه وهو ذكره وشهادته وعمل جوارحه وهو طاعته وعبادته فالعبادة البدنية لا ترتفع بنفسها وإنما ترتفع بغيرها والقول الصادق يرتفع بنفسه كما بين في الآية وعمل القلب وهو الفكر ينزل إليه كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويقول هل من تائب ) والتائب النادم بقلبه وكذلك قوله عليه السلام ( يقول الله عز وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم ) يعني بالفكرة في عجزه وقدرتي وحقارته وعظمتي ومن حيث العقل من تفكر في آلاء الله وجد الله وحضر ذهنه فعلم أن لعمل القلب يأتي الله وعمل اللسان يذهب إلى الله وعمل الأعضاء يوصل إلى الله وهذا تنبيه على فضل عمل القلب
المسألة السابعة ذكر الله من أعمال العبد نوعين الإيمان والعمل الصالح وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين تكفير السيئات والجزاء بالأحسن حيث قال لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح وهذا يقتضى أموراً الأول المؤمن لا يخلد في النار لأن بإيمانه تكفر سيئاته فلا يخلد في العذاب الثاني الجزاء الأحسن المذكور ههنا غير الجنة وذلك لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة إذ تكفر سيئاته ومن كفرت سيئاته أدخل الجنة فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا يبعد أن يكون هو الرؤية
الأمر الثالث هو أن الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا فيستر الله عيوبه في الأخرى والعمل الصالح يحسن حال الصالح في الدنيا فيجزيه الله الجزاء الأحسن في العقبى فالإيمان إذن لا يبطله العصيان بل هو يغلب المعاصي ويسترها ويحمل صاحبها على الندم والله أعلم
المسألة الثامنة قوله لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ يستدعي وجود السيئات حتى تكفر وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بأسرها من أين يكون لهم سيئة فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن وعد

الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء مثاله إذا قال الملك لأهل بلد إذا أطعتموني أكرم آباءكم واحترم أبناءكم وأنعم عليكم وأحسن إليكم لا يقتضي هذا أنه يكرم آباء من توفى أبوه أو يحترم ابن من لم يولد له ولد بل مفهومه أنه يكرم أب من له أب ويحترم ابن من له ابن فكذلك يكفر سيئة من له سيئة الجواب الثاني ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم ولهذا قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 )
المسألة التاسعة قوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ يحتمل وجهين أحدهما لنجزينهم بأحسن أعمالهم وثانيهما لنجزينهم أحسن من أعمالهم وعلى الوجه الأول معناه نقدر أعمالهم أحسن ما تكون ونجزيهم عليها لا أنه يختار منها أحسنها ويجزى عليه ويترك الباقي وعلى الوجه الثاني معناه قريب من معنى قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) وقوله فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا ( النمل 89 )
المسألة العاشرة ذكر حال المسيء مجملاً بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا إشارة إلى التعذيب مجملاً وذكر حال المحسن مجملاً بقوله وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ومفصلاً بهذه الآية ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه وفضله أعم من عدله
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
الأولى ما وجه تعلق الآية بما قبلها نقول لما بين الله حسن التكاليف ووقوعها وبين ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها تحريضاً للمكلف على الطاعة ذكر المانع ومنعه من أن يختار اتباعه فقال الإنسان إن انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه ومع هذا لو أمراه بالمعصية لا يجوز اتباعهما فضلاً عن غيرهما فلا يمنعن أحدكم شيء من طاعة الله ولا يتبعن أحد من يأمر بمعصية الله
المسألة الثانية في القراءة قرىء حسناً وإحساناً وحسناً أظهر ههنا ومن قرأ إحساناً فمن قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً البقرة 83 ) والتفسير على القراءة المشهورة هو أن الله تعالى وصى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأبي بالفعل والقول ونكر حسناً ليدل على الكمال كما يقال إن لزيد مالاً
المسألة الثالثة في قوله وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً دليل على أن متابعتهم في الكفر لا يجوز وذلك لأن الإحسان بالوالدين وجب بأمر الله تعالى فلو ترك العبد عبادة الله تعالى بقول الوالدين لترك طاعة الله تعالى فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين فاتباع العبد أبويه لأجل الإحسان إليهم يفضي إلى ترك الإحسان إليهما وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتباع باطل وأما إذا امتنع من الشرك بقي على الطاعة والإحسان إليهما من الطاعة فيأتي به فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة
المسألة الرابعة الإحسان بالوالدين مأمور به لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية

المعتادة فهما سبب مجازاً والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه ثم قال تعالى وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا فقوله مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعني التقليد في الإيمان ليس بجيد فضلاً عن التقليد في الكفر فإذا امتنع الإنسان من التقليد فيه ولا يطيع بغير العلم لا يطيعهما أصلاً لأن العلم بصحة قولهما محال الحصول فإذا لم يشرك تقليداً ويستحيل الشرك مع العلم فالشرك لا يحصل منه قط
ثم قال تعالى إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يعني عاقبتكم ومآلكم إلي وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعة وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضي من تدوم معه صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر
ثم قوله تعالى فَأُنَبِئُكُم فيه لطيفة وهي أن الله تعالى يقول لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي وعدم علمي بمخالفتكم إياي فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ولا أنسى فأنبئكم بجميعه
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في إعادة الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مرة أخرى نقول الله تعالى ذكر من المكلفين قسمين مهتدياً وضالاً بقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 3 ) وذكر حال الضال مجملاً وحال المهتدي مفصلاً بقوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ولما تمم ذلك ذكر قسمين آخرين هادياً ومضلاً فقوله وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( العنكبوت 8 ) يقتضي أن يهتدي بهما وقوله وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بيان إضلالهما وقوله إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بطريق الإجمال تهديد المضل وقوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مرة لبيان حال المهتدي ومرة أخرى لبيان حال الهادي والذي يدل عليه هو أنه قال أولاً لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وقال ثانياً لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء ولهذا قال كثير من الأنبياء وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( يوسف 101 )
المسألة الثانية قد ذكرنا أن الصالح باق والصالحون باقون وبقاؤهم ليس بأنفسهم بل بأعمالهم الباقية فأعمالهم باقية والمعمول له وهو وجه الله باق والعاملون باقون ببقاء أعمالهم وهذا على خلاف الأمور الدنيوية فإن في الدنيا بقاء الفعل بالفاعل وفي الآخرة بقاء الفاعل بالفعل
المسألة الثالثة قيل في معنى قوله لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ لندخلنهم في مقام الصالحين أو في دار الصالحين والأولى أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل يدخلهم في الصالحين أي يجعلهم منهم ويدخلهم في عدادهم كما يقال الفقيه داخل في العلماء

المسألة الرابعة قال الحكماء عالم العناصر عالم الكون والفساد وما فيه يتطرق إليه الفساد فإن الماء يخرج عن كونه ماء ويفسد ويتكون منه هواء وعالم السموات لا كون فيه ولا فساد بل يوجد من عدم ولا يعدم ولا يصير الملك تراباً بخلاف الإنسان فإنه يصير تراباً أو شيئاً آخر وعلى هذا فالعالم العلوي ليس بفاسد فهو صالح فقوله تعالى لندخلهم في الصالحين أي في المجردين الذين لا فساد لهم
أي في المجردين الذين لا فساد لهم
وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
نقول أقسام المكلفين ثلاثة مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده وكافر مجاهر بكفره وعناده ومذبذب بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده والله تعالى لما بين القسمين بقوله تعالى فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 3 ) وبين أحوالهما بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( العنكبوت 4 ) إلى قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العنبكوت 7 ) بين القسم الثالث وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا ولم يقل آمنت مع أنه وحد الأفعال التي بعده كقوله تعالى فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ وقوله جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ وذلك لأن المنافق كان يشبه نفسه بالمؤمن ويقول إيماني كإيمانك فقال مِنَ يعني أنا والمؤمن حقاً آمنا إشعاراً بأن إيمانه كإيمانه وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلاناً واستقبلناه ينكر لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول مِنَ أي أنا والمحق
المسألة الثانية قوله فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ هو في معنى قوله وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى ( آل عمران 195 ) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى ( آل عمران 195 ) وقال ههنا أُوذِى َ فِى اللَّهِ ولم يقل في سبيل الله واللطيفة فيه أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان فلا يترك الله ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية والمؤمن أوذي ولم يترك

سبيل الله بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة
المسألة الثالثة قوله جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ قال الزمخشري جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف عن الكفر وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديداً ولا يكون مديداً لأن العذاب إن كان شديداً كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب وإن كان مديداً كالحبس والحصر لا يكون شديداً وعذاب الله شديد وزمانه مديد وأيضاً عذاب الناس له دافع وعذاب الله ماله من دافع وأيضاً عذاب الناس عليه ثواب عظيم وعذاب الله بعده عذاب أليم والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذاباً كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذاباً
المسألة الرابعة قال فِتْنَة َ النَّاسِ ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من الله وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحاناً من الإنسان كالصبر على العبادات
المسألة الخامسة لو قال قائل هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه احترازاً عن التعذيب العاجل يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله فنقول ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً وهذا المؤمن المكره لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله بحيث يترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً بل في باطنه الإيمان ثم قال تعالى وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ( العنكبوت 10 ) يعني دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر وأظهر المعية وادعى التبعية وفيه فوائد نذكرها في مسائل
المسألة الأولى قال وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ ولم يقل من الله مع أن ما تقدم كان كله بذكر الله كقوله أُوذِى َ فِى اللَّهِ وقوله كَعَذَابِ اللَّهِ وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة والله اسم مدلوله الهيبة والعظمة فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة
المسألة الثانية لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر لكن النصر لا يجىء إلا للمؤمن كما قال تعالى وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( الروم 47 ) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر في

الحال فالعاقبة للمتقين فالنصر لهم في الحقيقة
المسألة الثالثة في ليقولن قراءتان إحداهما الفتح حملاً على قوله مَن يِقُولُ ءامَنَّا يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول وإذا جاء النصر يقول إنا كنا معكم وثانيتهما الضم على الجمع إسناداً للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم فإن المنافقين كانوا جماعة ثم بين الله تعالى أنهم أرادوا التلبيس ولا يصح ذلك لهم لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه فيلتبس الأمر عليه وأما الله تعالى فهو عليم بذات الصدور وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان فلا يلتبس عليه الأمر وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن والله أعلم بما في صدور العالمين ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم والمنافق وإن تكلم فقال وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وقد سبق تفسيره لكن فيه مسألة واحدة وهي أن الله قال هناك فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وقال ههنا وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ فنقول لما كان الذكر هناك للمؤمن والكافر والكافر في قوله كاذب فإنه يقول الله أكثر من واحد والمؤمن في قوله صادق فإنه كان يقول الله واحد ولم يكن هناك ذكر من يضمر خلاف ما يظهر فكان الحاصل هناك قسمين صادقاً وكاذباً وكان ههنا المنافق صادقاً في قوله فإنه كان يقول الله واحد فاعتبر أمر القلب في المنافق فقال وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ واعتبر أمر القلب في المؤمن وهو التصديق فقال وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَى ْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
لما بين الله تعالى الفرق الثلاثة وأحوالهم وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة وبين أن عذاب الله فوقها وكان الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا فكان جواب المؤمن أن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم فقالوا لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ولنحمل صيغة أمر والمأمور غير الآمر فكيف يصح أمر النفس من الشخص فنقول الصيغة أمر والمعنى شرط وجزاء أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم قال صاحب ( الكشاف ) هو في معنى قول من يريد اجتماع أمرين في الوجود فيقول ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء فقوله ولنحمل أي ليكن منا الحمل وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب
المسألة الثانية قال وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ وقال بعد هذا وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ

( العنكبوت 13 ) فهناك نفى الحمل وههنا أثبت الحمل فكيف الجمع بينهما فنقول قول القائل فلان حمل عن فلان يفيد أن حمل فلان خف وإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً فكذلك ههنا ما هم بحاملين من خطاياهم يعني لا يرفعون عنهم خطيئة وهم يحملون أوزاراً بسبب إضلالهم ويحملون أوزاراً بسبب ضلالتهم كما قال النبي عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء )
المسألة الثالثة الصيغة أمر والأمر لا يدخله التصديق والتكذيب فكيف يفهم قوله إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ نقول قد تبين أن معناه شرط وجزاء فكأنهم قالوا إن تتبعونا نحمل خطاياكم وهم كذبوا في هذا فإنهم لا يحملون شيئاً
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
في الذي كانوا يفترونه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها كان قولهم وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ( العنكبوت 12 ) صادراً لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك فيسألون عن ذلك الافتراء وثانيها أن قولهم وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ كان عن اعتقاد أن لا حشر فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون ويقال لهم أما قلتم أن لا حشر وثالثها أنهم لما قالوا إن تتبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون ويقال لهم لم افتريتم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة ٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين التكليف وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق يالثواب العظيم وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم وكان قد ذكر أن هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم ذلك بل قبله كان كذلك كما قال تعالى وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( العنكبوت 3 ) ذكر من جملة من كلف جماعة منهم نوح النبي عليه السلام وقومه ومنهم إبراهيم عليه السلام وغيرهما ثم قال تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة ٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في ذكر مدة لبثه نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحاً لبث ألف سنة تقريباً في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل وصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك وأيضاً كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم

المسألة الثانية قال بعض العلماء الاستثناء في العدد تكلم بالباقي فإذا قال القائل لفلان علي عشرة إلا ثلاثة فكأنه قال علي سبعة إذا علم هذا فقوله أَلْفَ سَنَة ٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً كقوله تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها فنقول قال الزمخشري فيه فائدتان إحداهما أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب فإن من قال عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة تقريباً لا تحقيقاً فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ويفهم منه التحقيق الثانية هي أن ذكر لبث نوح عليه السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه السلام أولى بالصبر مع قصر مدة دعائه وإذا كان كذلك فذكر العدد الذي في أعلى مراتب الأعداد التي لها اسم مفرد موضوع فإن مراتب الأعداء هي الآحاد إلى العشرة والعشرات إلى المائة والمئات إلى الألف ثم بعد ذلك يكون التكثير بالتكرير فيقال عشرة آلاف ومائة ألف وألف ألف
المسألة الثالثة قال بعض الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة والآية تدل على خلاف قولهم والعقل يوافقها فإن البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته وإلا لما بقي ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن لأن المؤثر فيه إن كان واجب الوجود فظاهر الدوام وإن كان غيره فله مؤثر وينتهي إلى الواجب وهو دائم فتأثيره يجوز أن يكون دائماً فأذن البقاء ممكن في ذاته فإن لم يكن فلعارض لكن العارض ممكن العدم وإلا لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع فظهر أن كلامهم على خلاف العقل والنقل ( ثم نقول ) لا نزاع بيننا وبينهم لأنهم يقولون العمر الطبيعي لا يكون أكثر من مائة وعشرين سنة ونحن نقول هذا العمر ليس طبيعياً بل هو عطاء إلهي وأما العمر الطبيعي فلا يدوم عندنا ولا لحظة فضلاً عن مائة أو أكثر
قوله تعالى فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
فيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم وإلا لعذب من ظلم وتاب فإن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم فقوله وَهُمْ ظَالِمُونَ يعني أهلكهم وهم على ظلمهم ولو كانوا تركوه لما أهلكهم
فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ وَجَعَلْنَاهَآ ءَايَة ً لِّلْعَالَمِينَ
في الراجع إليه الهاء في قوله جَعَلْنَاهَا وجهان أحدهما أنها راجعة إلى السفينة المذكورة وعلى هذا ففي كونها آية وجوه أحدها أنه اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحاً وإنباؤه إياه به لما اشتغل بها فلا تحصل لهم النجاة وثانيها أن نوحاً أمر بأخذ قوم معه ورفع قدر من القوت والبحر العظيم لا يتوقع أحد نضوبه ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة وثالثها أن الله تعالى كتب سلامة السفينة عن الرياح المرجفة والحيوانات المؤذية ولولا ذلك لما حصلت النجاة والثاني أنها راجعة إلى الواقعة أو إلى النجاة أي جعلنا الواقعة أو النجاة آية للعالمين
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

لما فرغ من الإشارة إلى حكاية نوح ذكر حكاية إبراهيم وفي إبراهيم وجهان من القراءة أحدهما النصب وهو المشهور و الثاني الرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم و الأول فيه وجهان أحدهما أنه منصوب بفعل غير مذكور وهو معنى اذكر إبراهيم والثاني أنه منصوب بمذكور وهو قوله وَلَقَدْ أَرْسَلنَا ( العنكبوت 14 ) فيكون كأنه قال وأرسلنا إبراهيم وعلى هذا ففي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ظرف أرسلنا أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه لكن قوله لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ دعوة والإرسال يكون قبل الدعوة فكيف يفهم قوله وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلاً قبله نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الإرسال أمر يمتد فهو حال قوله لقومه اعبدوا الله كان مرسلاً وهذا كما يقول القائل وقفنا للأمير إذ خرج من الدار وقد يكون الوقوف قبل الخروج لكن لما كان الوقوف ممتداً إلى ذلك الوقت صح ذلك الوجه الثاني هو أن إبراهيم بمجرد هداية الله إياه كان يعلم فساد قول المشركين وكان يهديهم إلى الرشاد قبل الإرسال ولما كان هو مشتغلاً بالدعاء إلى الإسلام أرسله الله تعالى وقوله اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره فقوله اعْبُدُواْ اللَّهَ إشارة إلى الاثبات وقوله وَاتَّقُوهُ إشارة إلى نفي الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في مكله يكون قد أتى بأعظم الجرائم ويمكن أن يقال اعْبُدُواْ اللَّهَ إشارة إلى الاتيان بالواجبات وقوله وَاتَّقُوهُ إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ويدخل في الأول الاعتراف بالله وفي الثاني الامتناع من الشرك ثم قوله ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يعني عبادة الله وتقواه خير والأمر كذلك لأن خلاف عبادة الله تعالى تعطيم وخلاف تقواه تشريك وكلاهما شر عقلاً واعتباراً أما عقلاً فلأن الممكن لا بد له من مؤثر لا يكون ممكناً قطعاً للتسلسل وهو واجب الوجود فلا تعطيل إذ لنا إله وأما التشريك فبطلانه عقلاً وكون خلافه خيراً وهو أن شريك الواجب إن لم يكن واجباً فكيف يكون شريكاً وإن كان واجباً لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويتباينان في الإلهية وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين فيلزم التعطيل وأما اعتباراً فلأن الشرف لن يكون ملكاً أو قريب ملك لكن الإنسان لا يكون ملكاً للسموات والأرضين فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك لكن القربة بالعبادة كما قال تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( العلق 19 ) وقال ( لن يتقرب المتقربون إلى بمثل أداء ما افترضت عليهم ) وقال ( لا يزال العبد يتقرب بالعبادة إلي ) فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتقاده بملك فلا مرتبة له أصلاً وأما التشريك فلأن من يكون سيده لا نظير له يكون أعلى رتبة ممن يكون سيده له شركاء خسيسة فإذن من يقول إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول سيدي صنم منحوت عاجز مثله فثبت أن عبادة الله وتقواه خير وهو خير لكم أي خير للناس إن كانوا يعلمون ما ذكرناه من الدلائل والاعتبارات
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

ذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور إما لكونه مستحقاً للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمه من الجوع أو منعه من الهجوع وإما لكونه نافعاً في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة وإما لكونه نافعاً في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعاً منه أمراً في المستقبل وإما لكونه خائفاً منه فقال إبراهيم إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثاناً لا شرف لها
قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل وهذا لأن النفع إما في الوجود وإما في البقاء لكن ليس منهم نفع في الوجود لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق وليس منهم ذلك ثم بين أن ذلك كله حاصل من الله فقال فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ فقوله اللَّهِ إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله الْرّزْقِ إشارة إلى حصول النفع منه عاجلاً وآجلاً وفي الآية مسائل

المسألة الأولى قال لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً نكرة وقال فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ معرفاً فما الفائدة فنقول قال الزمخشري قال لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً نكرة في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلاً وقال معرفة عند الإثبات عند الله أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) والرزق من الأوثان غير معلوم فقال لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً لعدم حصول العلم به وقال فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ الموعود به ثم قال فَاعْبُدُوهُ أي اعبدوه لكونه مستحقاً للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي اعبدوه لكونه مرجعاً منه يتوقع الخير لا غير
وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال وَإِن تُكَذّبُواْ وفي المخاطب في هذه الآية وجهان أحدهما أنه قوم إبراهيم والآية حكاية عن قوم إبراهيم كأن إبراهيم قال لقومه ءانٍ تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ وأنا أتيت بما علي من التبليغ فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان والثاني أنه خطاب مع قوم محمد عليه السلام ووجهه أن الحكايات أكثرها إنما تكون لمقاصد لكنها تنسى لطيب الحكاية ولهذا كثيراً ما يقول الحاكي لأي شيء حكيت هذه الحكاية فالنبي عليه السلام كان مقصوده تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفاً من التعذيب فقال في أثناء حكايتهم يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام وأهلكوا فإن كذبتم أخاف عليكم ما جاء على غيركم وعلى الوجه الأول في الآية مسائل
المسألة الأولى أن قوله فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ كيف يفهم مع أن إبراهيم لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمة واحدة والجواب عنه من وجهين أحدهما أن قبل نوح كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم والثاني أن نوحاً عاش ألفاً وأكثر وكان القرن يموت ويجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الاتباع فكفى بقوم نوح أمماً
المسألة الثانية ما الْبَلَاغُ وما الْمُبِينُ فنقول البلاغ هو ذكر المسائل والإبانة هي إقامة البرهان عليه
المسألة الثالثة الآية تدل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فإنه لم يأت بالبلاغ المبين فلا يكون آتياً بما عليه
أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِى ءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
لما بين الأصل الأول وهو التوحيد وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر وقد ذكرنا مراراً أن الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها عن بعض في الذكر الإلهي فأينما يذكر الله تعالى منها اثنين يذكر الثالث وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الإنسان متى رأى بدء الخلق حتى يقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ فنقول المراد العلم الواضح الذي كالرؤية والعاقل بعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول فهو من الله هذا إن قلنا إن المراد إثبات نفس الخلق وإن قلنا إن المراد بالبدء خلق الآدمي أولاً وبالإعادة خلق ثانياً فنقول العاقل لا يخفى عليه أن خالق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام ويخلقه من نطفة في غاية الإتقان والإحكام فذلك الذي خلق أولاً معلوم ظاهر فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية وقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أي ألم يعلموا علماً ظاهراً واضحاً كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ يخلقه من تراب يجمعه فكذبك يجمع أجزاءه من التراب ينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسبة إليكم فإن من نحت حجارات ووضع شيئاً بجنب شيء ففرقه أمر ما فإنه يقول وضعه شيئاً بجنب شيء في هذه النوبة أسهل علي لأن الحجارات منحوتة ومعلوم أن آية واحدة منها تصلح لأن تكون بجنب الأخرى وعلى هذا المخرج خرج كلام الله في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ ( الروم 27 ) وإليه الإشارة بقوله إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
المسألة الثانية قال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق وما قال أو لم يروا أن الله خلق أو بدأ الخلق والكيفية غير معلومة فنقول هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يكن شيئاً مذكوراً وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة فإن الإعادة مثله

المسألة الثالثة لم قال ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فأبرز اسمه مرة أخرى ولم يقل إن ذلك عليه يسير كما قال ثم يعيده من غير إبراز نقول مع إقامة البرهان على أنه يسير فأكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكون ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ الله وفهم معناه أنه الحي القادر بقدرة كاملة لا يعجزه شيء العالم بعلم محيط بذرات كل جسم نافذ الإرادة لا رادَّ لما أراده يقطع بجواز الإعادة
قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِى ءُ النَّشْأَة َ الاٌّ خِرَة َ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
الآية المتقدمة كانت إشارة إلى العلم الحدسي وهو الحاصل من غير طلب فقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ على سبيل الاستفهام بمعنى استبعاد عدمه وقال في هذه الآية إن لم يحصل لكم هذا العلم فتفكروا في أقطار الأرض لتعلموا بالعلم الفكري وهذا لأن الإنسان له مراتب في الإدراك بعضهم يدرك شيئاً من غير تعليم وإقامة برهان له وبعضهم لا يفهم إلا بإبانة وبعضهم لا يفهمه أصلاً فقال إن كنتم لستم من القبيل الأول فسيروا في الأرض أي سيروا فكركم في الأرض وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم لتعلموا بدء الخلق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال في الآية الأولى بلفظ الرؤية وفي هذه بلفظ النظر ما الحكمة فيه نقول العلم الحدسي أتم من العلم الفكري كما تبين والرؤية أتم من النظر لأن النظر يفضي إلى الرؤية يقال نظرت فرأيت والمفضي إلى الشيء دون ذلك الشيء فقال في الأول أما حصلت لكم الرؤية فانظروا في الأرض لتحصل لكم الرؤية
المسألة الثانية ذكر هذه الآية بصيغة الأمر وفي الآية الأولى بصيغة الاستفهام لأن العلم الحدسي إن حصل فالأمر به تحصيل الحاصل وإن لم يحصل فلا يحصل إلا بالطلب لأن بالطلب يصير الحاصل فكرياً فيكون الأمر به تكليف ما لا يطاق وأما العلم الفكري فهو مقدور فورد الأمر به
المسألة الثالثة أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ وأضمره عند الإعادة وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال ثُمَّ اللَّهُ لأن في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البدء فقال يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ ثم قال ثُمَّ يُعِيدُهُ كما يقول القائل ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً ولا يحتاج إلى إظهار اسم زيد اكتفاء بالأول وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسنداً إلى الله فاكتفى به ولم يبرزه كقوله القائل أما علمت كيف خرج زيد اسمع مني كيف خرج ولا يظهر اسم زيد وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً حيث قال ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء مع أنه كان يكفي أن يقول ثم ينشيء النشأة الآخرة فلحكمة بالغة وهي ما ذكرنا أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسماً من يفهم المسمى به بصفات كماله ونعوت جلاله يقطع بجواز الإعادة فقال الله مظهراً مبرزاً ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال

قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته ويعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته فإن قيل فلم لم يقل ثم الله يعيده لعين ما ذكرت من الحكمة والفائدة نقول لوجهين أحدهما أن الله كان مظهراً مبزراً بقرب منه وهو في قوله كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما ههنا فلم يكن مذكوراً عند البدء فأظهره وثانيهما أن الدليل ههنا تم على جواز الإعادة لأن الدلائل منحصرة في الآفاق وفي الأنفس كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) وفي الآية الأولى أشار إلى الدليل النفسي الحاصل لهذا الإنسان من نفسه وفي الآية الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق بقوله قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ وعندهما تم الدليلان فأكده بإظهار اسمه وما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل ثم الله يعيده
المسألة الرابعة في الآية الأولى ذكر بلفظ المستقبل فقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء وههنا قال بلفظ الماضي فقال فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ولم يقل كيف يبدأ فنقول الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم الحدسي وهو في كل حال يوجب العلم ببدء الخلق فقال إن كان ليس لكم علم بأن الله في كل حال يبدأ خلقاً فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقاً ويحصل المطلوب من هذا القدر فإنه ينشيء كما بدأ ذلك
المسألة الخامسة قال في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ وقال في الآية الأولى إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وفيه فائدتان إحداهما أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجبه العلم الحدسي التام ولكن عند انضمام دليل الآفاق إليه يحصل العلم العام لأنه بالنظر في نفسه علم نفسه وحاجته إلى الله ووجوده منه وبالنظر إلى الآفاق علم حاجة غيره إليه ووجوده منه فتم علمه بأن كل شيء من الله فقال عند تمام ذكر الدليلين إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ وقال عند الدليل الواحد إِنَّ ذالِكَ وهو إعادته عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ الثانية هي أنا بينا أن العلم الأول أتم وإن كان الثاني أعم وكون الأمر يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل أن القائل يقول في حق من يحمل مائة من أنه قادر عليه ولا يقول إنه سهل عليه فإذا سئل عن حمله عشرة أمنان يقول إن ذلك عليه يسير فنقول قال الله تعالى إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ونفس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
لما ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه وهو تعذيب أهل التكذيب عدلاً وحكمة وإثابة أهل الإنابة فضلاً ورحمة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام

حاكياً عنه ( سبقت رحمتي غضبي ) فنقول ذلك لوجهين أحدهما أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة وكما ذكر بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد التهديد بقوله وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ ( العنبكوت 18 ) وأهلكوا بالتكذيب كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب وذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده وهذا يحقق قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) وذلك لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه
المسألة الثانية إذا كان ذكر هذا لتخويف العاصي وتفريح المؤمن فلو قال يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود وقوله يُعَذّبُ مَن يَشَاء لا يزجر الكافر لجواز أن يقول لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابه فنقول هذا أبلغ في التخويف وذلك لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه شاء تعذيب أهل العناد فلزم منه الخوف التام بخلاف ما لو قال يعذب العاصي فإنه لا يدل على كمال مشيئته لأنه لا يفيد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه فإذا لم يفد هذا فيقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن يحصل في صورة أخرى ولنضرب له مثلاً فنقول إذا قيل إن الملك يقدر على ضرب كل من في بلاده وقال من خالفني أضربه يحصل الخوف التام لمن يخالفه وإذا قيل إنه قادر على ضرب المخالفين ولا يقدر على ضرب المطيعين فإذا قال من خالفني أضربه يقع في وهم المخالف أنه لا يقدر على ضرب فلان المطيع فلا يقدر علي أيضاً لكوني مثله وفي هذا فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصياً
المسألة الثالثة قال ثُمَّ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ مع أن هذه المسألة قد سبق إثباتها وتقريرها فلم أعادها فنقول لما ذكر الله التعذيب والرحمة وهما قد يكونان عاجلين فقال تعالى فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم ولهذا قال بعدها وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ يعني لا تفوتون الله بل الانقلاب إليه ولا يمكن الإنفلات منه وفي تفسير هذه الآية لطائف إحداها هي إعجاز المعذب عن التعذيب إما بالهرب منه أو الثبات له والمقاومة معه للدفع وذكر الله القسمين فقال وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء يعني بالهرب لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله فلا مطمع في الإعجاز بالهرب وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ولا يمكن للمعذب مخالفته فيفوته المعذب ويعجز عنه أو بالانتصار بقوم يقوم معه بالدفع وكلاهما محال فإنكم مالكم من دون الله ولي يشفع ولا نصير يدفع فلا إعجاز لا بالهروب ولا بالثبات الثانية قال وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ولم يقل لا تعجزون بصيغة الفعل وذلك لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية فإن من قال إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه قوله إنه ليس بخياط الثالثة قدم الأرض على السماء والولي على النصير لأن هربهم الممكن في الأرض فإن كان يقع منهم هرب يكون في الأرض ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيكون لهم صعود في السماء وأما الدفع فإن العاقل ما أمكنه الدفع بأجمل الطرق فلا يرتقي إلى غيره والشفاعة أجمل ولأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ولا يكون كل أحد له ناصر يعادي الملك لأجله

وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَائِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
لما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان وهدد من خالفه على سبيل التفصيل فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ إشارة إلى الكفار بالله فإن لله في كل شيء آية دالة على وحدانيته فإذا أشرك كفر بآيات الله وإشارة إلى المنكر للحشر فإن من أنكره كفر بلقاء الله فقال أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى لما أركوا أخرجوا أنفسهم عن محل الرحمة لأن من يكون له جهة واحدة تدفع حاجته لا غير يرحم وإذا كان له جهات متعددة لا يبقى محلاً للرحمة فإذا جعلوا لهم آلهة لم يعترفوا بالحاجة إلى طريق متعين فييأسوا من رحمة الله ولما أنكروا الحشر وقالوا لا عذاب فناسب تعذيبهم تحقيقاً للأمر عليهم وهذا كما أن الملك إذا قال أعذب من يخالفني فأنكره بعيد عنه وقال هو لا يصل إلي فإذا أحضر بين يديه يحسن منه أن يعذبه ويقول هل قدرت وهل عذبت أم لا فإذن تبين أن عدم الرحمة يناسب الإشراك والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر ثم إن في الآية فوائد إحداها قوله أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ حتى يكون منبئاً عن حصر الناس فيهم وقال أيضاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لذلك ولو قال أولئك الذين كفروا بآيات الله ولقائه يئسوا من رحمتي ولهم عذاب أليم ما كان يحصل هذه الفائدة فإن قال قائل لو اكتفي بقوله أُوْلَائِكَ مرة واحدة كان يكفي في إفادة ما ذكر ثم قلنا لا وذلك لأنه لو قال أولئك يئسوا ولهم عذاب كان يذهب وهم أحد إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم فلا يوجد المجموع إلا فيهم ولكن واحداً منهما وحده يمكن أن يوجد في غيرهم فإذا قال أولئك يئسوا وأولئك لهم عذاب أفاد أن كل واحد لا يوجد إلا فيهم الثانية عند ذكر الرحمة أضافها إلى نفسه فقال رحمتي وعند العذاب لم يضفه لسبق رحمته وإعلاماً لعباده بعمومها لهم ولزومها له الثالثة أضاف اليأس إليهم بقوله أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ فحرمها عليهم ولو طمعوا لأباحها لهم فلو قال قائل ما ذكرت من مقابلة الأمرين وهما اليأس والعذاب بأمرين وهما الكفر بالآيات والكفر باللقاء يقتضي أن لا يكون العذاب الأليم لمن كفر بالله واعترف بالحشر أو لا يكون اليأس لمن كفر بالحشر وآمن بالله فنقول معنى الآية أنهم يئسوا ولهم عذاب أليم زائد بسبب كفرهم بالحشر ولا شك أن التعذيب بسبب الكفر بالحشر لا يكون إلا للكافر بالحشر وأما الآخر فالكافر بالحشر لا يكون مؤمناً بالله لأن الإيمان به لا يصح إلا إذا صدقه فيما قاله والحشر من جملة ذلك
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذالِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة وأقام البرهان عليه بقي الأمر من جانبهم إما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى كيف سمى قولهم اقْتُلُوهُ جواباً مع أنه ليس بجواب فنقول ( الجواب عنه ) من وجهين أحدهما أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف مع أن السيف ليس بجواب وإنما معناه لا أقابله بالجواب وإنما أقابله بالسيف فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه الثاني هو أن الله أراد بيان ضلالهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات أما إذا أجاب بجواب فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه
المسألة الثانية القائلون الذين قالوا اقتلوه هم قومه والمأمورون بقولهم اقتلوه أيضاً هم فيكون الآمر نفس المأمور فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن كل واحد منهم قال لمن عداه اقتلوه فحصل الأمر من كل واحد وصار المأمور كل واحد ولا اتحاد لأن كل واحد أمر غيره وثانيهما هو أن الجواب لا يكون إلا من الأكابر والرؤساء فإذا قال أعيان بلد كلاما يقال اتفق أهل البلدة على هذا ولا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال فكان جواب قومه وهم الرؤساء أن قالوا لأتباعهم وأعوانهم اقتلوه لأن الجواب لا يباشره إلا الأكابر والقتل لا يباشره إلا الأتباع
المسألة الثالثة لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ يذكر بين أمرين الثاني منهما ينفك عن الأول كما يقال زوج أو فرد ويقال هذا إنسان أو حيوان يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان ولا يصح أن يقال هذا حيوان أو إنسان إذ يفهم منه أنه يقول هو حيوان فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان وهو محال لكن التحريق مشتمل على القتل فقوله اقتلوه أو حرقوه كقول القائل حيوان أو إنسان الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع ويكون أَوْ مستعملا في موضع بل كما يقول القائل أعطيته ديناراً أو دينارين وكما يقول القائل أعطه ديناراً بل دينارين قال الله تعالى قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( المزمل 2 4 ) فكذلك ههنا اقتلوه أو زيدوا على القتل وحرقوه الجواب الثاني هو أنا نسلم ما ذكرتم والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض إلى القتل وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقى غيره في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح أن يقال احترق فلان وأحرقه فلان وما مات فكذلك ههنا قالوا اقتلوه أو لا تعجلوا قتله وعذبوه بالنار وإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصر فخلوا في النار مقيله
ثم قال تعالى فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ اختلف العقلاء في كيفية الإنجاء بعضهم قال برد النار وهو الأصح الموافق لقوله تعالى قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً ( الأنبياء 69 ) وبعضهم قال خلق في إبراهيم كيفية استبرد معها النار وقال بعضهم ترك إبراهيم على ما هو عليه والنار على ما كانت عليه ومنع أذى النار عنه والكل ممكن والله قادر عليه وأنكر بعض الأطباء الكل أما سلب الحرارة عن النار قالوا الحرارة في النار ذاتية كالزوجية في الأربعة لا يمكن أن تفارقها وأما خلق كيفية تستبرد النار فلأن المزاج الإنساني له طرفا تفريط وإفراط فلو خرج عنهما لا يبقى إنساناً أو لا يعيش مثلا المزاج إن كان البارد فيه عشرة أجزاء يكون إنساناً

فإن صار أحد عشر لا يكون إنساناً وإن صارت الأجزاء الباردة خمسة يبقى إنساناً فإذا صارت أربعة لا يبقى إنساناً لكن البرودة التي يستبرد معها النار مزاج السمندل فلو حصل في الإنسان لمات أو لكان ذلك فإن النفس تابعة للمزاج وأما الثالث فمحال أن تكون القطنة في النار والنار كما هي والقطنة كما هي ولا تحترق فنقول الآية رد عليهم والعقل موافق للنقل أما الأول فلوجهين أحدهما أن الحرارة في النار تقبل الاشتداد والضعف فإن النار في الفحم إذا نفخ فيه يشتد حتى يذيب الحديد وإن لم ينفخ لا يشتد لكن الضعف هو عدم بعض من الحرارة التي كانت في النار فإذا أمكن عدم البعض جاز عدم بعض آخر من ذلك عليها إلى أن ينتهي إلى حد لا يؤذي الإنسان ولا كذلك الزوجية فإنها لا تشتد ولا تضعف والثاني وهو أن في أصول الطب ذكر أن النار لها كيفية حارة كما أن الماء له كيفية باردة لكن رأينا أن الماء تزول عنه البرودة وهو ماء فكذلك النار تزول عنها الحرارة وتبقى ناراً وهو نور غير محرق وأما الثاني فأيضاً ممكن وقولهم مدفوع من وجهين أحدهما منع أصلهم من كون النفس تابعة للمزاج بل الله قادر على أن يخلق النفس الإنسانية في المزاج الذي مثل مزاج الجمد وثانيهما أن نقول على أصلكم لا يلزم المحال لأن الكيفية التي ذكرناها تكون في ظاهر كالأجزاء الرشية عليه ولا يتأدى إلى القلب والأعضاء الرئيسة ألا ترى أن الإنسان إذا مس الجمد زماناً ثم مس جمرة نار لا تؤثر النار في إحراق يده مثل ما تؤثر في إحراق يد من أخرج يده من جيبه ولهذا تحترق يده قبل يد هذا فإذا جاز وجود كيفية في ظاهر جلد الإنسان تمنع تأثير النار فيه بالإحراق زماناً فيجوز أن تتجدد تلك الكيفية لحظة فلحظة حتى لا تحترق وأما الثالث فمجرد استبعاد بيان عدم الاعتياد ونحن نسلم أن ذلك غير معتاد لأنه معجز والمعجز ينبغى أن يكون خارقاً للعادة
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني في إنجائه من النار لآيات وهنا مسائل
المسألة الأولى قال في إنجاء نوح وأصحاب السفينة جَعَلْنَاهَا ءايَة ً ( العنكبوت 15 ) وقال ههنا لاَيَاتٍ بالجمع لأن الإنجاء بالسفينة شيء تتسع له العقول فلم يكن فيه من الآية إلا بسبب إعلام الله إياه بالاتخاذ وقت الحاجة فإنه لولاه لما اتخذه لعدم حصول علمه بما في الغيب وبسبب أن الله صان السفينة عن المهلكات كالرياح العاصفة وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه آيات
المسألة الثانية قال هناك لّلْعَالَمِينَ إِنَّ ( الأنبياء 91 ) وقال ههنا لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خص الآيات بالمؤمنين لأن السفينة بقيت أعواماً حتى مر عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد وأما تبريد النار ( فإنه ) لم يبق فلم يظهر لمن يعده إلا بطريق الإيمان به والتصديق وفيه لطيفة وهي أن الله لما برد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه وقد قال الله للمؤمنين بأن لهم أسوة حسنة في إبراهيم فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة فقال إن في ذلك التبريد لآيات لقوم يؤمنون
المسألة الثالثة قال هناك جَعَلْنَاهَا وقال ههنا جَعَلْنَاهُ لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح سفها فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية وأما تبريد النار فهو في نفسه آية إذا وجدت لا تحتاج إلى أمر آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّة َ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ

لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار وبيان فساد ما هم عليه وقال إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب ولا ترجعون عنه فليس هذا إلا تقليداً فإن بين بعضكم وبعض مودة فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة أو بينكم وبين آبائكم مودة فورثتموهم وأخذتم مقالتهم ولزمتم ضلالتهم وجهالتهم فقوله إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مَّوَدَّة َ بَيْنِكُمْ يعني ليس بدليل أصلا وفيه وجه آخر وهو تحقيق دقيق وهو أن يقال قوله إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مَّوَدَّة َ بَيْنِكُمْ أي مودة بين الأوثان وبين عبدتها وتلك المودة هي أن الإنسان مشتمل على جسم وعقل ولجسمه لذات جسمانية ولعقله لذات عقلية ثم إن من غلبت فيه الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية ومن غلبت عليه العقلية لا يلتفت إلى اللذات الجسمانية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين قوم من الأكابر في مجمع يحصل ما فيه لذة جسمه من الأكل وإراقة الماء وغيرهما ولا يلتفت إلى اللذة العقلية من حسن السيرة وحمد الأوصاف ومكرمة الأخلاق والعاقل يحمل الألم الجسماني ويحصل اللذة العقلية حتى لو غلبت قوته الدافعة على قوته الماسكة وخرج منه ريح أو قطرة ماء يكاد يموت من الخجالة والألم العقلي إذا ثبت هذا فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم ولا يمينهم ولا يسارهم ولا قدامهم ولا وراءهم ولا يكون جسماً من الأجسام ولا شيئاً يدخل في الأوهام ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان ثم قال تعالى ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه فيقول العابد ما هذا معبودي ويقول المعبود ما هؤلاء عبدتي ويلعن بعضكم بعضاً ويقول هذا لذاك أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ويقول ذاك لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون بل هم مجتمعون في النار كما كانوا مجتمعين في هذه الدار كما قال تعالى وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ ثم قال تعالى وَمَا لَكُمْ مّن نَّاصِرِينَ يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم وههنا مسائل
المسألة الأولى قال قبل هذا وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ( التوبة 116 ) على لفظ الواحد وقال ههنا على لفظ الجمع وَمَا لَكُمْ مّن نَّاصِرِينَ والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى الله تعالى عنهم حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ ( الأنبياء 68 ) فقال أنتم ادعيتم أن لهؤلاء ناصرين فما لكم ولهم أي للأوثان وعبدتها من ناصرين وأما هناك ما سبق منهم دعوى الناصرين فنفى الجنس بقوله وَلاَ نَصِيرٍ

المسألة الثانية قال هناك مَالَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ وما ذكر الولي ههنا فنقول قد بينا أن المراد بالولي الشفيع يعني ليس لكم شافع ولا نصير دافع وههنا لما كان الخطاب دخل فيه الأوثان أي ما لكم كلكم لم يقل شفيع لأنهم كانوا معترفين أن كلهم ليس لهم شافع لأنهم كانوا يدعون أن آلهتهم شفعاء كما قال تعالى عنهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا ( يونس 18 ) والشفيع لا يكون له شفيع فما نفى عنهم الشفيع لعدم الحاجة إلى نفيه لاعترافهم به وأما هناك فكان الكلام معهم وهم كانوا يدعون أن لأنفسهم شفعاء فنفى
المسألة الثالثة قال هناك مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ اللَّهِ فذكر على معنى الاستثناء فيفهم أن لهم ناصراً وولياً هو الله وليس لهم غيره ولي وناصر وقال ههنا مَا لَكُم مّنْ نَّاصِرِينَ من غير استثناء فنقول كان ذلك وارداً على أنهم في الدنيا فقال لهم في الدنيا لا تظنوا أنكم تعجزون الله فما لكم أحد ينصركم بل الله تعالى ينصركم إن تبتم فهو ناصر معد لكم متى أردتم استنصرتموه بالتوبة وهذا يوم القيامة كما قال تعالى ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وعدم الناصر عام لأن التوبة في ذلك اليوم لا تقبل فسواء تابوا أو لم يتوبوا لا ينصرهم الله ولا ناصر لهم غيره فلا ناصر لهم مطلقاً
فَأامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يعني لما رأى لوط معجزته آمن وقال إبراهيم إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى أي إلى حيث أمرني بالتوجه إليه إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعزته وحكيم لا يأمرني إلا بما يوافق لكمال حكمته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ أي بعد ما رأى منه المعجز القاهر ودرجة لوط كانت عالية وبقاؤه إلى هذا الوقت مما ينقص من الدرجة ألا ترى أن أبا بكر لما قبل دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكان نير القلب قبله قبل الكل من غير سماع تكلم الحصى ولا رؤية انشقاق القمر فنقول إن لوطاً لما رأى معجزته آمن برسالته وإما بالوحدانية فآمن حيث سمع حسن مقالته وإليه أشار بقوله فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وما قال فآمن لوط
المسألة الثانية ما تعلق قوله وقال إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى بما تقدم فنقول بما بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه وحصل اليأس الكلي حيث رأى القوم الآية الكبرى وَلَمْ يُؤْمِنُواْ وجبت المهاجرة لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسدة لأنه إن دام على الإرشاد كان اشتغالا بما لا ينتفع به مع علمه فيصير كمن يقول للحجر صدق وهو عبث أو يسكت والسكوت دليل الرضا فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة
المسألة الثالثة قال مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى ولم يقل مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة فنقول قوله مُهَاجِرٌ إلى حيث أمرني ربي ليس في الاخلاص كقوله إِلَى رَبّى لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى الموضع الفلاني ثم إن واحداً منهم سافر إليه لغرض ( في ) نفسه يصيبه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصاً لوجهه فقال مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى يعني توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة إنما هو طلب لله

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّة َ وَالْكِتَابَ وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى لاٌّ خِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 7 ) أن أثر رحمة الله في أمرين في الأمان من سوء العذاب والامتنان بحسن الثواب وهو واصل إلى المؤمن في الدار الآخرة قطعاً بحكم وعد الله نفي العذاب عنه لنفيه الشرك وإثبات الثواب لإثباته الواحد ولكن هذا ليس بواجب الحصول في الدنيا فإن كثيراً ما يكون الكافر في رغد والمؤمن جائع في يومه متفكر في أمر غده لكنهما مطلوبان في الدنيا أما دفع العذاب العاجل فلأنه ورد في دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ( وقنا عذاب الفقر والنار ) فعذاب الفقر إشارة إلى دفع العذاب العاجل وأما الثواب العاجل ففي قوله رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً ( البقرة 201 ) إذا علم هذا فنقول إن إبراهيم عليه السلام لما أتى ببيان التوحيد أولا دفع الله عنه عذاب الدنيا وهو عذاب النار ولما أتى به مرة بعد مرة مع إصرار القوم عى التكذيب وإضرارهم به بالتعذيب أعطاه الجزاء الآخر وهو الثواب العاجل وعدده عليه بقوله وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وفي الآية لطيفة وهي أن الله بدل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذيبه بالنار وكان وحيداً فريداً فبدل وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته ولما كان أولا قومه وأقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم آزر بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذريته الذين جعل الله فيهم النبوة والكتاب وكان أولا لا جاه له ولا مال وهما غاية اللذة الدنيوية آتاه الله أجره من المال والجاه فكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار بحيث يقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة فصار معروفاً بشيخ المرسلين بعد إن كان خاملاً حتى قال قائلهم سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ( الأنبياء 60 ) وهذا الكلام لا يقال إلا في مجهول بين الناس ثم إن الله تعالى قال وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني ليس له هذا في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدم له ثواب حسناته أو أملى له استدراجاً ليكثر من سيئاته بل هذا له عجالة وله في الآخرة ثواب الدلالة والرسالة وهو كونه من الصالحين فإن كون العبد صالحاً أعلى مراتبه لما بينا أن الصالح هو الباقي على ما ينبغي يقال الطعام بعد صالح أي هو باق على ما ينبغي ومن بقي على ما ينبغي لا يكون في عذاب ويكون له كل ما يريد من حسن ثواب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى أن إسماعيل كان من أولاده الصالحين وكان قد أسلم لأمر الله بالذبح وانقاد لحكم الله فلم لم يذكر فيقال هو مذكور في قوله وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّة َ ولكن لم يصرح باسمه لأنه كان غرضه تبيين فضله عليه بهبة الأولاد والأحفاد فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر ومن الأحفاد واحداً وهو الأظهر كما يقول القائل إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء الملك الفلاني والأمير الفلاني ولا يعدد الكل لأن ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصيته ولو ذكر غيره لفهم منه التعديد واستيعاب الكل

بالذكر فيظن أنه ليس معه غير المذكورين
المسألة الثانية أن الله تعالى جعل في ذريته النبوة إجابة لدعائه والوالد يستحب منه أن يسوى بين ولديه فكيف صارت النبوة في أولاد إسحاق أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل فنقول الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى القيامة قسمين والناس أجمعين فالقسم الأول من الزمان بعث الله فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤا تترى واحداً بعد واحد ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة اسحاق عليه السلام ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده الآخر وهو إسماعيل واحداً جمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجعله خاتم النبيين وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة فلا يبعد أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ
الإعراب في لوط والتفسير كما ذكرنا في قوله وَإِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ( العنكبوت 16 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى قال إبراهيم لقومه اعْبُدُواْ اللَّهَ وقال عن لوط ههنا أنه قال لقومه لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ فنقول لما ذكر الله لوطاً عند ذكر إبراهيم وكان لوط في زمان إبراهيم لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع أن الرسول لا بد من أن يقول ذلك فنقول حكاية لوط وغيرها ههنا ذكرها الله على سبيل الاختصار فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ( الأعراف 59 ) لأن ذلك كان قد أتى به إبراهيم وسبقه فصار كالمختص به ولوط يبلغ ذلك عن إبراهيم وأما المنع من عمل قوم لوط كان مختصاً بلوط فإن إبراهيم لم يظهر ذلك ( في زمنه ) ولم يمنعهم منه فذكر كل واحد بما اختص به وسبق به غيره
المسألة الثانية لم سمى ذلك الفعل فاحشة فنقول الفاحشة هو القبيح الظاهر قبحه ثم إن الشهوة والغضب صفتا قبح لولا مصلحة ما كان يخلقهما الله في الإنسان فمصلحة الشهوة الفرجية هي بقاء النوع بتوليد الشخص وهذه المصلحة لا تحصل إلا بوجود الولد وبقائه بعد الأب فإنه لو وجد ومات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأول لكن الزنا قضاء شهوة ولا يفضي إلى بقاء النوع لأنا بينا أن البناء بالوجود وبقاء الولد بعد الأب لكن الزنا وإن كان يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه لأن المياه إذا

اشتبهت لا يعرف الوالد ولده فلا يقوم بتربيته والإنفاق عليه فيضيع ويهلك فلا يحصل مصلحة البقاء فاذن الزنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة التي لأجلها خلقت فهو قبيح ظاهر قبحه حيث لا تستره المصلحة فهو فاحشة وإذا كان الزنا فاحشة مع أنه يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه فاللواطة التي لا تفضي إلى وجوده أولى بأن تكون فاحشة
المسألة الثالثة الآية دالة على وجوب الحد في اللواطة لأنها مع الزنا اشتركت في كونهما فاحشة حيث قال الله تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً ( الإسراء 32 ) واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه فما شرع زاجراً هناك يشرع زاجراً ههنا وهذا وإن كان قياساً إلا أن جامعه مستفاد من الآية ووجه آخر وهو أن الله جعل عذاب من أتى بها إمطار الحجارة حيث أمطر عليهم حجارة عاجلاً فوجب أن يعذب من أتى به بإمطار الحجارة به عاجلاً وهو الرجم وقوله مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ يحتمل وجهين أحدهما أن قبلهم لم يأت أحد بهذا القبيح وهذا ظاهر والثاني أن قبلهم ربما أتى به واحد في الندرة لكنهم بالغوا فيه فقال لهم ما سبقكم بها من أحد كما يقال إن فلاناً سبق البخلاء في البخل وسبق اللئام في اللؤم إذا زاد عليهم ثم قال تعالى أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ بياناً لما ذكرنا يعنى تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء المشتمل على المصلحة التي هي بقاء النوع حتى يظهر أنه قبيح لم يستر قبحه مصلحة وحينئذ يصير هذا كقوله تعالى أَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَة ً مّن دُونِ النّسَاء ( ) يعنى إتيان النساء شهوة قبيحة مستترة بالمصلحة فلكم دافع لحاجتكم لا فاحشة فيه وتتركونه وتأتون الرجال شهوة مع الفاحشة وقوله وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ يعني ما كفاكم قبح فعلكم حتى تضمون إليه قبح الإظهار وقوله فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ في التفسير كقوله في قصة إبراهيم وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال قوم إبراهيم اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ ( العنكبوت 24 ) وقال قوم لوط ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ وما هددوه مع أن إبراهيم كان أعظم من لوط فإن لوطاً كان من قومه فنقول إن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم بتعديد صفات نقصهم بقوله لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى والقدح في الدين صعب فجعلوا جزاءه القتل والتحريق ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم قول إبراهيم فقالوا إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول لا يعذب فإن كنت صادقاً فأتنا بالعذاب فإن قيل إن الله تعالى قال في موضع آخر فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ ( النمل 56 ) وقال ههنا فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا فكيف الجمع فنقول لوط كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً عليهم التغيير والنهي والوعيد فقالوا أولا ائتنا ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة من الله وذكرهم بما لا يحب الله فَقَالَ رَبّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ فإن الله لا يحب المفسدين حتى ينجز النصر
واعلم أن نبياً من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم كما قال نوح إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 27 ) يعني المصلحلة إما فيهم حالا أو بسببهم مآلا ولا

مصلحة فيهم فإنهم يضلون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون الأولاد من صغرهم بالامتناع من الاتباع فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال واشتغلوا بما لا يرجى معه منهم ولد صالح يعبد الله بطلت المصلحة حالا ومآلا فعدمهم صار خيراً فطلب العذاب
وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
لما دعا لوط على قومه بقوله رَبّ انصُرْنِى استجاب الله دعاءه وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا أَنَاْ مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ يعني أهل سدوم وفي الآية لطيفتان إحداهما أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين لكن البشارة أثر الرحمة والإنذار بالإهلاك أثر الغضب ورحمته سبقت غضبه فقدم البشارة على الإنذار وقال جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى ثم قال أَنَاْ الثانية حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل وحين ذكروا الإهلاك عللوا وقالوا الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم وفيه مسألتان
المسألة الأولى لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار نقول لما أراد الله إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه
المسألة الثانية قال في قوم نوح فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ( العنكبوت 14 ) وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين وههنا قال إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ولم يقل وإنهم ظالمون فنقول لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله وعن الماضي حيث قال فَأَخَذَهُمْ وكانوا ظالمين فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون وههنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا إنا مهلكوا فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من الله بالإهلاك فقالوا أَنَاْ لأن الله أمرنا وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين فحسن أمر الله عند كل أحد وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا الله باهلاكهم بياناً لحسن الأمر وأما

أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه ثم إن إبراهيم لما سمع قولهم قال لهم إن فيها لوطاً إشفاقاً عليه ليعلم حاله أو لأن الملائكة لما قالوا أَنَاْ وكان إبراهيم يعلم أن الله لا يهلك قوماً وفيهم رسوله فقال تعجباً إن فيهم لوطاً فكيف يهلكون فقالت الملائكة نحن أعلم بمن فيها يعني نعلم أن فيهم لوطاً فلننجينه وأهله ونهلك الباقين وههنا لطيفة وهو أن الجماعة كانوا أهل الخير أعني إبراهيم والملائكة وكل واحد كان يزيد على صاحبه في كونه خيراً أما إبراهيم فلما سمع قوله الملائكة أَنَاْ أظهر الاشفاق على لوط ونسي نفسه وما بشروه ولم يظهر بها فرحاً وقال قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً ( العنكبوت 32 ) ثم إن الملائكة لما رأوا ذلك منه زادوا عليه وقالوا إنك ذكرت لوطاً وحده ونحن ننجيه وننجي معه أهله ثم استثنوا من الأهل امرأته وقالوا إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ أي من المهلكين وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان وذلك لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي وفي الباقي يقال فيما غبر من الزمان أي فيما مضى ويقال الفعل ماض وغابر أي باق وعلى الوجه الأول نقول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم أَنَاْ مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ثم جرى ذكر لوط بتذكير إبراهيم وجواب الملائكة فقالت الملائكة إنها من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الذين ننجي منهم أو نقول المهلك يفنى ويمضي زمانه والناجي هو الباقي فقالوا إنها من الغابرين أي من الرائحين الماضين لا من الباقين المستمرين وأما على الوجه الثاني فنقول لما قضى الله على القوم بالإهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ننجي منه فقالوا إنا ننجي لوطاً وأهله وأما امرأته فهي من الباقين في الهلاك
وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَة ً بَيِّنَة ً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
ثم إنهم جاؤا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشراً فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله والقوم كما عرف حالهم فسيء بهم أي جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعاً كناية عن العجز في تدبيرهم قال الزمخشري يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجهاً معقولاً غير ذلك وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضاً والقلب هو المعتبر من الإنسان فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال

اتسع ذرعه ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى قال من قبل وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ ( العنكبوت 31 ) وقال ههنا وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا فما الحكمة فيه فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجىء هناك قول الملائكة أَنَاْ وهو لم يكن متصلاً بمجيئهم لأنهم بشروا أولاً ولبثوا ثم قالوا إنا مهلكوا وأيضاً فالتأني واللبث بعد المجىء ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجىء به والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئاً من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير إذا علم هذا فقوله ههنا الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا يفيد الاتصال يعني خاف حين المجىء فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود وقال وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً من غير أن فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى فقوله هنالك وَلَقَدْ جَاءتْ لا يدل على أن قولهم أَنَّا أَرْسَلْنَا كان في وقت المجىء وقوله وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ دل على أن حزنه كان وقت المجىء إذا علم هذا فنقول هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام ثم قالوا لاَ تَخَفْ ولا تحزن إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فحصل تأخير الإنذار وبقوله في حكاية لوط وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا حصل بيان تعجيل الحزن وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم وَلَمَّا جَاءتْ قال في حكاية لوط وَلَمَّا أَن جَاءتْ لما ذكرنا من الفائدة
المسألة الثانية قال هنا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وقال لإبراهيم لَنُنَجّيَنَّهُ بصيغة الفعل فهل فيه فائدة قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم إِنَّ فِيهَا لُوطاً وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم وههنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا إِنَّا مُنَجُّوكَ أي ذلك واقع منا كقوله تعالى إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) لضرورة وقوعه
المسألة الثالثة قولهم لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ لا يناسبه إِنَّا مُنَجُّوكَ لأن خوفه ما كان على نفسه نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن وهي أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة ثم قالوا له يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ
المسألة الرابعة القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت واحدة منهم ثم إنهم بعد بشارة

لوط بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب فقالوا إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ رِجْزاً مّنَ السَّمَاء واختلفوا في ذلك فقال بعضهم حجارة وقيل نار وقيل خسف وعلى هذا فلا يكون عينه من السماء وإنما يكون الأمر بالخسف من السماء أو القضاء به من السماء ثم اعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم قدموا البشارة على الإنذار حيث قالوا إِنَّا مُنَجُّوكَ ثم قالوا إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ ولم يعللوا التنجية فما قالوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد وعللوا الإهلاك بقولهم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وقالوا بما كانوا كما قالوا هناك إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ( العنكبوت 31 ) ثم قال تعالى وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءايَة ً بَيّنَة ً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي من القرية فإن القرية معلومة وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك وفيها مسائل
المسألة الأولى جعل الله الآية في نوح وإبراهيم بالنجاة حيث قال فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ وَجَعَلْنَاهَا ءايَة ً ( العنكبوت 15 ) وقال فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذالِكَ لاَيَاتٍ ( العنبكوت 24 ) وجعل ههنا الهلاك آية فهل عندك فيه شيء نقول نعم أما إبراهيم فلأن الآية كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً والغرق لم يبق لمن بعده أثره فجعل الباقي آية وأما ههنا فنجاة لوط لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي وهو ههنا البلاد وهناك السفينة وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة
المسألة الثانية قال في السفينة وَجَعَلْنَاهَا ءايَة ً ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة نقول لأن الإنجاء بالسفينة أمر يتسع له كل عقل وقد يقع في وهم جاهل أن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر وأما الآية ههنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان فهي بينة لا يمكن لجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة النجاة بها أمر يكون كذلك إلى أن يقال له فمن أين علم أنه يحتاج إليها ولو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان يحصل لهم النجاة ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة كيف يكون أحوالهم
المسألة الثالثة قال هناك للعالمين وقال ههنا لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قلنا لأن السفينة موجودة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال لسفينة نوح يتذكرون بها حاله وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ولا يثق أحد بمجرد السفينة بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله تعالى طلباً للنجاة وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من يمر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله المريد بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان بعد زمان
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ

لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ واختلف المفسرون في مدين فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما وقال بعضهم اسم ماء نسب القوم إليه واشتهر في القوم والأول كأنه أصح وذلك لأن الله أضاف الماء إلى مدين حيث قال وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ ( القصص 23 ) ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة والأصل في الإضافة التغاير حقيقة وقوله أَخَاهُمْ قيل لأن شعيباً كان منهم نسباً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الله تعالى في نوح وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ( العنبكوت 14 ) قدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً فنقول الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولاً إلى غير معين وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بالنبي فقيل قوم نوح وقوم لوط وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً وقال وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( الأعراف 65 )
المسألة الثانية لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد وذكر عن شعيب ذلك قلنا قد ذكرنا أن لوطاً كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها وإن كان هو أيضاً يأمر بالتوحيد إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلاً أيضاً في التوحيد فدأبه وقال اعْبُدُواْ اللَّهَ
المسألة الثالثة الإيمان لا يتم إلا بالتوحيد والأمر بالعبادة لا يفيده لأن من يعبد الله ويعبد غيره فهو مشرك فكيف اقتصر على قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ فنقول هذا الأمر يفيد التوحيد وذلك لأن من يرى غيره يخدم زيداً وعمرو هناك وهو أكبر أو هو سيد زيد فإذا قال له أخدم عمراً يفهم منه أنه يأمره بصرف الخدمة إليه وكذا إذا كان لواحد دينار واحد وهو يريد أن يعطيه زيداً فإذا قيل له أعطه عمراً يفهم منه لا تعطه زيداً فنقول هم كانوا مشتغلين بعبادة غير الله والله مالك ذلك الغير فقال لهم شعيب اعْبُدُواْ اللَّهَ ففهموا منه ترك عبادة غيره أو نقول لكل واحد نفس واحدة ويريد وضعها في عبادة غير الله فقال لهم شعيب ضعوها في موضعها وهو عبادة الله ففهم منه التوحيد ثم قال وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ قال الزمخشري معناه افعلوا ما ترجون به العاقبة إذ قد يقول القائل لغيره كن عاقلاً ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلاً وقوله وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ فيه مسائل
المسألة الأولى هذا يدل على صحة مذهبنا فإن عندنا من عبد الله طول عمره يثيبه الله تفضلاً ولا يجب عليه ذلك لأن العابد قد وصل إليه من النعم ما لو زاد على ما أتى به لما خرج عن عهدة الشكر ومن

شكر المنعم على نعم سبقت لا يلزم المنعم أن يزيده وإن زاده يكون إحساناً منه إليه وإنعاماً عليه فنقول قوله وَارْجُواْ الْيَوْمَ بعد قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ يدل على التفضل لا على الوجوب فإن الفضل يرجى والواجب من العادل يقطع به
المسألة الثانية قال وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ ولم يقل وخافوه مع أن ذلك اليوم مخوف عند الكل وغير مرجو عند كثير من الناس لفسقه وفجوره ومحبته الدنيا ولا يرجوه إلا قليل من عباده فنقول لما ذكر التوحيد بطريق الإثبات وقال اعْبُدُواْ ولم يذكره بطريق النفي وما قال ولا تعبدوا غيره قال بلفظ الرجاء لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين وفيه وجه آخر وهو أن الله حكى في حكاية إبراهيم أنه قال إنكم اتخذتم الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا وأما في الآخرة فتكفرون بها وقال ههنا لا تكونوا كالذين سبق ذكرهم لم يرجوا اليوم الآخر فاقتصروا على مودة الحياة الدنيا وارجوا اليوم الآخر واعملوا له ثم قال وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ يمكن أن يقال نصب مفسدين على المصدر كما يقال قم قائماً أي قياماً ويكون قوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ كقول القائل إجلس قعوداً لأن العيث والفساد بمعنى وجمع الأوامر والنواهي في قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ وقوله وَلاَ تَعْثَوْاْ ثم إن قومه كذبوه بعدما بلغ وبين فحكى الله عنهم ذلك بقوله فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما حكي عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يصدق ولا يكذب فإن من قال لغيره قم لا يصح أن يقول له كذبت فنقول كان شعيب يقول الله واحد فاعبدوه والحشر كائن فارجوه والفساد محرم فلا تقربوه وهذه الأشياء فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبرهم به
المسألة الثانية قال ههنا وفي الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ وقال في هود فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ ( الحجر 73 ) والحكاية واحدة نقول لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة إما لرجفة الأرض إذ قيل إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته وإما لرجفة الأفئدة فإن قلوبهم ارتجفت منها والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب إذ يصح أن يقال روى فقوي وأن يقال شرب فقوي في صورة واحدة
المسألة الثالثة حيث قال فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ قال فِى دِيَارِهِمْ وحيث قال فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ قال فِي دَارِهِمْ فنقول المراد من الدار هو الديار والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن الالتباس وإنما اختلف اللفظ للطيفة وهي أن الرجفة هائلة في نفسها فلم يحتج إلى مهول وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى تعلم هيبتها والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يحتج إلى معظم لأمرها وقيل إن الصيحة كانت أعم حيث عمت الأرض والجو والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هناك غير أن هذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم

وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الأرض وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ
ثم قال تعالى وَعَاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا عاداً وثمود لأن قوله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ دل على الإهلاك وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مَّسَاكِنِهِمْ الأمر وما تعتبرون منه ثم بين سبب ما جرى عليهم فقال وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فقوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ يعني عبادتهم لغير الله فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني عبادة الله وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ يعني بواسطة الرسل يعني فلم يكن لهم في ذلك عذر فإن الرسل أوضحوا السبل ثم قال تعالى وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ عطفاً عليهم أي وأهلكنا قارون وفرعون وهامان
ثم قال تعالى وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُّوسَى بِالْبَيّنَاتِ كما قال في عاد وثمود وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ أي بالرسل ثم قال تعالى فَاسْتَكْبَرُواْ أي عن عبادة الله وقوله فِى الاْرْضِ إشارة إلى ما يوضح قلة عقلهم في استكبارهم وذلك لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين ومن في السماء أقواهم ثم إن من في السماء لا يستكبر على الله وعن عبادته فكيف ( يستكبر ) من في الأرض ثم قال تعالى وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ أي ما كانوا يفوتون الله لأنا بينا في قوله تعالى وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ( العنبكوت 22 ) أن المراد أن أقطار الأرض في قبضة قدرة الله
فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَة ُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
ذكر الله أربعة أشياء العذاب بالحاصب وقيل إنه كان بحجارة محماة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر وفيه إشارة إلى النار والعذاب بالصيحة وهو هواء متموج فإن الصوت قيل سببه تموج الهواء

ووصوله إلى الغشاء الذي على منفذ الأذن وهو الصماخ فيقرعه فيحس والعذاب بالخسف وهو الغمر في التراب والعذاب بالإغراق وهو بالماء فحصل العذاب بالعناصر الأربعة والإنسان مركب منها وبها قوامه وبسببها بقاؤه ودوامه فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سبباً لعدمه وما به بقاؤه سبباً لفنائه ثم قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني لم يظلمهم بالهلاك وإنما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك وفيه وجه آخر ألطف وهو أن الله ما كان يظلمهم أي ما كان يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة كما قال تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
لما بين الله تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلاً وعذب من كذب آجلاً ولم ينفعه في الدارين معبوده ولم يدفع ذلك عنه ركوعه وسجوده مثل اتخاذه ذلك معبوداً باتخاذ العنكبوت بيتاً لا يجير آوياً ولا يريح ثاوياً وفي الآية لطائف نذكرها في مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال فنقول فيه وجوه الأول أن البيت ينبغي أن يكون له أمور حائط حائل وسقف مظل وباب يغلق وأمور ينتفع بها ويرتفق وإن لم يكن كذلك فلا بد من أحد أمرين إما حائط حائل يمنع من البرد وإما سقف مظل يدفع عنه الحر فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت لكن بيت العنكبوت لا يجنها ولا يكنها وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع وبه دفع المضار فإن لم تجتمع هذه الأمور فلا أقل من دفع ضر أو جر نفع فإن من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنسبة إليه سواء فإذن كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء الثاني هو أن أقل درجات البيت أن يكون للظل فإن البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضاً الهواء والماء والنار والتراب والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النار والخباء الذي هو بيت من الشعر أو الخيمة التي هي من ثوب إن كان لا يدفع شيئاً يظل ويدفع حر الشمس لكن بيت العنكبوت لا يظل فإن الشمس بشعاعها تنفذ فيه فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير فإن لم يكن كذلك فيكون نافذ الأمر في العابد فإن لم يكن فلا أقل من أن لا ينفذ أمر العابد فيه لكن معبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلوه وإن أحبوا أذلوه الثالث أدنى مراتب البيت أنه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شتات وافتراق لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت فإن العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها فإذا نسج على نفسه واتخذ بيتاً يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت فكذلك العابد بسبب العبادة ينبغي أن يستحق الثواب فإن لم يستحقه فلا أقل من أن لا يستحق بسببها العذاب والكافر يستحق بسبب العبادة العذاب

المسألة الثانية مثل الله اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذ العنكبوت نسجه بيتاً ولم يمثله بنسجه وذلك لوجهين أحدهما أن نسجه فيه فائدة له لولاه لما حصل وهو اصطيادها الذباب به من غير أن يفوته ما هو أعظم منه واتخاذهم الأوثان وإن كان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا لكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت الوجه الثاني هو أن نسجه مفيد لكن اتخاذها ذلك بيتاً أمر باطل فكذلك هم لو اتخذوا الأوثان دلائل على وجود الله وصفات كماله وبراهين على نعوت إكرامه وأوصاف جلاله لكان حكمة لكنهم اتخذوها أولياء كجعل العنكبوت النسج بيتاً وكلاهما باطل
المسألة الثالثة كما أن هذا المثل صحح في الأول فهو صحيح في الآخر فإن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباءً منثوراً فكذلك أعمالهم للأوثان كما قال تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 )
المسألة الرابعة قال مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء ولم يقل آلهة إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضاً فإن من عبد الله رياء لغيره فقد اتخذ ولياً غيره فمثله مثل العنكبوت يتخذ نسجه بيتاً
ثم إنه تعالى قال وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون
إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه عين ولا أثر فَكَذَلِكَ عَمَلَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَى ْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
قال الزمخشري هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء بمعنى ما يدعون ليس بشيء وهو عزيز حكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلاً وهذا يفهم منه أنه جعل ما نافية وهو صحيح والعلم يتعلق بالجملة كما يقول القائل إني أعلم أن الله واحد حق يعني أعلم هذه الجملة وإن كنا نجعل ما خبرية فيكون معناه ما يدعون من شيء فالله يعلمه وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة ومن ههنا يكون الخطاب مع أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا لو قال قائل ما وجه تعلق هذه الآية بالتمثيل السابق فنقول لما قال إن مثلهم كمثل العنكبوت فكان للكافر أن يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان التي أتخذها وهي تحت تسخيري وإنما هي صورة كوكب أنا تحت تسخيره ومنه نفعي وضري وخيري وشري ووجودي ودوامي فله سجودي وإعظامي فقال الله تعالى الله يعلم أن كل ما يعبدون من دون الله هو مثل بيت العنكبوت لأن الكوكب والملك وكل ما عدا الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله فعبادتكم للغائب كعبادتكم للحاضر ولا معبود

إلا الله ولا إله سواه
وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ
قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت فيقال الأمثال تضرب للناس إن لم تكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نفرتكم مما أنتم فيه وذلك لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيراً مثل تأثير الدليل فإذا قال الحكيم لمن يغتاب إنك بالغيبة كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو لا يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب
ثم قال تعالى وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ
يعني حقيقتها وكون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى الله وفساد عبادة ما عداه وفيه معنى حكمي وهو أن العلم الحدسي يعلمه العاقل والعلم الفكري الدقيق يعقله العالم وذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهراً وكون المدرك عاقلاً ولا يحتاج إلى كونه عالماً بأشياء قبله وأما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلا بد من عالم ثم إنه قد يكون دقيقاً في غاية الدقة فيدركه ولا يدركه بتمامه ويعقله إذا كان عالماً إذا علم هذا فقوله وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ يعني هو ضرب للناس أمثالاً وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء
ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان ولم يأت الكفار بما أمرهم به وقص عليهم قصصاً فيها عبر وأنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر وبين ضعف دليلهم بالتمثيل ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل وحصل يأس الناس عنهم سلَّى المؤمنين بقوله
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّلْمُؤْمِنِينَ
يعني إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكاً في صحة دينكم ولا يؤثر شكهم في قوة يقينكم فإن خلق الله السموات والأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر وبرهان باهر وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر وفي الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية وهي أن الله تعالى كيف خص الآية في خلق السموات والأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال الله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) وقال الله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى أَن قَالَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة 164 ) فنقول خلق السموات والأرض آية لكل عاقل وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب وبيانه من حيث النقل والعقل أما النقل فقوله تعالى مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

( الدخان 39 ) أخرج أكثر الناس عن العلم يكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الاْرْضِ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وأما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السموات والأرض ويعلم أن لهما خالقاً وهو الله ثم من يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك بل يقول إنه خلقهما متقناً محكماً وهو المراد بقوله بِالْحَقّ لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد ويبطل فيكون باطلاً وإذا علم أنه خلقهما متقناً يقول إنه قادر كامل حيث خلق وعالم علمه شامل حيث أتقن فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات ولا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات فيجوز بعث من في القبور وبعثة الرسول ويعلم وحدانية الله لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا ولبطلتا وهما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامه ثم إن الله تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله
اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَواة َ إِنَّ الصَّلَواة َ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ولهذا قال اتْلُ وما قال عليهم لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة والسلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أن الرسول إذا كان معه كتاب وقرأ كتابه مرة ولم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام وكلام مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام وقسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتاباً فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية ووضعنا فيكم السنة الفلانية وبعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال فمثل هذا الكتاب لا يقرأ ويترك بل يعلق من مكان عال وكثيراً ما تكتب نسخته على لوح ويثبت فوق المحاريب ويكون نصب الأعين فكذلك كتاب الله مع رسوله محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم ويثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرؤها مرة أخرى إلا لغيره ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرؤها إلا لآخر لم يسمعه ولو قرأه عليه لسئموه وكتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو والفقه وغيرهما وكتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس وللغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير وكلما سمعها يلتذ بها ويرق لها قلبه ويستعيدها وكلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع وتكرر أيضاً لنفس المتكلم فإن كثيراً ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة وكلما يعيدها يكون أطيب وألذ وأثبت في القلب وأنفذ حتى يكاد يبكي من رقته دماً ولو أورثه البكاء عمى إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص والفقه والنحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة

المسألة الثانية لم خصص بالأمر هذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فنقول لوجهين أحدهما أن الله لما أراد تسلية قلب محمد عليه السلام قال له الرسول واسطة بين طرفين من الله إلى الخلق فإذا لم يتصل به الطرف الواحد ولم يقبلوه فالطرف الآخر متصل ألا ترى أن الرسول إذا لم تقبل رسالته توجه نحو مرسله فإذا تلوت كتابك ولم يقبلوك فوجه وجهك إلى وأقم الصلاة لوجهي الوجه الثاني هو أن العبادات المختصة بالعبد ثلاثة وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية خارجية وهي العمل الصالح لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن من اعتقد شيئاً لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمراً والنبي عليه السلام كان ذلك حاصلاً له عن عيان أكمل مما يحصل عن بيان فلم يؤمر به لعدم إمكان تكراره لكن الذكر ممكن التكرار والعبادة البدنية كذلك فأمره بهما فقال أتل الكتاب وأقم الصلاة
المسألة الثالثة كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر نقول قال بعض المفسرين المراد من الصلاة القرآن وهو ينهى أي فيه النهي عنهما وهو بعيد لأن إرادة القرآن من الصلاة في هذا الموضع الذي قال قبله اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ بعيد من الفهم وقال بعضهم أراد به نفس الصلاة وهي تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة لأنه لا يمكنه الاشتغال بشيء منهما فنقول هذا كذلك لكن ليس المراد هذا وإلا لا يكون مدحاً كاملاً للصلاة لأن غيرها من الأشغال كثيراً ما يكون كذلك كالنوم في وقته وغيره فنقول المراد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر مطلقاً وعلى هذا قال بعض المفسرين الصلاة هي التي تكون مع الحضور وهي تنهى حتى نقل عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بعداً ) ونحن نقول الصلاة الصحيحة شرعاً تنهى عن الأمرين مطلقاً وهي التي أتى بها المكلف لله حتى لو قصد بها الرياء لا تصح صلاته شرعاً وتجب عليه الإعادة وهذا ظاهر فإن من نوى بوضوئه الصلاة والتبرد قيل لا يصح فكيف من نوى بصلاته الله وغيره إذا ثبت هذا فنقول الصلاة تنهى من وجوه الأول هو أن من كان يخدم ملكاً عظيم الشأن كثير الإحسان ويكون عنده بمنزلة ويرى عبداً من عباده قد طرده طرداً لا يتصور قبوله وفاته الخبر بحيث لا يرجى حصوله يستحيل من ذلك المقرب عرفاً أن يترك خدمة الملك ويدخل في طاعة ذلك المطرود فكذلك العبد إذا صلى لله صار عبداً له وحصل له منزلة المصلي يناجي ربه فيستحيل منه أن يترك عبادة الله ويدخل تحت طاعة الشيطان المطرود لكن مرتكب

الفحشاء والمنكر تحت طاعة الشيطان فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر الثاني هو أن من يباشر القاذورات كالزبال والكناس يكون له لباس نظيف إذا لبسه لا يباشر معه القاذورات وكلما كان ثوبه أرفع يكون امتناعه وهو لابسه عن القاذورات أكثر فإذا لبس واحد منهم ثوب ديباج مذهب يستحيل منه مباشرة تلك الأشياء عرفاً فكذلك العبد إذا صلى لبس لباس التقوى لأنه واقف بين يدي الله واضع يمينه على شماله على هيئة من يقف بمرأى ملك ذي هيبة ولباس التقوى خير لباس يكون نسبته إلى القلب أعلى من نسبة الديباج المذهب إلى الجسم فإذن من لبس هذا اللباس يستحيل منه مباشرة قاذورات الفخشاء والمنكر ثم إن الصلوات متكررة واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع الثالث من يكون أمير نفسه يجلس حيث يريد فإذا دخل في خدمة ملك وأعطاه منصباً له مقام خاص لا يجلس صاحب ذلك المنصب إلا في ذلك الموضع فلو أراد أن يجلس في صف النعال لا يترك فكذلك العبد إذا صلى دخل في طاعة الله ولم يبق بحكم نفسه وصار له مقام معين إذ صار من أصحاب اليمين فلو أراد أن يقف في غير موضعه وهو موقف أصحاب الشمال لا يترك لكن مرتكب الفحشاء والمنكر من أصحاب الشمال وهذا الوجه إشارة إلى عصمة الله يعني من صلى عصمه الله عن الفحشاء والمنكر الرابع وهو موافق لما وردت به الأخبار وهو أن من يكون بعيداً عن الملك كالسوقي والمنادي والمتعيش لا يبالي بما فعل من الأفعال يأكل في دكان الهراس والرواس ويجلس مع أحباش الناس فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صار واحداً من الجندارية والقواد والسواس عند الملك لا تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله فإذا زادت قربته وارتفعت منزلته حتى صار أميراً حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان والجلوس مع أولئك الخلان كذلك العبد إذا صلى وسجد صار له قربة ما لقوله تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( العلق 19 ) فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي والمناهي فبتكرر الصلاة والسجود تزداد مكانته حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلاً عن الكبائر وفي الآية وجه آخر معقول يؤكده المنقول وهو أن المراد من قوله اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هو أنها تنهى عن التعطيل والإشراك والتعطيل هو إنكار وجود الله والإشراك إثبات ألوهية لغير الله فنقول التعطيل عقيدة فحشاء لأن الفاحش هو القبيح الظاهر القبح لكن وجود الله أظهر من الشمس وما من شيء إلا وفيه آية على الله ظاهرة وإنكار الظاهر ظاهر الإنكار فالقول بأن لا إله قبيح والإشراك منكر وذلك لأن الله تعالى لما أطلق اسم المنكر على من نسب نفساً إلى غير الوالد مع جواز أن يكون له ولد حيث قال إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ ( المجادلة 2 ) فالمشرك الذي يقول الملائكة بنات الله وينسب إلى من لم يلد ولا يجوز أن يكون له ولد ولداً كيف لا يكون قوله منكراً فالصلاة تنهى عن هذه الفحشاء وهذا المنكر وذلك لأن العبد أول ما يشرع في الصلاة يقول الله أكبر فبقوله الله ينفي التعطيل وبقوله أكبر ينفي التشريك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك فإذا قال بسم الله نفى التعطيل وإذا قال الرحمن الرحيم نفى الإشراك لأن الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة والرحيم من يعطي البقاء بالرزق بالرحمة فإذا قال الحمد لله رب العالمين أثبت بقوله الحمد لله خلاف التعطيل وبقوله رَبّ الْعَالَمِينَ خلاف الإشراك فإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ بتقديم إياك نفى التعطيل والإشراك وكذا بقوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا قال اهْدِنَا الصّرَاطَ نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد والمعطل لا مقصد له وبقوله الْمُسْتَقِيمَ نفى الإشراك لأن المستقيم هو الأقرب والمشرك يعبد الأصنام حتى يعبد صورة صورها إله العالمين ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب وعلى هذا إلى آخر الصلاة يقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله فينفي الإشراك والتعطيل وههنا لطيفة وهي أن الصلاة أولها لفظة الله وآخرها لفظة الله في قوله أشهد أن لا إله إلا الله ليعلم المصلي أنه من أول الصلاة إلى آخرها مع الله فإن قال قائل فقد بقي من الصلاة قوله وأشهد أن محمداً رسول الله والصلاة على الرسول والتسليم فنقول هذه الأشياء في آخرها دخلت لمعنى خارج عن ذات الصلاة وذلك لأن الصلاة ذكر الله لا غير لكن العبد إذا وصل بالصلاة إلى الله وحصل مع الله لا يقع في قلبه أنه استقل واستبد واستغنى عن الرسول كمن تقرب من السلطان فيغتر بذلك ولا يلتفت إلى النواب والحجاب فقال أنت في هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وغير مستغن عنه فقل مع ذكرى محمد رسول الله ثم إذا علمت أن هذا كله ببركة هدايته فاذكر إحسانه بالصلاة عليه ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو ترتيب المسافرين واعلم أن

هيئة الصلاة هيئة فيها هيبة فإن أولها وقوف بين يدي الله كوقوف المملوك بين يدي السلطان ثم إن آخرها جثو بين يدي الله كما يجثو بين يدي السلطان من أكرمه بالإجلاس كأن العبد لما وقف وأثنى على الله أكرمه الله وأجلسه فجثا وفي هذا الجثو لطيفة وهي أن من جثا في الدنيا بين يدي ربه هذا الجثو لا يكون له جثو في الآخرة ولا يكون من الذين قال الله في حقهم وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ( مريم 72 )
ثم قال تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
لما ذكر أمرين وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم فقال وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة تنبشوا لذلك وتذكروهم بملء أفواهكم وقلوبكم لكن ذكر الله أكبر فينبغي أن يكون على أبلغ وجوه التعظيم وأما الصلاة فكذلك لأن الله يعلم ما تصنعون وهذا أحسن صنعكم فينبغي أن يكون على وجه التعظيم وفي قوله وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مع حدف بيان ما هو أكبر منه لطيفة وهي أن الله لم يقل أكبر من ذكر فلان لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة إذا لا يقال الجبل أكبر من خردلة وإنما يقال هذا الجبل أكبر من ذلك الجبل فأسقط المنسوب كأنه قال ولذكر الله له الكبر لا لغيره وهذا كما يقال في الصلاة الله أكبر أي له الكبر لا لغيره
وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَاؤُلا ءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِايَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ
لما بين الله طريقة إرشاد المشركين ونفع من انتفع وحصل اليأس ممن امتنع بين طريقة إرشاد أهل الكتاب فقال وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ قال بعض المفسرين المراد منه لا تجادلوهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا وحاربوا أي إذا ظلموا زائداً على كفرهم وفيه معنى ألطف منه وهو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه ولهذا قال تعالى في حقهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 ) وقال لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولهم آذان لا يسمعون بها

( الأعراف 179 ) إلى غير ذلك وأما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والحشر فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضلال آباؤهم بخلاف المشرك ثم على هذا فقوله إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ تبيين له حسن آخر وهو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون لأن الشرك ظلم عظيم فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله وَقُولُواْ ءامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء ثم بعد ذلك ذكر دليلاً قياسياً فقال وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وهذا قياس ثم قال فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ لوجود النص ومن هؤلاء كذلك واختلف المفسرون فقال بعضهم المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بنبينا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره وبقوله وَمِنْ هَؤُلاء أي من أهل مكة وقال بعضهم المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الذين سبقوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) زماناً من أهل الكتاب ومن هؤلاء الذين هم في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب وهذا أقرب فإن قوله هَؤُلاء صرفه إلى أهل الكتاب أولى لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين ههنا إذ كان هذا الكلام بعد الفراغ من ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر وههنا وجه آخر أولى وأقرب إلى العقل والنقل وأقرب إلى الأحسن من الجدال المأمور به وهو أن نقول المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الأنبياء وبقوله وَمِنْ هَؤُلاء أي من أهل الكتاب وهو أقرب لأن الذين آتاهم الكتاب في الحقيقة هم الأنبياء فإن الله ما آتى الكتاب إلا للأنبياء كما قال تعالى أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( الأنعام 89 ) وقال وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) وقال وَءاتَانِى الْكِتَابِ ( مريم 30 ) وإذا حملنا الكلام على هذا لا يدخله التخصيص لأن كل الأنبياء آمنوا بكل الأنبياء وإذا قلنا بما قالوا به يكون المراد من الذين آتيناهم الكتاب عبد الله بن سلام واثنين أو ثلاثة معه أو عدداً قليلاً ويكون المراد بقوله وَمِنْ هَؤُلاء غير المذكورين وعلى ما ذكرنا يكون مخرج الكلام كأنه قسم القوم قسمين أحدهما المشركين وتكلم فيهم وفرغ منهم والثاني أهل الكتاب وهو بعد في بيان أمرهم والوقت وقت جريان ذكرهم فإذا قال هؤلاء يكون منصرفاً إلى أهل الكتاب الذين هم في وصفهم وإذا قال أولئك يكون منصرفاً إلى المشركين الذين سبق ذكرهم وتحقق أمرهم وعلى هذا التفسير يكون الجدال على أحسن الوجوه وذلك لأن الخلاف في الأنبياء والأئمة قريب من الخلاف في فضيلة الرؤساء والملوك فإذا اختلف حزبان في فضيلة ملكين أو رئيسين وأدى الاختلاف إلى الاقتتال يكون أقوى كلام يصلح بينهم أن يقال لهم هذان الملكان متوافقان متصادقان فلا معنى لنزاعكم فكذلك ههنا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نحن آمنا بالأنبياء وهم آمنوا بي فلا معنى لتعصبكم لهم وكذلك أكابركم وعلماؤكم آمنوا ثم قال تعالى اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ تنفيراً لهم عما هم عليه يعني أنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة وبإنكارها تلتحقون بهم وتبطلون مزاياكم فإن الجاحد بآية يكون كافراً
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِأايَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ

ثم قال تعالى وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ هذه درجة أخرى بعد ما تقدم على الترتيب وذلك لأن المجادل إذا ذكر مسألة مختلفاً فيها كقول القائل الزكاة تجب في مال الصغير فإذا قيل له لم فيقول كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر أولا الجامع بينهما فإن قنع الطالب بمجرد التشبيه وأدرك من نفسه الجامع فذاك وإن لم يدرك أو لم يقنع يبدي الجامع فيقول كلاهما مال فضل عن الحاجة فيجب فكذلك ههنا ذكر أولا التمثيل بقوله وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ( العنكبوت 47 ) ثم ذكر الجامع وهو المعجزة فقال ما علم كون تلك الكتب منزلة إلا بالمعجزة وهذا القرآن ممن لم يكتب ولم يقرأ عين المعجزة فيعرف كونه منزلاً وقوله تعالى إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ فيه معنى لطيف وهو أن النبي إذا كان قارئاً كاتباً ما كان يوجب كون هذا الكلام كلامه فإن جميع كتبة الأرض وقرائها لا يقدرون عليه لكن على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب وعلى ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل في الإبطال وهذا كقوله تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) أي من مثل محمد عليه السلام وكقوله الم ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 1 2 )
ثم قال تعالى بَلْ هُوَ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ قوله في صدور الذين أوتوا العلم إشارة إلى أنه ليس من مخترعات الآدميين لأن من يكون له كلام مخترع يقول هذا من قلبي وخاطري وإذا حفظه من غيره يقول إنه في قلبي وصدري فإذا قال فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ لا يكون من صدر أحد منهم والجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور ويلتحقون عنده هذه الأمة بالمشركين فظهوره من الله
ثم قال تعالى وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ قال ههنا الظالمون ومن قبل قال الكافرون مع أن الكافر ظالم ولا تنافي بين الكلامين وفيه فائدة وهي أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك كان بليغاً يمنعهم من ذلك لاستنكافهم عن الكفر ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أول الأمر بالمشركين حكما وتلتحقون عند هذه الآية بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي مشركين كما بينا أن الشرك ظلم عظيم فهذا اللفط ههنا أبلغ وذلك اللفظ هناك أبلغ
وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الاٌّ يَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ

لما فرغ من ذكر دليل من جانب النبي عليه السلام ذكر شبهتهم وهي بذكر الفرق بين المقيس عليه والمقيس فقالوا إنك تقول إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى وليس كذلك لأن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئاً منها ثم إن الله تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها قوله إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ووجهه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ادعى الرسالة وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة لأن الرسول يرسل أولا ويدعو إلى الله ثم إن توقف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلاً فالله إن رحمهم بين رسالته وإن لم يرحمهم لا يبين فقال أنا الساعة رسول وأما الآية فالله إن أراد ينزلها وإن لم يرد لا ينزلها وهذا لأن ما هو من ضرورات الشيء إذا خلق الله الشيء لا بد من أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق الله إنساناً إلا ويكون قد خلق مكاناً أو يخلقه معه لكن الرسالة والمعجزة ليستا كذلك فالله إذا خلق رسولا وجعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب ولم تعلم لهم معجزة فإن قيل علم رسالتهم نقول من ثبتت رسالته بلا معجزة فنبينا كذلك لا حاجة له إلى معجزة لأن رسالته علمت بقول موسى وعيسى فتبين بطلان قولهم لم لم ينزل عليه آية وهذا لأنهم طلبوا سبق الآية وليست شرطاً حتى تسبقها بلى إن كان لهم سؤال فطريقه أن يقولوا يا أيها المدعي نحن لا نكذبك ولا نصدقك لكنا نريد أن يبين الله لنا آية تخلصنا من تصديق المتنبي وتكذيب النبي ونعلم بها كونك نبياً ونؤمن بك فبعد ذلك ما كان يبعد من رحمة الله أن ينزل آية
ثم قوله وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ معناه أن الآية عند الله ينزلها أو لا ينزلها لا تتعلق بي ما أنا إلا نذير وليس لي عليه حكم بشيء ثم إنه بعد بيان فساد شبهتهم من وجه بين فسادها من وجه آخر وقال هب أن إنزال الآية شرط لكنه وجد وهو في نفس الكتاب
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَة ً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
فقال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ يعني إن كان إنزال الآية شرطاً فلا يشترط إلا إنزال آية وقد أنزل وهو القرآن فإنه معجزة ظاهرة باقية وقوله أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ عبارة تنبىء عن كون القرآن آية فوق الكفاية وذلك لأن القائل إذا قال أما يكفي للمسيء أن لا يضرب حتى يتوقع الإكرام ينبىء عن أن ترك الضرب في حقه كثير فكذلك قوله أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ وهذا لأن القرآن

معجزة أتم من كل معجزة تقدمتها لوجوه أحدهما أن تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعباناً وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر فلو لم يكن واحد يؤمن بكتب الله ويكذب بوجود هذه الأشياء لا يمكن إثباتها معه بدون الكتاب وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فنقول له فأت بآية من مثله الثاني هو أن قلب العصا ثعباناً كان في مكان واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد وههنا لطيفة وهي أن آيات النبي عليه السلام كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأن الخسوف إذا وقع عم وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر وغاضت بحيرة ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر وانهدت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمر عام الثالث هو أن غير هذه المعجزة الكافر المعاند يقول إنه سحر عمل بدواء والقرآن لا يمكن هذا القول فيه
ثم إنه تعالى قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَة ً إشارة إلى أنا جعلناه معجزة رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق وهذا لأنا بينا أن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله وكان له أن لا يظهر فيبقى الخلق في ورطة تكذيب الصادق أو تصديق الكاذب لأن النبي لا يتميز عن المتنبي لولا المعجزة لكن الله له ذلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقوله وَذِكْرَى إشارة إلى أنه معجزة باقية يتذكر بها كل من يكون ما بقي الزمان
ثم قال تعالى لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني هذه الرحمة مختصة بالمؤمنين لأن المعجزة كانت غضباً على الكافرين لأنها قطعت أعذارهم وعطلت إنكارهم
ثم قال تعالى قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً لما ظهرت رسالته وبهرت دلالته ولم يؤمن به المعاندون من أهل الكتاب قال كما يقول الصادق إذا كذب وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدق الله يعلم صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينكم كل ذلك إنذار وتهديد يفيده تقريراً وتأكيداً ثم بين كونه كافياً بكونه عالماً بجميع الأشياء فقال يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وههنا مسألة وهي أن الله تعالى قال في آخر الرعد وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) فأخر شهادة أهل الكتاب وفي هذه السورة قدمها حيث قال فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( العنكبوت 47 ) ومن هؤلاء من يؤمن به أي من أهل الكتاب فنقول الكلام هناك مع المشركين فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ثم إن شهادة الله أقوى في إلزامهم من شهادة غير الله وههنا الكلام مع أهل الكتاب وشهادة المرء على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم
ثم إنه تعالى لما بين الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكلام الشامل لهما والانذار العام فقال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي الذين آمنوا بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل لأنه هالك بقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) وكل ما هلك فقد بطل فكل هالك باطل وكل ما سوى الله باطل فمن آمن بما سوى الله فقد آمن بالباطل وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يقتضي الحصر أي من أتى بالإيمان بالباطل والكفر بالله

فهو خاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسراً فنقول يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر أما الآتي بالإيمان بما سوى الله فلأنه أشرك بالله فجعل غير الله مثل غيره لكن غيره عاجز جاهل ممكن باطل فيكون الله كذلك فيكون إنكاراً لله وكفراً به وأما من كفر به وأنكره فيكون قائلاً بأن العالم ليس له إله موجد فوجود العالم من نفسه فيكون قائلاً بأن العالم واجب والواجب إله فيكون قائلاً بأن غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به
المسألة الثانية إذا كان الإيمان بما سوى الله كفراً به فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي هو في قول القائل قم ولا تقعد واقرب مني ولا تبعد نقول نعم فيه فائدة غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أن القول باطل قبيح
المسألة الثالثة هل يتناول هذا أهل الكتاب أي هل هم آمنوا بالباطل وكفروا بالله نقول نعم لأنهم لما صح عندهم أن معجزة النبي من عند الله وقطعوا بها وعاندوا وقالوا إنها من عند غير الله يكون كمن رأى شخصاً يرمي حجارة فقال إن رامي الحجارة زيد يقطع بأنه قائل بأن هذا الشخص زيد حتى لو سئل عن عين ذلك الشخص وقيل له من هذا الرجل يقول زيد فكذلك هم لما قطعوا بأن مظهر المعجزة هو الله وقالوا بأن محمداً مظهر هذا يلزمهم أن يقولوا محمد هو الله تعالى فيكون إيماناً بالباطل وإذا قالوا بأن من أظهر المعجزة ليس بإله مع أنهم قطعوا بخصوص مظهر المعجزة يكونون قائلين بأن ذلك المخصوص الذي هو الله ليس بإله فيكون كفراً به وهذا لا يرد علينا فيمن يقول فلعل العبد مخلوق الله تعالى أو مخلوق العبد فإنه أيضاً ينسب فعل الله إلى الغير كما أن المعجزة فعل الله وهم نسبوها إلى غيره لأن هذا القائل جهل النسبة كمن يرى حجارة رميت ولم ير عين راميها فيظن أن راميها زيد فيقول زيد هو رامي هذه الحجارة ثم إذا رأى راميها بعينه ويكون غير زيد لا يقطع بأن يقول هو زيد وأما إذا رأى عينه ورميه للحجارة وقال رامي الحجارة زيد يقطع بأنه يقول هذا الرجل زيد فظهر الفرق من حيث إنهم كانوا معاندين عالمين بأن الله مظهر تلك المعجزة ويقولون بأنها من عند غير الله
ثم قوله هُمُ الْخَاسِرُونَ كذلك بأتم وجوه الخسران وهذا لأن من يخسر رأس المال ولا تركبه ديون يطالب بها دون من يخسر رأس المال وتركبه تلك الديون فهم لما عبدوا غير الله أفنوا العمر ولم يحصل لهم في مقابلته شيء ما أصلاً من المنافع واجتمع عليهم ديون ترك الواجبات يطالبون بها حيث لا طاقة لهم بها
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
لما أنذرهم الله بالخسران وهو أتم وجوه الإنذار لأن من خسر لا يحصل له في مقابلة قدر الخسران شيء من المنافع وإلا لما كان الخسران ذلك القدر بل دونه مثاله إذا خسر واحد من العشرة درهماً لا ينبغي أن يكون حصل له في مقابلة الدرهم ما يساوي نصف درهم وإلا لا يكون الخسران درهماً بل نصف درهم فإذن هم لما خسروا أعمارهم لا تحصل لهم منفعة تخفيف عذاب وإلا يكون ذلك القدر من العمر له منفعة

فيكون للخاسر عذاب أليم فقوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ تهديد عظيم فقالوا إن كان علينا عذاب فأتنا به إظهاراً لقطعهم بعدم العذاب ثم إنه أجاب بأن العذاب لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم لأنه أجله الله لحكمة ورحمة فلكونه حكيماً لا يكون متغيراً منقلباً ولكونه رحيماً لا يكون غضوباً منزعجاً ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته وارتضته رحمته لما كان له رحمة وحكمة فيكون غضوباً منقلباً فيتأثر باستعجالكم ويتغير من سؤالكم فيعجل وليس كذلك فلا يأتيكم بالعذاب وأنتم تسألونه ولا يدفع عنكم بالعذاب حين تستعيذون به منه كما قال تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا ( الحج 22 )
ثم قال تعالى وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَة ً اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم ليأتينهم العذاب بغتة لأن العذاب أقرب المذكورين ولأن مسئولهم كان العذاب فقال إنه ليأتينهم وقال بعضهم ليأتينهم بغتة أي الأجل لأن الآتي بغتة هو الأجل وأما العذاب بعد الأجل يكون معاينة وقد ذكرنا أن في كون العذاب أو الأجل آتياً بغتة حكمة وهي أنه لو كان وقته معلوماً لكان كل أحد يتكل على بعده وعلمه بوقته فيفسق ويفجر معتمداً على التوبة قبل الموت
قوله تعالى وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يحتمل وجهين أحدهما تأكيد معنى قوله بغتة كما يقول القائل أتيته على غفلة منه بحيث لم يدر فقوله بحيث لم يدر أكد معنى الغفلة والثاني هو كلام يفيد فائدة مستقلة وهي أن العذاب يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلاً
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ذكر هذا للتعجب وهذا لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة فيرى من نفسه الجلد ويقول باسم الله هات وأما من توعد بإغراق أو إحراق ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد لا يخطر ببال العاقل أن يقول له هات ما تتوعدني به فقال ههنا يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ والعذاب بنار جهنم المحيطة بهم فقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ أولاً إخبار عنهم وثانياً تعجب منهم ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم
فقال تعالى يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى لم خص الجانبين بالذكر ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدام فنقول لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع فإن من دخلها تكون الشعلة خلفه وقدامه ويمينه ويساره وأما النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة العاجلة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفىء بالدوس موضع القدم

المسألة الثانية قال مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ولم يقل من فوق رءوسهم ولا قال من فوقهم ومن تحتهم بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق فنقول لأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرءوس وسواء كان من موضع آخر عجيب فلهذا لم يخصه بالرأس وأما بقاء النار تحت القدم فحسب عجيب وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا يكون شعل وهي تحت فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدوس وما فوق على الإطلاق
ثم قال تعالى وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ذوقوا عذاب ما كنتم تعملون وجعل ذلك عين ما كانوا يعملون للمبالغة بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب فإن عملهم كان سبباً لجعل الله إياه سبباً لعذابهم وهذا كثير النظير في الاستعمال
ياعِبَادِى َ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَة ٌ فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ
وجه التعلق هو أن الله تعالى لما ذكر حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعوهم من العبادة فقال مخاطباً للمؤمنين تَعْمَلُونَ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَة ٌ فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ إن تعذرت العبادة عليكم في بعضها فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال وبهذا علم أن الجلوس في دار الحرب حرام والخروج منها واجب حتى لو حلف بالطلاق أنه لا يخرج لزمه الخروج و ( ر ) دع حتى يقع الطلاق ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى فِى عِبَادِى لم يرد إلا المخاطبة مع المؤمنين مع أن الكافر داخل في قوله فِى عِبَادِى نقول ليس داخلاً في قوله فِى عِبَادِى نقول ليس داخلاً فيه لوجوه أحدها أن من قال في حقه عِبَادِى ليس للشيطان عليهم سلطان بدليل قوله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يكون داخلاً في قوله فِى عِبَادِى الثاني هو أن الخطاب بعبادي أشرف منازل المكلف وذلك لأن الله تعالى لما خلق آدم آتاه اسماً عظيماً وهو اسم الخلافة كما قال تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) والخليفة أعظم الناس مقداراً وأتم ذوي البأس اقتداراً ثم إن إبليس لم يرهب من هذا الاسم ولم ينهزم بل أقدم عليه بسببه وعاداه وغلبه كما قال تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ( البقرة 36 ) ثم إن من أولاده الصالحين من سمى بعبادي فانخنس عنهم الشيطان وتضاءل كما قال تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) وقال هو بلسانه لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ فعلم أن المكلف إذا كان عبداً لله يكون أعلى درجة مما إذا كان خليفة لوجه الأرض ولعل آدم كداود الذي قال الله تعالى في حقه إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ ( ص 26 ) لم يتخلص من يد الشيطان إلا وقت ما قال الله تعالى في حقه عبدي وعندما ناداه بقوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) واجتباه بهذا النداء كما قال في حق داود وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ ( ص 17 ) إذا علم هذا فالكافر لا يصلح للخلافة فكيف يصلح لما هو أعظم من الخلافة فلا يدخل في قوله فِى عِبَادِى إلا المؤمن الثالث هو أن هذا الخطاب حصل للمؤمن

بسعيه بتوفيق الله وذلك لأن الله تعالى قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) فالمؤمن دعا ربه بقوله رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا ( الزمر 53 ) فأجابه الله تعالى بقوله قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ فالإضافة بين الله وبين العبد بقول العبد إلهي وقول الله عبدي تأكدت بدعاء العبد لكن الكافر لم يدع فلم يجب فلا يتناول يا عبادي غير المؤمنين
المسألة الثانية إذا كان عبادي لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون ويا أيها الرجال العقلاء تمييزاً عن الكافرين والجهال فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون والملائكة المطهرون مع أن كل نبي مكرم وكل ملك مطهر وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة ومثل هذا قولنا الله العظيم وزيد الطويل فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون
المسألة الثالثة إذ قال فِى عِبَادِى فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله فاعبدون فنقول فيه فائدتان إحداهما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَإيَّايَ تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك فنقول قوله إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَة ٌ إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني وأما الفاء في قوله تعالى فَاعْبُدُونِ فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك ههنا لما أعلم نفسه بقوله فَإيَّايَ وهو لنفسه يستحق العبادة قال فاعبدون
المسألة الخامسة قال العبد مثل هذا في قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقال عقيبه وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ والله تعالى وافقه في قوله فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ ولم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله فِى عِبَادِى لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة
المسألة السادسة قدم الله الإعانة وأخر العبد الاستعانة قلنا لأن العبد فعله لغرض وكل فعل لغرض فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك وذلك لأن من يبني بيتاً للسكنى يدخل في ذهنه أولاً فائدة السكنى فيحمله على البناء لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة فنقول الاستعانة من العبد لغرض فهي سابقة في إدراكه وأما الله تعالى فيس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود فإن الإعانة قبل العبادة
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَة ُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان فقال لهم إن ما

تكرهون لا بد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت والموت مفرق الأحباب فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه فإن إلى الله مرجعكم وفيه وجه أرق وأدق وهو أن الله تعالى قال كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ ( الدخان 56 ) إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت ومورد الهلاك بقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ وَكُلَّ شى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فإذاً التعلق بالله يريح من الموت فقال تعالى فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ أي تعلقوا بي ولا تتبعوا النفس فإنها ذائقة الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( العنكبوت 57 ) أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء ( آل عمران 169 ) وقال عليه السلام ( المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار ) فعلى هذا الوجه أيضاً يتبين وجه التعليق
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّة ِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ ( العنكبوت 54 ) فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران وبين أن فيها غرفاً تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله تعالى نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( العنبكوت 55 ) ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذاباً أي ناراً ولم يذكر ههنا فوقهم شيئاً وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف وذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار فيكون فوقه طبقات من النار فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين فلم يذكر فوقهم شيئاً إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم
وأما قوله تعالى لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ ( الزمر 20 ) لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم والنار فوق النار وهي فوقهم ومنها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء وذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقاً ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم وإن كانت تحتها أو تكون مسامتة ولكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم وأما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان وعلى أي بعد كان يكون ملتذاً به فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان ومنها أن هناك قال ذوقوا الإيلام قلوبهم بلفظ الأمر وقال ههنا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق بعده فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يهفم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه وأما

إذا قال ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده ولم يقل ههنا خذوا أجرتكم أيها العاملون وقال هناك ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع قلنا ليس كذلك لأن الله إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم وانقطع ما بينه وبينهم لكن يبقى عليهم ذلك دائماً ولا ينقص ولا يزداد وأما المؤمن إذا أعطاه شيئاً فلا يتركه مع ماأعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم وإليه الإشارة بقوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة والذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام وأما الخلود وإن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص
الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّة ٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
ذكر أمرين الصبر والتوكل لأن الزمان ماض وحاضر ومستقبل لكن الماضي لا تدارك له ولا يؤمر العبد فيه بشيء بقي الحاضر واللائق به الصبر والمستقبل واللائق به التوكيل فيصبر على ما يصيبه من الأذى في الحال ويتوكل فيما يحتاج إليه في الاستقبال
واعلم أن الصبر والتوكل صفتان لا يحصلان إلا مع العلم بالله والعلم بما سوى الله فمن علم ما سواه علم أنه زائل فيهون عليه الصبر إذ الصبر على الزائل هين وإذا علم الله علم أنه باق يأتيه بأرزاقه فإن فاته شيء فإنه يتوكل على حي باق وذكر الصبر والتوكل ههنا مناسب فإن قوله فِى عِبَادِى كان لبيان أنه لا مانع من العبادة ومن يؤذى في بقعة فليخرج منها فحصل الناس على قسمين قادر على الخروج وهو متوكل على ربه يترك الأوطان ويفارق الأخوان وعاجز وهو صابر على تحمل الأذى ومواظب على عبادة الله تعالى
ثم قال تعالى وَكَأَيّن مّن دَابَّة ٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
لما ذكر الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغد ويأتيها كل يوم برزق رغد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كأين لغات أربع ( لا ) غير هذه ( و ) كائن على وزن راع وكأين على وزن ريع وكي على دع ولم يقرأ إلا كأين وكائن قراءة ابن كثير
المسألة الثانية كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم ولم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن كأي يستعمل غير مركب كما يقول القائل رأيت رجلاً لا كأي رجل يكون فقد حذف المضاف إليه ويقال رأيت رجلاً لا كأي رجل وحينذ لا يكون كأي مركباً فإذا كان كأي ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز كما تكتب معد يكرب وبعلبك

موصولاً للفرق وكما تكتب ثمة بالهاء تمييزاً بينها وبين ثمت
المسألة الثالثة كأين بمعنى كم لم تستعمل مع من إلا نادراً وكم يستعمل كثيراً من غير من يقال كم رجلاً وكم من رجل وذلك لما بينا من الفرق بين كأين بمعنى كم وكأي التي ليست مركبة وذلك لأن كأي إذا لم تكن مركبة لا يجوز إدخال من بعدها إذ لا يقال رأيت رجلاً لا كأي من رجل والمركبة بمعنى كم يجوز ذلك فيها فالتزم للفرق قوله تعالى لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا قيل لا تحمل لضعفها وقيل هي كالقمل والبرغوث والدود وغيرها وقيل لا تدخر اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ بطريق القياس أي لا شك في أن رزقها ليس إلا بالله فكذلك يرزقكم فتوكلوا فإن قال قائل من قال بأن الله يرزق الدواب بل النبات في الصحراء مسبب والحيوان يسعى إليه ويرعى فنقول الدليل عليه من ثلاثة أوجه نظراً إلى الرزق وإلى المرتزق وإلى مجموع الرزق والمرتزق أما بالنظر إلى الرزق فلأن الله تعالى لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق وأما بالنظر إلى المرتزق فلأن الاغتذاء ليس بمجرد الابتلاع بل لا بد من تشبثه بالأعضاء حتى يصير الحشيش عظماً ولحماً وشحماً وما ذاك إلا بحكمة الله تعالى حيث خلق فيه جاذبة وماسكة وهاصمة ودافعة وغيرها من القوى وبمحض قدرة الله وإرادته فهو الذي يرزقها وأما بالنظر إلى المرتزق والرزق فلأن الله لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشم ما كان يحصل له اغتذاء ألا ترى أن من الحيوان ما لا يعرف نوعاً من أنواع الغذاء حتى يوضع في فمه بالشدة ليذوق فيأكله بعد ذلك فإن كثيراً ما يكون البعير لا يعرف الخمير ولا الشعير حتى يلقم مرتين أو ثلاثة فيعرفه فيأكله بعد ذلك فإن قال قائل كيف يصح قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكل والحيوان رزقه لا يتعرض إليه إذا أكل منه اليوم شيئاً وترك بقية يجدها غداً ما مد إليه أحد يداً والإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غداً شيء وأيضاً حاجات الإنسان كثيرة فإنه يحتاج إلى أجناس اللباس وأنواع الأطعمة ولا كذلك الحيوان وأيضاً قوت الحيوان مهيأ وقوت الإنسان يحتاج إلى كلف كالزرع والحصاد والطحن والخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة ما كان يجده وقت الحاجة فنقول نحن لا نقول إن الجمع يقدح في التوكل بل قد يكون الزارع الحاصد متوكلاً والراكع الساجد غير متوكل لأن من يزرع يكون اعتماده على الله واعتقاده في الله أنه إن كان يريد يرزق من غير زرع وإن كان يريد لا يرزق من ذلك الزرع فيعمل وقلبه مع الله هو متوكل حق التوكل ومن يصلي وقلبه مع ما في يد زيد وعمرو هو غير متوكل وأما قوله حاجات الإنسان كثيرة فنقول مكاسبه كثيرة أيضاً فإنه يكتسب بيده كالخياط والنساج وبرجله كالساعي وغيره وبعينه كالناطور وبلسانه كالحادي والمنادي وبفهمه كالمهندس والتاجر وبعلمه كالطبيب والفقيه وبقوة جسمه كالعتال والحمال والحيوان لا مكاسب له فالرغيف الذي يحتاج إليه الإنسان غداً أو بعد غد بعيد أن لا يرزقه الله مع هذه المكاسب فهو أولى بالتوكل وأيضاً الله تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق وأسبابه فإن الله ملك الإنسان عمائر الدنيا وجعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى حتى أن نتاج الأنعام وثمار الأشجار تدخل في الملك وإن لم يرده مالك النعم والشجر وإذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهراً شاؤا أم أبوا وليس كذلك حال الحيوان أصلاً فإن الحيوان إن لم يأت الرزق لا يأتيه رزقه فإذن الإنسان لو توكل كان أقرب إلى العقل من توكل الحيوان ثم قال وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ سميع إذا طلبتم الرزق يسمع ويجيب عليم إن سكتم لا تخفى عليه حاجتكم ومقدار حاجتكم

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
نقول لما بين الله الأمر للمشرك مخاطباً معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العنبكوت 56 ) وأتم الكلام معه ذكر معه ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن فإن السيد إذا كان له عبدان أو الوالد إذا كان له ولدان وأحدهما رشيد والآخر مفسد ينصح أولاً المفسد فإن لم يسمع يقول معرضاً عنه ملتفتاً إلى الرشيد إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا تكن مثل هذا المفسد فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح وزجر المفسد فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب يوجب نكاية في قلبه ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه إن هذا أخاك العجيب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف الفساد من الصلاح وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده يكون هذا الكلام أيضاً داعياً له إلى سبيل الرشاد مانعاً له من ذلك الفساد فكذلك الله تعالى قال مع المؤمن العجيب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ثم لا يؤمنون وفي الآية لطائف إحداها ذكر في السموات والأرض الخلق وفي الشمس والقمر التسخير وذلك لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء فإذاً الحكمة في تحريكهما وتسخيرهما الثانية في لفظ التسخير وذلك لأن التحريك يدل على مجرد الحركة وليس مجرد الحركة كافياً لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك بألوف من السنين فالحكمة في تسخيرهما تحركهما في قدر ما يتنفس الإنسان آلافاً من الفراسخ ثم لم يجعل لهما حركة واحدة بل حركات إحداها حركتها من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة والأخرى حركتها من المغرب إلى المشرق والدليل عليها أن الهلال يرى في جانب الغرب على بعد مخصوص من الشمس ثم يبعد منه إلى جانب الشرق حتى يرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشمس والشمس على أفق المغرب والقمر على أفق المشرق وحركة أخرى حركة الأوج وحركة المائل والتدوير في القمر ولولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول ثم اعلم أن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في الفلك مركوزة والفلك يديرها بدورانه وأنكره المفسرون الظاهريون ونحن نقول لا بعد في ذلك إن لم يقولوا بالطبيعة فإن الله تعالى فاعل مختار إن أراد أن يحركهما في الفلك والفلك ساكن يجوز وإن أراد أن يحركهما بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطع أو ظاهر وسنذكر تمام البحث في قوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ الثالثة ذكر أمرين أحدهما خلق السموات والأرض والآخر تسخير الشمس والقمر لأن الإيجاد قد يكون للذوات وقد يكون للصفات فخلق السموات والأرض إشارة إلى إيجاد الذوات وتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إيجاد الصفات وهي الحركة وغيرها فكأنه ذكر من القبيلين مثالين ثم قال تعالى فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني هم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله مع أن من علمت عظمته وجبت خدمته ولا عظمة فوق عظمة خالق السموات والأرض ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأن الجماد

دون الحيوان والحيوان دون الإنسان والإنسان دون سكان السموات فكيف يتركون عبادة أعظم الوجودات ويشتغلون بعبادات أخس الموجودات
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٍ
قوله تعالى اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لما بين الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الإنسان بالرزق فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاقه العبادة وهذه الأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه على الشأن والله الذي خلق السموات على الشأن جلي البرهان فله العبادة وإما لكونه ولي الإحسان والله يرزق الخلق فله الطول والإحسان والفضل والامتنان فله العبادة من هذا الوجه أيضاً قوله لِمَن يَشَاء إشارة إلى كمال الإحسان وذلك لأن الملك إذا أمر الخازن بإعطاء شخص شيئاً فإذا أعطاه يكون له منة ما يسيرة حقيرة لأن الآخذ يقول هذا ليس بإرادته وإنما هو بأمر الملك وأما إن كان مختاراً بأن قال له الملك إن شئت فأعطه وإن شئت فلا تعطه فإن أعطاه يكون له منة جليلة لا قليلة فقال الله تعالى الرزق منه وبمشيئته فهو إحسان تام يستوجب شكراً تاماً وقوله تعالى وَيَقْدِرُ لَهُ أي يضيق له إن أراد ثم قال تعالى أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وفي إثبات العلم ههنا لطائف إحداها أن الرازق الذي هو كامل المشيئة إذا رأى عبده محتاجاً وعلم جوعه لا يؤخر عنه الرزق ولا يؤخر الرازق الرزق إلا لنقصان في نفوذ مشيئته كالملك إذا أراد الاطعام والطعام لا يكون بعد قد استوى أو لعدم علمه بجوع العبيد الثانية وهي أن الله بإثبات العلم استوعب ذكر الصفات التي هي صفات الإله ومن أنكرها كفر وهي أربعة الحياة والقدرة والإرادة والعلم وأما السمع والبصر والكلام القائم به من ينكرها يكون مبتدعاً لا كافراً وقد استوفى الأربع لأن قوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى كمال القدرة وقوله يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء إشارة إلى نفوذ مشيئته وإرادته وقوله أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ إشارة إلى شمول علمه والقادر المريد العالم لا يتصور إلا حياً ثم إنه تعالى لما قال اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ ذكر اعترافهم بذلك فقال
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
يعني هذا سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله ثم قال تعالى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون كلاماً معترضاً في أثناء كلام كأنه قال فأحيا به الأرض من بعد موتها

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فذكر في أثناء هذا الكلام الْحَمْدُ لذكر النعمة كما قال القائل إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
الثاني أن يكون المراد منه كلاماً متصلاً وهو أنهم يعرفون بأن ذلك من الله ويعترفون ولا يعملون بما يعلمون وأنت تعلم وتعمل فكذلك المؤمنون بك فقل الحمد لله وأكثرهم لا يعقلون أن الحمد كله لله فيحمدون غير الله على نعمة هي من الله الثالث أن يكون المراد أنهم يقولون إنه من الله ويقولون بإلهية غير الله فيظهر تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ على ظهور تناقضهم وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ هذا التناقض أو فساد هذا التناقض
وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاٌّ خِرَة َ لَهِى َ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
لما بين أنهم يعترفون بكون الله هو الخالق وكونه هو الرزاق وهم يتركون عبادته ولا يتركونها إلا لزينة الحياة الدنيا بين أن ما يميلون إليه ليس بشيء بقوله وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفرق بين اللهو واللعب حتى يصح عطف أحدهما على الآخر فنقول الفرق من وجهين أحدهما أن كل شغل يفرض فإن المكلف إذا أقبل عليه لزمه الإعراض عن غيره ومن لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فالذي يقبل على الباطل للذة يسيرة زائلة فيه يلزمه الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو فالدنيا لعب أي إقبال على الباطل ولهو أي إعراض عن الحق الثاني هو أن المشتغل بشيء يرجح ذلك الشيء على غيره لا محالة حتى يشتغل به فإما أن يكون ذلك الترجيح على وجه التقديم بأن يقول أقدم هذا وذلك الآخر آتي به بعده أو يكون على وجه الاستغراق فيه والإعراض عن غيره بالكلية فالأول لعب والثاني لهو والدليل عليه هو أن الشطرنج والحمام وغيرهما مما يقرب منهما لا تسمى آلات الملاهي في العرف والعود وغيره من الأوتار تسمى آلات الملاهي لأنها تلهي الإنسان عن غيرها لما فيها من اللذة الحالية فالدنيا للبعض لعب يشتغل به ويقول بعد هذا الشغل أشتغل بالعبادة والآخرة وللبعض لهو يشتغل به وينسى الآخرة بالكلية
المسألة الثانية قال الله تعالى في سورة الأنعام وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا ( آل عمران 185 ) ولم يقل وما هذه الحياة وقال ههنا وَمَا هَاذِهِ فنقول لأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا حيث قال تعالى فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا ( البقرة 164 ) فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ( الأنعام 31 ) فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا
المسألة الثالثة قال هناك إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وقال ههنا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ فنقول لما كان المذكور هناك من قبل الآخرة وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوقت يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد وأما ههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق

فيها اللهم إلا لمانع يمنعه من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها ولعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً فكان ههنا الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو
المسألة الرابعة قال هناك وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ ( الأنعام 32 ) وقال ههنا وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَة َ لَهِى َ الْحَيَوَانُ فنقول لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى رادع قوي فقال الآخرة خير ولما كان ههنا الحال حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى رادع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا كما أن العاقل إذا عرض عليه شيئان فقال في أحدهما هذا خير من ذلك يكون هذا ترجيحاً فحسب ولو قال هذا جيد وهذا الآخر ليس بشيء يكون ترجيحاً مع المبالغة فكذلك ههنا بالغ لكون المكلف متوغلاً فيها
المسألة الخامسة قال هناك خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ( الأعراف 169 ) ولم يقل ههنا إلا لهي الحيوان لأن الآخرة خير للمتقي فحسب أي المتقي عن الشرك وأما الكافر فالدنيا جنته فهي خير له من الآخرة وأما كون الآخرة باقية فيها الحياة الدائمة فلا يختص بقوم دون قوم
المسألة السادسة كيف أطلق الحيوان على الدار الآخرة مع أن الحيوان نام مدرك فنقول الحيوان مصدر حي كالحياة لكن فيها مبالغة ليست في الحياة والمراد بالدار الآخرة هي الحياة الثانية فكأنه قال الحياة الثانية هي الحياة المعتبرة أو نقول لما كانت الآخرة فيها الزيادة والنمو كما قال تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) وكانت هي محل الإدراك التام الحق كما قال تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 ) أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك
المسألة السابعة قال في سورة الأنعام أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( البقرة 76 ) وقال ههنا لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وذلك لأن المثبت هناك كون الآخرة خيراً وأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت ههنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع
فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ
إشارة إلى أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا وبيان ذلك هو أنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا فإذا أنجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ
ثم قال تعالى لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ وفيه وجهان أحدهما أن اللام لام كي أي يشركون ليكون إشراكهم كفراً بنعمة الإنجاء وليتمتعوا بسبب الشرك فسوف يعلمون بوبال عملهم حين زوال أملهم والثاني أن تكون اللام لام الأمر ويكون المعنى ليكفروا على التهديد كما قال تعالى

اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( فصلت 40 ) وكما قال اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( الأنعام 135 ) فساد ما تعملون
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ
التفسير ظاهر وإنما الدقيق وجه تعلق الآية بما قبلها فنقول الإنسان في البحر يكون على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين حالهم عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله تعالى ذكرهم حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم وهي حصين بحصن الله حيث كل من حولها يمتنع من قتال من حصل فيها والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس ويكفها يعني أنكم في أخوف ما كنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير فهذه النعمة العظيمة التي حصلت وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله كيف تكفرون بها والأصنام التي قطعتم في حال الخوف أن لا أمن منها كيف آمنتم بها في حال الأمن
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
لما بين الله الأمور على الوجه المذكور ولم يؤمن به أحد بين أنهم أظلم من يكون لأن الظلم على ما بين وضع الشيء في غير موضعه فإذا وضع واحد شيئاً في موضع ليس هو موضعه يكون ظالماً فإذا وضعه في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول لأن كل ما لا يمكن لا يحصل وليس كل ما لا يحصل لا يمكن فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك وجعلوا له شريكاً فلو كان ذلك في حق ملك مستقل في الملك لكان ظلماً يستحق من الملك العقاب الأليم فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك وأيضاً من كذب صادقاً يجوز عليه الكذب يكون ظلماً فمن يكذب صادقاً لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله فإذا ليس أظلم ممن يكذب على الله بالشرك ويكذب الله في تصديق نبيه والنبي في رسالة ربه والقرآن المنزل من الله إلى الرسول والعجب من المشركين أنهم قبلوا المتخذ من خشب منحوت بالإلهية ولم يقبلوا ذا حسب منعوت بالرسالة والآية تحتمل وجهاً آخر وهو أن الله تعالى لما بين التوحيد والرسالة والحشر وقرره ووعظ وزجر قال لنبيه ليقول للناس وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً

أي إني جئت بالرسالة وقلت إنها من الله وهذا كلام الله وأنتم كذبتموني فالحال دائر بين أمرين أما أنا مفتر متنبىء إن كان هذا من عند غير الله أو أنتم مكذبون بالحق إن كان من عنده لكني معترف بالعذاب الدائم عارف به فلا أقدم على الافتراء لأن جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ ( الزمر 32 ) والمتنبىء كافر وأنتم كذبتموني فجهنم مثواكم إذ هي مثوى للكافرين وهذا حيئنذٍ يكون كقوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 )
وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
لما فرغ من التقرير والتقريع ولم يؤمن الكفار سلى قلوب المؤمنين بقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى ما قال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ فقوله لَنَهْدِيَنَّهُمْ إشارة إلى الحسنى وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته وفيه وجه آخر حكمي وهو أن يكون المعنى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا أي الذين نظروا في دلائلنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا أي لنحصل فيهم العلم بنا ولنبين هذا فضل بيان فنقول أصحابنا المتكلمون قالوا إن النظر كالشرط للعلم الاستدلالي والله يخلق في الناظر علماً عقيب نظره ووافقهم الفلاسفة على ذلك في المعنى وقالوا النظر معد للنفس لقبول الصورة المعقولة وإذا استعدت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانية والعقلية وعلى هذا يكون الترتيب حسناً وذلك لأن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تفدهم العلم والإيمان قال إنهم لم ينظروا فلم يهتدوا وإنما هو هدى للمتقين الذين يتقون التعصب والعناد فينظرون فيهديهم وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنه تعالى قال من الناس من يكون بعيداً لا يتقرب وهم الكفار ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم ويقربهم ومنهم من يكون الله معه ويكون قريباً منه يعلم الأشياء منه ولا يعلمه من الأشياء ومن يكون مع الشيء كيف يطلبه فقوله وَمَنْ أَظْلَمُ إشارة إلى الأول وقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا إشارة إلى الثاني وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى الثالث
والله أعلم بأسرار كتابه والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين

سورة الروم
ستون آية مكية ( إلا آية 17 فمدنية نزلت بعد الانشقاق )
ال م غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاٌّ مْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
وجه تعلق أول هذه السورة بما قبلها يتبين منه سبب النزول فنقول لما قال الله تعالى في السورة المتقدمة وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( البقرة 171 ) وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله كما قال وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ ( العنكبوت 46 ) وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله بل كثير منهم كانوا مؤمنين به كما قال وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( العنكبوت 47 ) أي أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور فلما وقعت الكرة عليهم حين قاتلهم الفرس المجوس فرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق بل الله تعالى قد يريد مزيد ثواب في المحب فيبتليه ويسلط عليه الأعادي وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد للمعادي وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في افتتاح هذه السورة بحروف التهجي فنقول قد سبق منا أن كل سورة افتتحت بحروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كما في قوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 ) المص كِتَابٌ ( الأعراف 1 ) طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( طه 1 2 ) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( فصلت 2 ) يس وَالْقُرْءانِ ( يس 1 2 ) ص وَالْقُرْءانِ ( ص 1 ) إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت وقد ذكرنا ما الحكمة فيهما في موضعهما

فنقول ما يتعلق بهذه السور وهو أن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت وهذه ذكر في أولها ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع ثم ترد عليه المعجزة وتقرع الأسماع
المسألة الثانية قوله تعالى فِى أَدْنَى الاْرْضِ أي أرض العرب لأن الألف واللام للتعريف والمعهود عندهم أرضهم وقوله تعالى وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ أية فائدة في ذكره مع أن قوله سَيَغْلِبُونَ بعد قوله غُلِبَتِ الرُّومُ لا يكون إلا من بعد الغلبة فنقول الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا دل على أن ذلك بأمر الله فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم وإنما ذلك بأمر الله تعالى وقوله فِى أَدْنَى الاْرْضِ لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله
المسألة الثالثة قال تعالى فِى بِضْعِ سِنِينَ قيل هي ما بين الثلاثة والعشرة أبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم فنقول السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله تعالى وبينها لنبيه وما أذن له في إظهارها لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في كلامه ولما وردت الآية ذكر أبو بكر رضي الله عنه أن الروم ستغلب وأنكره أبي بن خلف وغيره وناحبوا أبا بكر أي خاطروه على عشرة قلائص إلى ثلاث سنين فقال عليه السلام لأبي بكر البضع ما بين الثلاثة والعشرة فزايده في الإبل وماده في الأجل فجعلا القلائص مائة والأجل سبعاً وهذا يدل على علم النبي عليه السلام بوقت الغلبة
( قوله تعالى لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ )
ثم قال تعالى لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ أي من قبل الغلبة ومن بعدها أو من قبل هذه المدة ومن بعدها يعني إن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة وبنيا على الضم لما قطعا عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتحة والكسرة يشتبه بما يدخل عليهما وهو النصب والجر أما النصب ففي قولك جئت قبله أو بعده وأما الجر ففي قولك من قبله ومن بعده فنياً على الضم لعدم دخول مثلهما عليه في الإعراب وهو الرفع وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ قيل يفرحون بغلبة الروم على الفرس كما فرح المشركون بغلبة الفرس على الروم والأصح أنهم يفرحون بغلبتهم المشركين وذلك لأن غلبة الروم كانت يوم غلبة المسلمين المشركين ببدر ولو كان المراد ما ذكروه لما صح لأن في ذلك اليوم بعينه لم يصل إليهم خبر الكسر فلا يكون فرحهم يومئذٍ بل الفرح يحصل بعده

بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاٌّ خِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ
قوله تعالى بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء قدم المصدر على الفعل حيث قال بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ ( الأنفال 62 ) وقدم الفعل على المصدر في قوله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ وذلك لأن المقصود ههنا بيان أن النصرة بيد الله إن أراد نصر وإن لم يرد لا ينصر وليس المقصود النصرة ووقوعها والمقصود هناك إظهار النعمة عليه بأنه نصره فالمقصود هناك الفعل ووقوعه فقدم هناك الفعل ثم بين أن ذلك الفعل مصدره عند الله والمقصود ههنا كون المصدر عند الله إن أراد فعل فقدم المصدر
ثم قال تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ذكر من أسمائه هذين الإسمين لأنه إن لم ينصر المحب بل سلط العدو عليه فذلك لعزته وعدم افتقاره وإن نصر المحب فذلك لرحمته عليه أو نقول إن نصر الله المحب فلعزته واستغنائه عن العدو ورحمته على المحب وإن لم ينصر المحب فلعزته واستغنائه عن المحب ورحمته في الآخرة واصلة إليه
ثم قال تعالى وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ يعني سيغلبون وعدهم الله وعداً ووعد الله لا خلف فيه قوله تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون وعده وأنه لا خلف في وعده
ثم قال تعالى يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا يعني علمهم منحصر في الدنيا وأيضاً لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهي ملاذها وملاعبها ولا يعلمون باطنها وهي مضارها ومتاعبها ويعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها وَهُمْ عَنِ الاْخِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ والمعنى هم عن الآخرة غافلون وذكرت هم الثانية لتفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهذا كما يقول القائل لغيره غفلت عن أمري فإذا قال هو شغلني فلان فيقول ما شغلك ولكن أنت اشتغلت
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
قوله تعالى أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ لما صدر من الكفار الإنكار بالله عند إنكار وعد الله وعدم الخلف فيه كما قال تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( الأعراف 187 ) والإنكار بالحشر كما قال تعالى وَهُمْ عَنِ الاْخِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ ( الروم 7 ) بين أن الغفلة وعدم العلم منهم بتقدير الله وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهو ( أن ) أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وحدانية الله وصدقوا بالحشر أما الوحدانية فلأن الله خلقهم على

أحسن تقويم ولنذكر من حسن خلقهم جزأ من ألف ألف جزء وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها ينهضم غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه والآخر لخروج الطعام منه فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة ولا بالرشح وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجاً صالحاً ثم يخرج من المنفذ الآخر وخلق تحت المعدة عروقاً دقاقاً صلاباً كالمصفاة التي يصفى بها الشيء فينزل منها الصافي إلى الكبد وينصب الثفل إلى معى مخلوق تحت المعدة مستقيم متوجهاً إلى الخروج وما يدخل في الكبد من العروق المذكورة يسمى الماساريقا بالعبرية والعبرية عربية مفسودة في الأكثر يقال لموسى ميشا وللاله إيل إلى غير ذلك فالماساريقا معناها ماساريق اشتمل عليه الكبد وأنضجه نضجاً آخر ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق وينذرق في العروق الدقاق المذكورة وفي الكبد يستغني عن ذلك الماء فيتميز عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول والجداول إلى سواق والسواقي إلى رواضع ويصل فيها إلى جميع البدن فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان وهذه كفاية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً شاملاً علمه ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عند إرادة شريكه ضد ما أراده وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال وأجزاءه مائلة إلى الانحلال فله فناء ضروري فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه للفناء عبثاً وإليه أشار بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) وهذا ظاهر لأن من يفعل شيئاً للعبث فلو بالغ في إحكامه وإتقانه يضحك منه فإذا خلقه للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الآفاق فقال مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ( الروم 8 ) فقوله إِلاَّ بِالْحَقّ إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِلْمُؤْمِنِينَ ( العنكبوت 44 ) ونعيده فإن التكرير في الذهن يفيد التقرير لذي الذهن فنقول إذا كان بالحق لا يكون فيها بطلان فلا يكون فيها فساد لأن كل فاسد باطل وإذا لم يكن فيها فساد لا تكون آلهة وإلا لكان فيها فساد كما قال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وقوله وَأَجَلٌ مُّسَمًّى يذكر بالأصل الآخر الذي أنكروه
ثم قال تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ يعني لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء إما في إسعاد أو شقاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قدم ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وفي قوله تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) قدم دلائل الآفاق وذلك لأن المفيد إذا أفاد فائدة يذكرها على وجه جيد يختاره فإن فهمه السامع المستفيد فذلك وإلا يذكرها على وجه أبين منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً فالمذكور من المفيد آخراً مفهوم عند السامع أولاً إذا علم هذا فنقول ههنا الفعل كان منسوباً إلى السامع حيث قال أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً وأما في قوله سَنُرِيهِمْ الأمر منسوب إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق فإن لم يفهموه فالأنفس لأن دلائل الأنفس

لا ذهول للإنسان عنها وهذا الترتيب مراعى في قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( آل عمران 191 ) أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بدلائل الآفاق
المسألة الثانية وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو فنقول وقوع تخريب السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبداً كما أنه يبقى الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً والخلق دليل إمكان العدم لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم فإذا أخبر الصادق عن أمر له إمكان وجب على العاقل التصديق والإذعان ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعباً ولهواً كما بين بقوله تعالى وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ( العنبكوت 64 ) وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث والعبث ليس بحق وخلق السموات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه
المسألة الثالثة قال ههنا كَثِيراً مّنَ النَّاسِ وقال من قبل وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وذلك لأنه من قيل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدلائل لا بد من أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو فقال بعد إقامة الدليل وَإِنَّ كَثِيرًا وقبله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ ثم بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه والدليل الذي لا يقع الذهول عنه وإن إمكن هو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم وحكاية أشكالهم
أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة ً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
وقال في الدليلين المتقدمين أَوَلَمْ يَرَوْاْ ولم يقل أَوَلَمْ يَسيرُواْ إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض وقال ههنا أَوَلَمْ يَسيرُواْ فَيَنظُرُواْ ذكرهم بحال أمثالهم ووبال أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدم من عاد وثمود كانوا أشد منهم قوة ولم تنفعهم قواهم وكانوا

أكثر مالاً وعمارة ولم يمنع عنهم الهلاك أموالهم وحصونهم واعلم أن اعتماد الإنسان على ثلاثة أشياء قوة جسمية فيه أو في أعوانه إذ بها المباشرة وقوة مالية إذ بها التأهب للمباشرة وقوة ظهرية يستند إليها عند الضعف والفتور وهي بالحصون والعمائر فقال تعالى كانوا أشد منهم قوة في الجسم وأكثر منهم مالاً لأنهم أثاروا الأرض أي حرثوها ومنه بقرة تثير الأرض وقيل منه سمي ثوراً وأنتم لا حراثة لكم فأموالهم كانت أكثر وعمارتهم كانت أكثر لأن أبنيتهم كانت رفيعة وحصونهم منيعة وعمارة أهل مكة كانت يسيرة ثم هؤلاء جاءتهم رسلهم بالبينات وأمروهم ونهوهم فلما كذبوا أهلكوا فكيف أنتم وقوله فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يعني لم يظلمهم بالتكليف فإن التكليف شريف لا يؤثر له إلا محل شريف ولكن هم ظلموا أنفسهم بوضعها في موضع خسيس وهو عبادة الأصنام واتباع إبليس فكأن الله بالتكليف وضعهم فيما خلقوا له وهو الربح لأنه تعالى قال خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم والوضع في ( أي ) موضع كان الخلق له ليس بظلم وأما هم فوضعوا أنفسهم في مواضع الخسران ولم يكونوا خلقوا إلا للربح فهم كانوا ظالمين وهذا الكلام منا وإن كان في الظاهر يشبه كلام المعتزلة لكن العاقل يعلم كيف يقوله أهل السنة وهو أن هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه كان منهم ومضافاً إليهم
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَة َ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّو ءَى أَن كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ
ثم قال تعالى ثُمَّ كَانَ عَاقِبَة َ الَّذِينَ أَسَاءواْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَة َ الَّذِينَ أَسَاءواْ السُّوءى أَن كما قال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) وقوله تعالى أَن كَذَّبُواْ قيل معناه بأن كذبوا أي كان عاقبتهم ذلك بسبب أنهم كذبوا وقيل معناه أساءوا وكذبوا فكذبوا يكون تفسيراً لأساؤا وفي هذه الآية لطائف إحداها قال في حق الذين أحسنوا لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وقال في حق من أساء ثُمَّ كَانَ عَاقِبَة َ الَّذِينَ إشارة إلى أن الجنة لهم من ابتداء الأمر فإن الحسنى اسم الجنة والسوآى اسم النار فإذا كانت الجنة لهم ومن الابتداء ومن له شيء كلما يزداد وينمو فيه فهو له لأن ملك الأصل يوجب ملك الثمرة فالجنة من حيث خلقت تربو وتنمو للمحسنين وأما الذين أساؤا فالسوآى وهي جهنم في العاقبة مصيرهم إليها الثانية ذكر الزيادة في حق المحسن ولم يذكر الزيادة في حق المسيء لأن جزاء سيئة سيئة مثلها الثالثة لم يذكر في المحسن أن له الحسنى بأنه صدق وذكر في المسيىء أن له السوأى بأنه كذب لأن الحسنى للمحسنين فضل والمتفضل لو لم يكن تفضله لسبب يكون أبلغ وأما السوآى للمسيىء عدل والعادل إذا لم يكن تعذيبه لسبب لا يكون عدلاً فذكر السبب في التعذيب وهو الإصرار على التكذيب ولم يذكر السبب في الثواب
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
لما ذكر أن عاقبتهم إلى الجحيم وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال يبدأ الخلق يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة فإليه ترجعون ثم بين ما يكون وقت الرجوع إليه فقال
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ
في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم والإبلاس يأس مع حيرة يعني يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو إحدى الراحتين وهذا لأن الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمراً غير

ضروري يستريح الطامع من الانتظار وإن كان ضرورياً بالإبقاء له بوونه ينفطر فؤاده أشد انفطار ومثل هذا اليأس هو الإبلاس ولنبين حال المجرم وإبلاسه بمثال وهو أن نقول مثله مثل من يكون في بستان وحواليه الملاعب والملاهي ولديه ما يفتخر به ويباهي فيخبره صادق بمجيء عدو لا يرده راد ولا يصده صاد إذا جاءه لا يبلعه ريقاً ولا يترك له إلى الخلاص طريقاً فيتحتم عليه الاشتغال بسلوك طريق الخلاص فيقول له طفل أو مجنون إن هذه الشجرة التي أنت تحتها لها من الخواص دفع الأعادي عمن يكون تحتها فيقبل ذلك الغافل على استيفائه ملاذه معتمداً على الشجرة بقول ذلك الصبي فيجيئه العدو ويحيط به فأول ما يريه من الأهوال قلع تلك الشجرة فيبقى متحيراً آيساً مفتقراً فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللذات وأخبره النبي الصادق بأن الله يجزيه ويأتيه عذاب يخزيه فقال له الشيطان والنفس الأمارة بالسوء إن هذه الأخشاب التي هي الأوثان دافعة عنك كل بأس وشافعة لك عند خمود الحواس فاشتغل بما هو فيه واستمر على غيه حتى إذا جاءته الطامة الكبرى فأول ما أرته إلقاء الأصنام في النار فلا يجد إلى الخلاص من طريق ويحق عليه عذاب الحريق فييأس حينئذٍ أي إياس ويبلس أشد إبلاس وإليه الإشارة بقوله تعالى يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ( الروم 13 ) يعني يكفرون بهم ذلك اليوم
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ
ثم بين أمراً آخر يكون في ذلك اليوم وهو الافتراق كما قال تعالى في آية أخرى وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فكأن هذه الحالة مترتبة على الإبلاس فكأنه أولاً يبلس ثم يميز ويجعل فريق في الجنة وفريق في السعير وأعاد قوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ لأن قيام الساعة أمر هائل فكرره تأكيداً للتخويف ومنه اعتاد الخطباء تكرير يوم القيامة في الخطب لتذكير أهواله
فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة ٍ يُحْبَرُونَ
ثم بين كيفية التفرق فقال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة ٍ يُحْبَرُونَ أي في جنة يسرون بكل مسرة
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَّخِرَة ِ فَأُوْلَائِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
يعني لا غيبة لهم عنه ولا فتور له عندهم كما قال تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وقال لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ( آل عمران 88 ) وفي الآيتين مسائل فيها لطائف
المسألة الأولى بدأ بذكر حال الذين آمنوا مع أن الموضع موضع ذكر المجرمين وذلك لأن المؤمن يوصل إليه الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب فيكون أنكى ولو أدخل الكافر النار أولاً لكان يظن أن الكل في العذاب مشتركون فقدم ذلك زيادة في إيلامهم

المسألة الثانية ذكر في المؤمن العمل الصالح ولم يذكر في الكافر العمل السيىء لأن العمل الصالح معتبر مع الإيمان فإن الإيمان المجرد مفيد للنجاة دون رفع الدرجات ولا يبلغ المؤمن الدرجة العالية إلا بإيمانه وعمله الصالح وأما الكافر فهو في الدركات بمجرد كفره فلو قال والذين كفروا وعملوا السيئات في العذاب محضرون لكان العذاب لمن يصدر منه المجموع فإن قيل فمن يؤمن ويعمل السيئات غير مذكور في القسمين فنقول له منزلة بين المنزلتين لا على ما يقوله المعتزلة بل هو في الأول في العذاب ولكن ليس من المحضرين دوام الحضور وفي الآخرة هو في الرياض ولكنه ليس من المحبورين غاية الحبور كل ذلك بحكم الوعد
المسألة الثالثة قال في الأول فِى رَوْضَة ٍ على التنكير وقال في الآخر في العذاب على التعريف لتعظيم الروضة بالتنكير كما يقال لفلان مال وجاه أي كثير وعظيم
المسألة الرابعة قال في الأول يُحْبَرُونَ بصيغة الفعل ولم يقل محبورون وقال في الآخر مُحْضَرُونَ بصيغة الاسم ولم يقل يحضرون لأن الفعل ينبىء عن التجدد والاسم لا يدل عليه فقوله يُحْبَرُونَ يعني يأتيهم كل ساعة أمر يسرون به وأما الكفار فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَى ِّ وَيُحْى ِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
لما بين الله تعالى عظمته في الابتداء بقوله مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الروم 8 ) وعظمته في الانتهاء وهو حين تقوم الساعة ويفترق الناس فريقين ويحكم على البعض بأن هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي أمر بتنزيهه عن كل سوء ويحمده على كل حال فقال فَسُبْحَانَ اللَّهِ أي سبحوا الله تسبيحاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في معنى سبحان الله ولفظه أما لفظه ففعلان اسم للمصدر الذي هو التسبيح سمي التسبيح بسبحان وجعل علماً له وأما المعنى فقال بعض المفسرين المراد منه الصلاة أي صلوا وذكروا أنه أشار إلى الصلوات الخمس وقال بعضهم أراد به التنزيه أي نزهوه عن صفات النقص وصفوه بصفات الكمال وهذا أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الأول وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعاً وهو العمل الصالح والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئاً ظهر

من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله وأفعاله واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان وهو تنزيه في التحقيق فإذا قال نزهوني وهذا نوع من أنواع التنزيه والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه فيكون أيضاً هذا أمراً بالصلاة ثم إن قولنا يناسب ما تقدم وذلك لأن الله تعالى لما بين أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل الصالحات حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة ٍ يُحْبَرُونَ ( الروم 15 ) قال إذا علمتم أن ذلك المقام لمن آمن وعمل الصالحات والإيمان تنزيه بالجنان وتوحيد باللسان والعمل الصالح استعمال الأركان والكل تنزيهات وتحميدات فسبحان الله أي فأتوا بذلك الذي هو الموصل إلى الحبور في الرياض والحضور على الحياض
المسألة الثانية خص بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح وذلك لأن أفضل الأعمال أدومها لكن أفضل الملائكة ملازمون للتسبيح على الدوام كما قال تعالى يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( الأنبياء 20 ) والإنسان ما دام في الدنيا لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجاً إلى أكل وشرب وتحصيل مأكول ومشروب وملبوس ومركوب فأشار الله تعالى إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح الله فيها يكون كأنه لم يفتر وهي الأول والآخر والوسط أول النهار وآخره ووسطه فأمر بالتسبيح في أول الليل ووسطه ولم يأمر بالتسبيح في آخر الليل لأن النوم فيه غالب والله منَّ على عباده بالاستراحة بالنوم كما قال وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ ( الروم 23 ) فإذا صلى في أول النهار تسبيحتين وهما ركعتان حسب له صرف ساعتين إلى التسبيح ثم إذا صلى أربع ركعات وقت الظهر حسب له صرف أربع ساعات أخر فصارت ست ساعات وإذا صلى أربعاً في أواخر النهار وهو العصر حسب له أربع أخرى فصارت عشر ساعات فإذا صلى المغرب والعشاء سبع ركعات أخر حصل له صرف سبع عشرة ساعة إلى التسبيح وبقي من الليل والنهار سبع ساعات وهي ما بين نصف الليل وثلثيه لأن ثلثيه ثمان ساعات ونصفه ست ساعات وما بينهما السبع وهذا القدر لو نام الإنسان فيه لكان كثيراً وإليه أشار تعالى بقوله قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( المزمل 2 4 ) وزيادة القليل على النصف هي ساعة فيصير سبع ساعات مصروفة إلى النوم والنائم مرفوع عنه القلم فيقول الله عبدي صرف جميع أوقات تكليفه في تسبيحي فلم يبق لكم أيها الملائكة عليهم المزية التي ادعيتم بقولكم نَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) على سبيل الانحصار بل هم مثلكم فمقامهم مثل مقامكم في أعلى عليين واعلم أن في وضع الصلاة في أوقاتها وعدد ركعاتها واختلاف هيئاتها حكمة بالغة أما في عدد الركعات فما تقدم من كون الإنسان يقظان في سبع عشرة ساعة ففرض عليه سبع عشرة ركعة وأما على مذهب أبي حنيفة حيث قال بوجوب الوتر ثلاث ركعات وهو أقرب للتقوى فنقول هو مأخوذ من أن الإنسان ينبغي أن يقلل نومه فلا ينام إلا ثلث الليل مأخوذاً من قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ويفهم من هذا أن قيام ثلثي الليل مستحسن مستحب مؤكد باستحباب ولهذا قال عقيبه عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ( المزمل 20 ) ذكر بلفظ التوبة وإذا كان كذلك يكون الإنسان يقظان في عشرين ساعة فأمر بعشرين ركعة وأما النبي عليه السلام فلما كان من شأنه أن لا ينام أصلاً كما قال ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) جعل له كل الليل كالنهار فزيد له التهجد فأمر به وإلى هذا أشار تعالى في قوله وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ( الإنسان 26 ) أي كل الليل لك

للتسبيح فصار هو في أربع وعشرين ساعة مسبحاً فصار من الذين لا يفترون طرفة عين وأما في أوقاته فما تقدم أيضاً أن الأول والآخر والوسط هو المعتبر فشرع التسبيح في أول النهار وآخره وأما الليل فاعتبر أوله ووسطه كما اعتبر أول النهار ووسطه وذلك لأن الظهر وقته نصف النهار والعشاء وقته نصف الليل لأنا بينا أن الليل المعتبر هو المقدار الذي يكون الإنسان فيه يقظان وهو مقدار خمس ساعات فجعل وقته في نصف هذا القدر وهو الثلاثة من الليل وأما أبو حنيفة لما رأى وجوب الوتر كان زمان النوم عنده أربع ساعات وزمان اليقظة بالليل ثمان ساعات وأخر وقت العشاء الآخرة إلى الرابعة والخامسة ليكون في وسط الليل المعتبر كما أن الظهر في وسط النهار وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان ليله نهاراً ونومه انتباهاً قال ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وتأخير العشاء إلى نصف الليل ) ليكون الأربع في نصف الليل كما أن الأربع في نصف النهار وأما التفصيل فالذي يتبين لي أن النهار اثنتا عشرة ساعة زمانية والصلاة المؤداة فيها عشر ركعات فيبقى على المكلف ركعتان يؤديهما في أول الليل ويؤدي ركعة من صلاة الليل ليكون ابتداء الليل بالتسبيح كما كان ابتداء النهار بالتسبيح ولما كان المؤدى من تسبيح النهار في أوله ركعتين كان المؤدى من تسبيح الليل في أوله ركعة لأن سبح النهار طويل مثل ضعف سبح الليل لأن المؤدى في النهار عشرة والمؤدى في الليل من تسبيح الليل خمس
المسألة الثانية في فضيلة السبحلة والحمدلة في المساء والصباح ولنذكرها من حيث النقل والعقل أما النقل فأخبرني الشيخ الورع الحافظ الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بحلب مسنداً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لبعض أصحابه ( أتعجز عن أن تأتي وقت النوم بألف حسنة فتوقف فقال النبي عليه السلام قل سبحان الله والحمد لله والله أكبر مائة مرة يكتب لك بها ألف حسنة ) وسمعته يقول رحمه الله مسنداً ( من قال خلف كل صلاة مكتوبة عشر مرات سبحان الله وعشر مرات الله أكبر أدخل الجنة ) وأما العقل فهو أن الله تعالى له صفات لازمة لا من فعله وصفات ثابتة له من فعله أما الأولى فهي صفات كمال وجلال خلافها نقص فإذا أدرك المكلف الله بأنه لا يجوز أن يخفي عليه شيء لكونه عالماً بكل شيء فقد نزهه عن الجهل ووصفه بضده وإذا عرفه بأنه لا يعجز عن شيء لكونه قادراً على كل شيء فقد نزهه عن العجز وإذا علم أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لكونه مريداً لكل كائن فقد وصفه ونزهه وإذا ظهر له أنه لا يجوز عليه الفناء لكونه واجب البقاء فقد نزهه وإذا بان له أنه لا يسبقه العدم لاتصافه بالقدم فقد نزهه وإذا لاح له أنه لا يجوز أن يكون عرضاً أو جسماً أو في مكان لكونه واجباً بريئاً عن جهات الإمكان فقد نزهه لكن صفاته السلبية والإضافية لا يعدها عاد ولو اشتغل بها واحد لأفنى فيها عمره ولا يدرك كنهها فإذا قال قائل مستحضراً بقلبه سبحان الله متنبهاً لما يقوله من كونه منزهاً له عن كل نقص فإتيانه بالتسبيح على هذا الوجه من الإجمال يقوم مقام إتيانه به على سبيل التفصيل لكن لا ريب في أن من أتى بالتسبيح عن كل واحد على حدة مما لا يجوز على الله يكون قد أتى بما لا تفي به الأعمار فيقول هذا العبد أتى بتسبيحي طول عمره ومدة بقائه فأجازيه بأن أطهره عن كل ذنب وأزينه بخلع الكرامة وأنزله بدار المقامة مدة لا انتهاء لها وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار وآخره ووسطه فإن الله تعالى يطهره في أوله وهو دنياه وفي آخره وهو عقباه وفي وسطه وهو حالة كونه في قبره الذي يحويه إلى أوان حشره وهو مغناه وأما الثانية وهو صفات الفعل فالإنسان إذا نظر إلى خلق الله السموات يعلم أنها نعمة وكرامة

فيقول الحمد لله فإذا رأى الشمس فيها بازغة فيعلم أنها نعمة وكرامة فيقول الحمد لله وكذلك القمر وكل كوكب والأرض وكل نبات وكل حيوان يقول الحمد لله لكن الإنسان لو حمد الله على كل شيء على حدة لا يفي عمره به فإذا استحضر في ذهنه النعم التي لا تعد كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) ويقول الحمد لله على ذلك فهذا الحمد على وجه الإجمال يقوم منه مقام الحمد على سبيل التفصيل ويقول عبدي استغرق عمره في حمدي وأنا وعدت الشاكر بالزيادة فله علي حسنة التسبيح الحسنى وله على حمده الزيادة ثم إن الإنسان إذا استغرق في صفات الله قد يدعوه عقله إلى التفكر في الله تعالى بعد التفكر في آلاء الله فكل ما يقع في عقله من حقيقته فينبغي أن يقول الله أكبر مما أدركه لأن المدركات وجهات الإدراكات لا نهاية لها فإن أراد أن يقول على سبيل التفصيل الله أكبر من هذا الذي أدركته من هذا الوجه وأكبر مما أدركته من ذلك الوجه وأكبر مما أدركته من وجه آخر يفني عمره ولا يفي بإدراك جميع الوجوه التي يظن الظان أنه مدرك لله بذلك الوجه فإذا قال مع نفسه الله أكبر أي من كل ما أتصوره بقوة عقلي وطاقة إدراكي يكون متوغلاً في العرفان وإليه الإشارة بقوله
العجز عن درك الإدراك إدراك
فقول القائل المستيقظ ( سبحان الله والحمد لله والله أكبر ) مفيد لهذه الفوائد لكن شرطه أن يكون كلاماً معتبراً وهو الذي يكون من صميم القلب لا الذي يكون من طرف اللسان
المسألة الرابعة قوله وَعَشِيّاً عطف على حِينٍ أي سبحوه حين تمسون وحين تصبحون وعشياً وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كلام معترض بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بين لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه وهذا كما في قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى َّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( الحجرات 17 )
المسألة الخامسة قدم الإمساء على الإصباح ههنا وأخره في قوله وَسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الأحزاب 42 ) وذلك لأن ههنا أول الكلام ذكر الحشر والإعادة من قوله اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( الروم 11 ) إلى قوله فَأُوْلَئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( الروم 16 ) وآخر هذه الآية أيضاً ذكر الحشر والإعادة بقوله وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ والإمساء آخر فذكر الآخر ليذكر الآخرة
المسألة السادسة في تعلق إخراج الحي من الميت والميت من الحي بما تقدم عليه هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم واختلف المفسرون في قوله يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ فقال أكثرهم يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان وقال بعضهم المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ويمكن أن يقال المراد يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ أي اليقظان من النائم والنائم من اليقظان وهذا يكون قد ذكره للتمثيل أي إحياء الميت عنده وإماتة الحي كتنبيه النائم وتنويم المنتبه
ثم قال تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حيوانيته وأما نفسه الناطقة فتفارقه وتبقى بعده كما قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً

( آل عمران 169 ) لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك ولا يحس والأرض الميتة لا يكون فيها نماء ثم إن النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض الميتة بعد موتها تنمو بنباتها فكما أن تحريك ذلك الساكن وإنماء هذا الواقف سهل على الله تعالى كذلك إحياء الميت سهل عليه وإلى هذا أشار بقوله وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ
لما أمر الله تعالى بالتسبيح عن الأسواء وذكر أن الحمد له على خلق جميع الأشياء وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ إلى قوله وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( الروم 16 20 ) ذكر ما هو حجة ظاهرة وآية باهرة على ذلك ومن جملتها خلق الإنسان من تراب وتقريره هو أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الأحياء وذلك من حيث كيفيته فإنه بارد يابس والحياة بالحرارة والرطوبة ومن حيث لونه فإنه كدر والروح نير ومن حيث فعله فإنه ثقيل والأرواح التي بها الحياة خفيفة ومن حيث السكون فإنه بعيد عن الحركة والحيوان يتحرك يمنة ويسرة وإلى خلف وإلى قدام وإلى فوق وإلى أسفل وفي الجملة فالتراب أبعد من قبول الحياة عن سائر الأجسام لأن العناصر أبعد من المركبات لأن المركب بالتركيب أقرب درجة من الحيوان والعناصر أبعدها التراب لأن الماء فيه الصفاء والرطوبة والحركة وكلها على طبع الأرواح والنار أقرب لأنها كالحرارة الغريزية منضجة جامعة مفرقة ثم المركبات وأول مراتبها المعدن فإنه ممتزج وله مراتب أعلاها الذهب وهو قريب من أدنى مراتب النبات وهي مرتبة النبات الذي ينبت في الأرض ولا يبرز ولا يرتفع ثم النباتات وأعلى مراتبها وهي مرتبة الأشجار التي تقبل التعظيم ويكون لثمرها حب يؤخذ منه مثل تلك الشجرة كالبيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة قريبة من أدنى مراتب الحيوانات وهي مرتبة الحشرات التي ليس لها دم سائل ولا هي إلى المنافع الجليلة وسائل كالنباتات ثم الحيوان وأعلى مراتبها قريبة من مرتبة الإنسان فإن الأنعام ولا سيما الفرس تشبه العتال والحمال والساعي ثم الإنسان وأعلى مراتب الإنسان قريبة من مرتبة الملائكة المسبحين لله الحامدين له فالله الذي خلق من أبعد الأشياء عن مرتبة الأحياء حياً هو في أعلى المراتب لا يكون إلا منزهاً عن العجز والجهل ويكون له الحمد على إنعام الحياة ويكون له كمال القدرة ونفوذ الإرادة فيجوز منه الإبداء والإعادة وفي الآية لطيفتان إحداهما قوله إِذَا وهي للمفاجأة يقال خرجت فإذا أسد بالباب وهو إشارة إلى أن الله تعالى خلقه من تراب بكن فكان لا أنه صار معدناً ثم نباتاً ثم حيواناً ثم إنساناً وهذا إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولاً إنساناً فينبهه أنه يحيي حيواناً ونامياً وغير ذلك لا أنه خلق أولاً حيواناً ثم يجعله إنساناً فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى فالله تعالى جعل المرتبة الأخيرة في الشيء البعيد عنها غاية من غير انتقال من مرتبة إلى مرتبة من المراتب التي ذكرناها اللطيفة الثانية قوله بُشّرَ إشارة إلى القوة المدركة لأن البشر بشر لا بحركته فإن غيره من الحيوانات أيضاً كذلك وقوله تَنتَشِرُونَ إلى القوة المحركة وكلاهما من التراب عجيب أما الإدراك فلكثافته وجموده وأما الحركة فلثقله وخموده وقوله تَنتَشِرُونَ إشارة إلى أن العجيبة غير مختص

بخلق الإنسان من التراب بل خلق الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب فضلاً عن خلق البشر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى وهي أن الله خلق آدم من تراب وخلقنا منه فكيف قال خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما ما قيل إن المراد من قوله خَلَقَكُمْ أنه خلق أصلكم والثاني أن نقول إن كل بشر مخلوق من التراب أما آدم فظاهر وأما نحن فلأنا خلقنا من نطفة والنطفة من صالح الغذاء الذي هو بالقوة بعض من الأعضاء والغذاء إما من لحوم الحيوانات وألبانها وأسمانها وإما من النبات والحيوان أيضاً له غذاء هو النبات لكن النبات من التراب فإن الحبة من الحنطة والنواة من الثمرة لا تصير شجرة إلا بالتراب وينضم إليها أجزاء مائية ليصير ذلك النبات بحيث يغذو
المسألة الثانية قال تعالى في موضع آخر خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً ( الفرقان 2 ) وقال مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 ) وههنا قال من تُرَابٍ فكيف الجمع قلنا أما على الجواب الأول فالسؤال زائل فإن المراد منه آدم وأما على الثاني فنقول ههنا قال ما هو أصل أول وفي ذلك الموضع قال ما هو أصل ثان لأن ذلك التراب الذي صار غذاء يصير مائعاً وهو المني ثم ينعقد ويتكون بخلق الله منه إنساناً أو نقول الإنسان له أصلان ظاهران الماء والتراب فإن التراب لا ينبت إلا بالماء ففي النبات الذي هو أصل غذاء الإنسان تراب وماء فإن جعل التراب أصلاً والماء لجمع أجزائه المتفتتة فالأمر كذلك وإن جعل الأصل هو الماء والتراب لتثبيت أجزائه الرطبة من السيلان فالأمر كذلك فإن قال قائل الله تعالى يعلم كل شيء فهو يعلم أن الأصل ماذا هو منهما وإنما الأمر عندنا مشتبه يجوز هذا وذاك فإن كان الأصل هو التراب فكيف قال مِنَ الْمَاء بَشَراً وإن كان الماء فكيف قال خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ وإن كانا هما أصلين فلم لم يقل خلقكم منهما فنقول فيه لطيفة وهي أن كون التراب أصلاً والماء أصلاً والماء ليس لذاتيهما وإنما هو يجعل الله تعالى فإن الله نظراً إلى قدرته كان له أن يخلق أول ما يخلق الإنسان ثم يفنيه ويحصل منه التراب ثم يذوبه ويحصل منه الماء لكن الحكمة اقتضت أن يكون الناقص وسيلة إلى الكامل لا الكامل يكون وسيلة إلى الناقص فخلق التراب والماء أولاً وجعلهما أصلين لمن هو أكمل منهما بل للذي هو أكمل من كل كائن وهو الإنسان فإن كان كونهما أصلين ليس أمراً ذاتياً لهما بل بجعل جاعل فتارة جعل الأصل التراب وتارة الماء ليعلم أنه بإرادته واختياره فإن شاء جعل هذا أصلاً وإن شاء جعل ذلك أصلاً وإن شاء جعلهما أصلين
المسألة الثالثة قال الحكماء إن الإنسان مركب من العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء والنار وقالوا التراب فيه لثباته والماء لاستمساكه فإن التراب يتفتت بسرعة والهواء لاستقلاله كالزق المنفوخ يقوم بالهواء ولولاه لما كان فيه استقلال ولا انتصاب والنار للنضج والالتئام بين هذه الأشياء فهذا هذا صحيح أم لا فإن كان صحيحاً فكيف اعتبر الأمرين فحسب ولم يقل في موضع آخر إنه خلقكم من نار ولا من ريح فنقول أما قولهم فلا مفسدة فيه من حيث الشرع فلا ننازعهم فيه إلا إذا قالوا بأنه بالطبيعة كذلك وأما إن قالوا بأن الله بحكمته خلق الإنسان من هذه الأشياء فلا ننازعهم فيه وأما الآيات فنقول ما ذكرتم لا يخالف هذا لأن الهواء جعلتموه للاستقلال والنار للنضج فهما يكونان بعد امتزاج الماء بالتراب فالأصل الموجود أولاهما لا غير فلذلك خصهما ولأن المحسوس من العناصر في الغالب هو التراب والماء ولا سيما كونهما في الإنسان ظاهر لكل أحد فخص الظاهر المحسوس بالذكر

وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
لما بين الله خلق الإنسان بين أنه لما خلق الإنسان ولم يكن من الأشياء التي تبقى وتدوم سنين متطاولة أبقى نوعه بالأشخاص وجعله بحيث يتوالد فإذا مات الأب يقوم الابن مقامه لئلا يوجب فقد الواحد ثلمة في العمارة لا تنسد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله خَلَقَ لَكُمْ دليل على أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع كما قال تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ ( البقرة 29 ) وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف فنقول خلق النساء من النعم علينا وخلقهن لنا وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى أما النقل فهذا وغيره وأما الحكم فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة فشابهت الصبي لكن الصبي لم يكلف فكان يناسب أن لا تؤهل المرأة للتكليف لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم ولولا ذلك لظهر الفساد
المسألة الثانية قوله مّنْ أَنفُسِكُمْ بعضهم قال المراد منه أن حواء خلقت من جسم آدم والصحيح أن المراد منه من جنسكم كما قال تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) ويدل عليه قوله لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا ( الروم 21 ) يعني أن الجنسين الحيين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه
المسألة الثالثة يقال سكن إليه للسكون القلبي ويقال سكن عنده للسكون الجسماني لأن كلمة عند جاءت لظرف المكان وذلك للأجسام وإلى للغاية وهي للقلوب
المسألة الرابعة قوله وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً فيه أقوال قال بعضهم مودة بالمجامعة ورحمة بالولد تمسكاً بقوله تعالى ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( مريم 2 ) وقال بعضهم محبة حالة حاجة نفسه ورحمة حالة حاجة صاحبه إليه وهذا لأن الإنسان يحب مثلاً ولده فإذا رأى عدوه في شدة من جوع وألم قد يأخذ من ولده ويصلح به حال ذلك وما ذلك لسبب المحبة وإنما هو لسبب الرحمة ويمكن أن يقال ذكر من قبل أمرين أحدهما كون الزوج من جنسه والثاني ما تفضي إليه الجنسية وهو السكون إليه فالجنسية توجب السكون وذكر ههنا أمرين أحدهما يفضي إلى الآخر فالمودة تكون أولاً ثم إنها تفضي إلى الرحمة ولهذا فإن الزوجة قد تخرج عن محل الشهوة بكبر أو مرض ويبقى قيام الزوج بها وبالعكس وقوله إِنَّ فِى ذَلِكَ يحتمل أن يقال المراد إن في خلق الأزواج لآيات ويحتمل أن يقال في جعل المودة بينهم آيات أما الأول فلا بد له من فكر لأن خلق الإنسان من الوالدين يدل على كمال القدرة ونفوذ الإرادة وشمول العلم لمن

يتفكر ولو في خروج الولد من بطن الأم فإن دون ذلك لو كان من غير الله لأفضى إلى هلاك الأم وهلاك الولد أيضاً لأن الولد لو سل من موضع ضيق بغير إعانة الله لمات وأما الثاني فكذلك لأن الإنسان يجد بين القرينين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام وليس ذلك بمجرد الشهوة فإنها قد تنتفي وتبقى الرحمة فهو من الله ولو كان بينهما مجرد الشهوة والغضب كثير الوقوع وهو مبطل للشهوة والشهوة غير دائمة في نفسها لكان كل ساعة بينهما فراق وطلاق فالرحمة التي بها يدفع الإنسان المكاره عن حريم حرمه هي من عند الله ولا يعلم ذلك إلا بفكر
وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ
لما بين دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق وأظهرها خلق السموات والأرض فإن بعض الكفار يقول في خلق البشر وغيره من المركبات إنه بسبب ما في العناصر من الكيفيات وما في السموات من الحركات وما فيها من الاتصالات فإذا قيل له فالسماء والأرض لم تكن لامتزاج العناصر واتصالات الكواكب فلا يجد بداً من أن يقول ذلك بقدرة الله وإرادته ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بالاختلاف الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كثرة عددهم وصغر حجم خدودهم وقدودهم لا يشتبه بغيره والسموات مع كبرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة والثاني اختلاف كلامهم فإن عربيين هما أخوان إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتى أن من يكون محجوباً عنهما لا يبصرهما يقول هذا صوت فلان وهذا صوت فلان الآخر وفيه حكمة بالغة وذلك لأن الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع بها التمييز ومن الناس من قال المراد اختلاف اللغة كالعربية والفارسية والرومية وغيرها والأول أصح ثم قال تعالى لايَاتٍ لّلْعَالَمِينَ لما كان خلق السموات والأرض لم يحتمل الاحتمالات البعيدة التي يقولها أصحاب الطبائع واختلاف الألوان كذلك واختلاف الأصوات كذلك قال لّلْعَالَمِينَ لعموم العلم بذلك
وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ

لما ذكر بعض العرضيات اللازمة وهو اختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة طلباً للرزق بالنهار فذكر من اللوازم أمرين ومن المفارقة أمرين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ قيل أراد به النوم بالليل والنوم بالنهار وهي القيلولة ثم قال وَابْتِغَاؤُكُمْ أي فيهما فإن كثيراً ما يكتسب الإنسان بالليل وقيل أراد منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف البعض بالبعض ويدل عليه آيات أخر منها قوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَة َ ( الإسراء 12 ) وقوله وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 11 ) ويكون التقدير هكذا ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله فأخر الابتغاء وقرته في اللفظ بالفعل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 ) وقوله وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( النحل 14 )
المسألة الثانية قدم المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة فلا يتعب إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل
المسألة الثالثة قال لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يَسْمَعُونَ وقال من قبل لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وقال لّلْعَالَمِينَ فنقول المنام بالليل والابتغاء من فضله يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله فلم يقل آيات للعالمين ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عامة وأما قوله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فاعلم أن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر ومنها ما يكفي فيه مجرد الفكرة ومنها ما لا يخرج بالفكر بل يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد ومنها ما يحتاج إلى بعض الناس في تفهمه إلى أمثلة حسية كالأشكال الهندسية لكن خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكر خامد الذكر فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة فقال لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد
وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْى ِ بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
لما ذكر العرضيات التي للأنفس اللازمة والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق وقال يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لما قدم دلائل الأنفس ههنا قدم العرضيات التي للأنفس وأخر العرضيات التي للآفاق كما أخر دلائل الآفاق بقوله وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الروم 22 )
المسألة الثانية قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم

المنام والابتغاء وقدم في الآفاق العوارض المفارقة على اللوازم حيث قال يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ وذلك لأن الإنسان متغير الحال والعوارض له غير بعيدة وأما اللوازم فيه فقريبة وأما السموات والأرض فقليلة التغير فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو أعجب لكونه أدخل في كونه آية ونزيده بياناً فنقول الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم وله صوت يعرف به لا يتغير وله لون يتميز عن غيره وهو يتغير في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء والأرض ثابتان لا يتغيران ثم يرى في بعض الأحوال أمطار هاطلة وبروق هائلة والسماء كما كانت والأرض كذلك فهو آية دالة على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحل ويزيل أمراً مع ثبات المحل
المسألة الثالثة كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء
المسألة الرابعة كما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقدم البرق والرعد على المطر منفعة وذلك لأن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضاً العرب من أهل البوادي فلا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب واعلم أن فوائد البرق وإن لم تظهر للمقيمين بالبلاد فهي ظاهرة للبادين ولهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية وأما كونه آية فظاهر فإن في السحاب ليس إلا ماء وهواء وخروج النار منها بحيث تحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق هو الله قالت الفلاسفة السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء والماء فالهواء ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت ريح قوية تخرق السحاب بعنف فيحدث صوت الرعد ويخرج منه النار كمساس جسم جسماً بعنف وهذا كما أن النار تخرج من وقوع الحجر على الحديد فإن قال قائل الحجر والحديد جسمان صلبان والسحاب والريح جسمان رطبان فيقولون لكن حركة يد الإنسان ضعيفة وحركة الريح قوية تقلع الأشجار فنقول لهم البرق والرعد أمران حادثان لا بد لهما من سبب وقد علم بالبرهان كون كل حادث من الله فهما من الله ثم إنا نقول هب أن الأمر كما تقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة لا بد من سبب وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كيفما فرضتم ذلك
المسألة الخامسة قال ههنا لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة من المختلف لكن البرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير متخلف إذ يقع ببلدة دون بلدة وفي وقت دون وقت وتارة تكون قوية وتارة تكون ضعيفة فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن له عقل إن لم يتفكر تفكراً تاماً
وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ والأرض بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَة ً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ

لما ذكر من العوارض التي للسماء والأرض بعضها ذكر من لوازمها البعض وهي قيامها فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم فإن الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه والسماء كذلك لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه فإن قيل إنها تتحرك في مكانها كالرحى ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها لا تخرج عنه وهذه آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه وعلى الموضع الذي هما عليه من الأمور الممكنة وكونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يخرجا منه فلما لم يخرجا كان ذلك ترجيحاً للجائز على غيره وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار والفلاسفة قالوا كون الأرض في المكان الذي هي فيه طبيعي لها لأنها أثقل الأشياء والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط والسماء كونها في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها فقيامهما فيهما بطبعهما فنقول قد تقدم مراراً أن القول بالطبيعة باطل والذي نزيده ههنا أنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر لكن مقعر الفلك لا يخالف محدبه في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محدبة وذلك بالخروج والزوال فإذن الزوال عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها محددة الجهات على مذهبكم أيضاً والأرض كانت تجوز عليها الحركة الدورية كما تقولون على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر الله من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله خَلَقَ لَكُمْ استدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض في قوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارضه المنام والابتغاء ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار ومن لوازمها قيام السماء وقيام الأرض لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار بالحق ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين فإن قول أحدهما يفيد الظن وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 )
المسألة الثانية قوله بِأَمْرِهِ أي بقوله قوما أو بإرادته قيامهما وذلك لأن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في الأمر الذي للتكليف لا في الأمر الذي للتكوين فإنا لا ننازعهم في أن قوله كُنَّ و كُونُواْ قُلْنَا يانَارُ كُونِى موافق للإرادة
المسألة الثالثة قال ههنا وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ وقال قبله وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ ولم يقل أن يريكم وإن قال بعض المفسرين إن أن مضمرة هناك معناه من آياته أن يريكم ليصير كالمصدر بأن وذلك لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل وجعله مصدراً لأن المستقبل ينبىء عن التجدد وفي البرق لما كان ذلك من الأمور التي تتجدد في زمان دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه شيئاً من الحروف المصدرية
المسألة الرابعة ذكر ستة دلائل وذكر في أربعة منها إن في ذلك لآيات ولم يذكر في الأول وهو قوله وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ( الروم 20 ) ولا في الآخر وهو قوله وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالاْرْضُ ( الروم 25 ) أما في الأول فلأن قوله بعده وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم أيضاً دليل الأنفس فخلق الأنفس وخلق الأزواج من باب واحد

على ما بينا غير أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير بالتكرير فإذا قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ كان عائداً إليهما وأما في قيام السماء والأرض فنقول في الآيات السماوية ذكر أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون لظهورها فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سرد الدلائل يكون أظهر فلم يميز أحداً عن أحد في ذلك وذكر ما هو مدلوله وهو قدرته على الإعادة وقال ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَة ً مّنَ الاْرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ وفيها مسائل
المسألة الأولى ما وجه العطف يتم وبم تعلق ثم فنقول معناه والله أعلم إنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء
المسألة الثانية قول القائل دعا فلان فلاناً من الجبل يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائل يا فلان إصعد إلى الجبل فيقال دعاه من الجبل ويحتمل أن يكون المدعو يدعى من الجبل كما يقول القائل يا فلان انزل من الجبل فيقال دعاه من الجبل ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الأرض إذا كان الداعي هو الله فالمدعو يدعى من الأرض يعني أنتم تكونون في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون
المسألة الثالثة قوله تعالى إِذَا أَنتُمْ قد بينا أنه للمفاجأة يعني يكون ذلك بكن فيكون
المسألة الرابعة قال ههنا إذا أنتم تخرجون وقال في خلق الإنسان أولاً ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ( الروم 20 ) فنقول هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر وأما في الإعادة لا يكون تدريج وتراخ بل يكون نداء وخروج فلم يقل ههنا ثم
وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
لما ذكر الآيات وكان مدلولها القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليها بقوله وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يعني لا شريك له أصلاً لأن كل من في السموات وكل من في الأرض ونفس السموات والأرض له وملكه فكل له منقادون قانتون والشريك يكون منازعاً مماثلاً فلا شريك له أصلاً ثم ذكر المدلول الآخر فقال تعالى وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي في نظركم الإعادة أهون من الإبداء لأن من يفعل فعلاً أولاً يصعب عليه ثم إذا فعل بعد ذلك مثله يكون أهون وقيل المراد هو هين عليه كما قيل في قول القائل الله أكبر أي كبير وقيل المراد هو أهون عليه أي الإعادة أهون على الخالق من الإبداء لأن في البدء يكون علقة ثم مضغة ثم لحماً ثم عظماً ثم يخلق بشراً ثم يخرج طفلاً يترعرع إلى غير ذلك فيصعب عليه ذلك كله وأما في الإعادة فيخرج

بشراً سوياً بكن فيكون أهون عليه والوجه الأول أصح وعليه نتكلم فنقول هو أهون يحتمل أن يكون ذلك لأن في البدء خلق الأجزاء وتأليفها والإعادة تأليف ولا شك أن الأمر الواحد أهون من أمرين ولا يلزم من هذا أن يكون غيره فيه صعوبة ولنبين هذا فنقول الهين هو ما لا يتعب فيه الفاعل والأهون ما لا يتعب فيه الفاعل بالطريق الأولى فإذا قال قائل إن الرجل القوي لا يتعب من نقل شعيرة من موضع إلى موضع وسلم السامع له ذلك فإذا قال فكونه لا يتعب من نقل خردلة يكون ذلك كلاماً معقولاً مبقي على حقيقته
ثم قال تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي قولنا هو أهون عليه يفهم منه أمران أحدهما هو ما يكون في الآخر تعب كما يقال إن نقل الخفيف أهون من نقل الثقيل والآخر هو ما ذكرنا من الأولوية من غير لزوم تعب في الآخر فقوله وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى إشارة إلى أن كونه أهون بالمعنى الثاني لا يفهم منه الأول وههنا فائدة ذكرها صاحب ( الكشاف ) وهي أن الله تعالى قال في موضع آخر هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ ( مريم 21 ) وقال ههنا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فقدم هناك كلمة على وأخرها هنا وذلك لأن المعنى الذي قال هناك إنه هين هو خلق الولد من العجوز وأنه صعب على غيره وليس بهين إلا عليه فقال هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ يعني لا على غيري وأما ههنا المعنى الذي ذكر أنه أهون هو الإعادة والإعادة على كل مبدىء أهون فقال وهو أهون عليه لا على سبيل الحصر فالتقديم هناك كان للحصر وقوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ على الوجه الأول وهو قولنا أهون عليه بالنسبة إليكم له معنى وعلى الوجه الذي ذكرناه له معنى أما على الوجه الأول فلما قال وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى وكان ذلك مثلاً مضروباً لمن في الأرض من الناس فيفيد ذلك أن له المثل الأعلى من أمثلة الناس وهم أهل الأرض ولا يفيد أن له المثل الأعلى من أمثلة الملائكة فقال وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يعني هذا مثل مضروب لكم وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات وأما على الوجه الثاني فمعناه أن له المثل الأعلى أي فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكن ذاته ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وهو منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل المثل الأعلى أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله وقوله تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي كامل القدرة على الممكنات شامل العلم بجميع الموجودات فيعلم الأجزاء في الأمكنة ويقدر على جمعها وتأليفها
ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
لما بين الإعادة والقدرة عليها بالمثل بعد الدليلين بين الوحدانية أيضاً بالمثل بعد الدليل ومعناه أن يكون له مملوك لا يكون شريكاً له في ماله ولا يكون له حرمة مثل حرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله

شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله تعالى حتى يعبدوا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ينبغي أن يكون بين المثل والممثل به مشابهة ما ثم إن كان بينهما مخالفة فقد يكون مؤكداً لمعنى المثل وقد يكون موهناً له وههنا وجه المشابهة معلوم وأما المخالفة فموجودة أيضاً وهي مؤكدة وذلك من وجوه أحدها قوله مّنْ أَنفُسِكُمْ يعني ضرب لكم مثلاً من أنفسكم مع حقارتها ونقصانها وعجزها وقاس نفسه عليكم مع عظمها وكمالها وقدرتها وثانيها قوله مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يعني عبدكم لكم عليهم ملك اليد وهو طار ( ىء ) قابل للنقل والزوال أما النقل فبالبيع وغيره والزوال بالعتق ومملوك الله لا خروج له من ملك الله بوجه من الوجوه فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكاً لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه بل هو في الحال مثلكم في الآدمية حتى أنكم ليس لكم تصرف في روحه وآدميته بقتل وقطع وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه شريكاً له وثالثها قوله مّن شُرَكَاء فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ يعني الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو من الله ومن رزقه والذي من الله فهو في الحقيقة له فإذا لم يجز أن يكون لكم شريك في مالكم من حيث الاسم فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما له من حيث الحقيقة وقوله فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء مما يملكه لكن كل شيء فهو لله فما تدعون إلهيته لا يملك شيئاً أصلاً ولا مثقال ذرة من خردل فلا يعبد لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم منه وأما قولكم هؤلاء شفعاؤنا فليس كذلك لأن المملوك هل له عندكم حرمة كحرمة الأحرار وإذا لم يكن للملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوجوه وإلى هذا أشار بقوله تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ( الروم 28 )
المسألة الثانية بهذا نفى جميع وجوه حسن العبادة عن الغير لأن الأغيار إذا لم يصلحوا للشركة فليس لهم ملك ولا ملك فلا عظمة لهم حتى يعبدوا لعظمتهم ولا يرتجى منهم منفعة لعدم ملكهم حتى يعبدوا لنفع وليس لهم قوة وقدرة لأنهم عبيد والعبد المملوك لا يقدر على شيء فلا تخافوهم كما تخافون أنفسكم فكيف تخافونهم خوفاً أكثر من خوفكم بعضاً من بعض حتى تعبدوهم للخوف
ثم قال تعالى كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي نبينها بالدلائل والبراهين القطعية والأمثلة والمحاكيات الاقناعية لقوم يعقلون يعني لا يخفى الأمر بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
ثم قال تعالى بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نَّاصِرِينَ أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم من غير علم وأثبتوا شركاء من غير

دليل ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي هؤلاء أضلهم الله فلا هادي لهم فينبغي أن لا يحزنك قولهم وههنا لطيفة وهي أن قوله فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ مقو لما تقدم وذلك لأنه لما قال لأن الله لا شريك له بوجه ما ثم قال تعالى بل المشركون يشركون من غير علم يقال فيه أنت أثبت لهم تصرفاً على خلاف رضاه والسيد العزيز هو الذي لا يقدر عبده على تصرف يخالف رضاه فقال إن ذلك ليس باستقلاله بل بإرادة الله وما لهم من ناصرين لما تركوا الله تركهم الله ومن أخذوه لا يغني عنهم شيئاً فلا ناصر لهم
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
ثم قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي إذا تبين الأمر وظهرت الوحدانية ولم يهتد المشرك فلا تلتفت أنت إليهم وأقم وجهك للدين وقوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ أي أقبل بكلك على الدين عبر عن الذات بالوجه كما قال تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) أي ذاته بصفاته وقوله حَنِيفاً أي مائلاً عن كل ما عداه أي أقبل على الدين ومل عن كل شيء أي لا يكون في قلبك شيء آخر فتعود إليه وهذا قريب من معنى قوله وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( الروم 31 ) ثم قال الله تعالى عَبْدُ اللَّهِ أي الزم فطرة الله وهي التوحيد فإن الله فطر الناس عليه حيث أخذهم من ظهر آدم وسألهم أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ ( الأعراف 172 ) فقالوا بلى وقوله تعالى لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فيه وجوه قال بعض المفسرين هذه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال هم خلقوا للشقاوة ومن كتب شقياً لا يسعد وقيل لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي الوحدانية مترسخة فيهم لا تغير لها حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون الله لكن الإيمان الفطري غير كاف ويحتمل أن يقال خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيداً مثل كون المملوك عبداً لإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية وهذا لبيان فساد قول من يقول العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف وقول المشركين إن الناقص لا يصلح لعبادة الله وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله وقول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه وصار إلهاً فقال لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك
ثم قال تعالى ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ الذي لا عوج فيه وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أن ذلك هو الدين المستقيم
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
لما قال حنيفاً أي مائلاً عن غيره قال مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ أي مقبلين عليه والخطاب في قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ مع النبي والمراد جميع المؤمنين وقوله وَاتَّقُوهُ يعني إذا أقبلتم عليه وتركتم الدنيا فلا تأمنوا

فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة وأقيموا الصلاة أي كونوا عابدين عند حصول القربة كما قلتم قبل ذلك ثم إنه تعالى قال وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال المفسرون يعني ولا تشركوا بعد الإيمان أي ولا تقصدوا بذلك غير الله وههنا وجه آخر وهو أن الله بقوله مُّنِيبِينَ أثبت التوحيد الذي هو مخرج عن الإشراك الظاهر وبقوله وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أراد إخراج العبد عن الشرك الخفي أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ولا تطلبوا به إلا رضاء الله فإن الدنيا والآخرة تحصيل وإن لم تطلبوها إذا حصل رضا الله وعلى هذا فقوله مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً يعني لم يجتمعوا على الإسلام وذهب كل أحد إلى مذهب ويحتمل أن يقال وكانوا شيعاً يعني بعضهم عبد الله للدنيا وبعضهم للجنة وبعضهم للخلاص من النار وكل واحد بما في نظره فرح وأما المخلص فلا يفرح بما يكون لديه وإنما يكون فرحه بأن يحصل عند الله ويقف بين يديه وذلك لأن كل ما لدينا نافد لقوله تعالى مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ( النحل 96 ) فلا مطلوب لكم فيما لديكم حتى تفرحوا به وإنما المطلوب ما لدى الله وبه الفرح كما قال تعالى بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( آل عمران 170 ) جعلهم فرحين بكونهم عند ربهم ويكون ما أوتوا من فضله الذي لا نفاد له ولذلك قال تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ( يونس 58 ) لا بما عندهم فإن كل ما عند العبد فهو نافد أما في الدنيا فظاهر وأما في الآخرة فلأن ما وصل إلى العبد من الالتذاذ بالمأكول والمشروب فهو يزول ولكن الله يجدد له مثله إلى الأبد من فضله الذي لا نفاد له فالذي لا نفاد له هو فضله
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَة ً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل بين أن لهم حالة يعرفون بها وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدة فإن عند انقطاع رجائه عن الكل يرجع إلى الله ويجد نفسه محتاجة إلى شيء ليس كهذه الأشياء طالبة به النجاة ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَة ً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ يعني إذا خلصناه يشرك بربه ويقول تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان وبسبب الصنم الفلاني لا بل ينبغي أن لا يعتقد أنه تخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً فإنه شرك خفي مثاله رجل في بحر أدركه الغرق فيهيىء له لوحاً يسوقه إليه ريح فيتعلق به وينجو فيقول تلخصت بلوح أو رجل أقبل عليه سبع فيرسل الله إليه رجلاً فيعينه فيقول خلصني زيد فهذا إذا كان عن اعتقاد فهو شرك خفي وإن كان بمعنى أن الله خلصني على يد زيد فهو أخفى وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى أَذَاقَهُمْ فيه لطيفة وذلك لأن الذوق يقال في القليل فإن العرف ( أن ) من أكل مأكولاً كثيراً لا يقول ذقت ويقال في النفي ما ذقت في بيته طعاماً نفياً للقليل ليلزم نفي الكثير بالأولى ثم إن تلك الرحمة لما كانت خالية منقطعة ولم تكن مستمرة في الآخرة إذ لهم في الآخرة عذاب قال أذاقهم

ولهذا قال في العذاب ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 48 ) ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( العنكبوت 55 ) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) لأن عذاب الله الواصل إلى العبد بالنسبة إلى الرحمة الواصلة إلى عبيد آخرين في غاية القلة
المسألة الثانية قوله تعالى مِنْهُ أي من الضر في هذا التخصيص ما ذكرناه من الفائدة وهي أن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي عن ذلك الضر وحده وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة
المسألة الثالثة قال ههنا إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ وقال في العنكبوت فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( العنكبوت 65 ) ولم يقل فريق وذلك لأن المذكور هناك ضر معين وهو ما يكون من هول البحر والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل والذي لا يشرك به بعد الخلاص فرقة منهم في غاية القلة فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة من خرج من المشركين وأما المذكور ههنا الضر مطلقاً فيتناول ضر البر والبحر والأمراض والأهون والمتخلص من أنواع الضر خلق كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما وتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضر ولم يبقوا مشركين وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضر البحر بأجمعهم فلما كان الناجي من الضر من المؤمنين جمعاً كثيراً جعل الباقي فريقاً
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ
قوله تعالى لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قد تقدم تفسيره في العنكبوت بقي بيان فائدة الخطاب ههنا في قوله فَتَمَتَّعُواْ وعدمه هناك في قوله وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ فنقول لما كان الضر المذكور هناك ضراً واحداً جاز أن لا يكون في ذلك الموضع من المخلصين من ذلك الضر أحد فلم يخاطب ولما كان المذكور ههنا مطلق الضر ولا يخلو موضع من المخلصين عن الضر فالحاضر يصح خطابه بأنه منهم فخاطب
ثم قال تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ لما سبق قوله تعالى بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ ( الروم 29 ) أي المشركون يقولون ما لا علم لهم به بل هم عالمون بخلافه فإنهم وقت الضر يرجعون إلى الله حقق ذلك بالاستفهام بمعنى الانكار أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى أم للاستفهام ولا يقع إلا متوسطاً كما قال قائلهم أيا ظبية الوعاء بين جلاجل
وبين النقا آأنت أم أم سالم

فما الاستفهام الذي قبله فنقول تقديره إذا ظهرت هذه الحجج على عنادهم فماذا نقول أهم يتبعون الأهواء من غير علم أم لهم دليل على ما يقولون وليس الثاني فيتعين الأول
المسألة الثانية قوله تعالى فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مجاز كما يقال إن كتابه لينطق بكذا وفيه معنى لطيف وهو أن المتكلم من غير دليل كأنه لا كلام له لأن الكلام هو المسموع وما لا يقبل فكأنه لم يسمع فكأن المتكلم لم يتكلم به وما لا دليل عليه لا يقبل فإذا جاز سلب الكلام عن المتكلم عند عدم الدليل وحسن جاز إثبات التكلم للدليل وحسن
وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
قوله تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً فَرِحُواْ بِهَا لما بين حال المشرك الطاهر شركه بين حال المشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته الله للدنيا فإذا آتاه رضي وإذا منعه سخط وقنط ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة والرخاء فمن الناس من يعبد الله في الشدة كما قال تعالى وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ ( الروم 33 ) ومن الناس من يعبده إذا آتاه نعمة كما قال تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً فَرِحُواْ بِهَا والأول كالذي يخدم مكرها مخافة العذاب والثاني كالذي يخدم أجيراً لتوقع الأجر وكلاهما لا يكون من الثبتين في ديوان المرتبين في الجرائد الذين يأخذون رزقهم سواء كان هناك شغل أو لم يكن فكذلك القسمان لا يكونان من المؤمنين الذين لهم رزق عند ربهم وفيه مسألة وهي أن قوله تعالى فَرِحُواْ بِهَا إشارة إلى دنو همتهم وقصور نظرهم فإن فرحهم يكون بما وصل إليهم لا بما وصل منه إليهم فإن قال قائل الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ ( يونس 58 ) وههنا ذمهم على الفرح بالرحمة فكيف ذلك فنقول هناك قال فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله وهو كما أن الملك لو حط عند أمير رغيفاً على السماط أو أمر الغلمان بأن يحطوا عنده زبدية طعام يفرح ذلك الأمير به ولو أعطى الملك فقيراً غير ملتفت إليه رغيفاً أو زبدية طعام أيضاً يفرح لكن فرح الأمير بكون ذلك من الملك وفرح الفقير بكون ذلك رغيفاً وزبدية
ثم قال تعالى بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لم يذكر عند النعمة سبباً لها لتفضله بها وذكر عند العذاب سبباً لأن الأول يزيد في الإحسان والثاني يحقق العدل قوله إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ إذا للمفاجأة أي لا يصبرون على ذلك قليلاً لعل الله يفرج عنهم وإنه يذكرهم به
ثم قال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي لم يعلموا أن الكل من الله فالمحقق ينبغي أن لا يكون نظره على ما يوجد بل إلى من يوجد وهو الله فلا يكون

له تبدل حال وإنما يكون عنده الفرح الدائم ولكن ذلك مرتبة المؤمن الموحد المحقق ولذلك قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
فَأاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين أن العبادة لا ينبغي أن تكون مقصورة على حالة الشدة بقوله وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ ( الروم 33 ) ولا أن تكون مقصورة على حالة أخذ شيء من الدنيا كما هو عادة المدوكر المتسلسل يعبد الله إذا كان في الخوانق والرباطات للرغيف والزبدية وإذا خلا بنفسه لا يذكر الله بقوله وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً فَرِحُواْ بِهَا وبين أنه ينبغي أن يكون في حالة بسط الرزق وقدره عليه نظره على الله الخالق الرازق ليحصل الإرشاد إلى تعظيم الله والإيمان قسمان تعظيم لأمر الله وشفقة على خلق الله فقال بعد ذلك فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل وفيه وجه آخر هو أن الله تعالى لما بين أن الله يبسط الرزق ويقدر فلا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن الله إذا بسط الرزق لا ينقص بالانفاق وإذا قدر لا يزداد بالإمساك وفيه مسائل
المسألة الأولى في تخصيص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات فنقول أراد ههنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال سواء كان زكوياً أو لم يكن وسواء كان بعد الحول أو قبله لأن المقصود ههنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد أما القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كعقار أو مال لم يحل عليه الحول والمسكين كذلك فإن من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على من له مقدرة دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابة يمكنه بها إيصاله إلى مأمن يلزمه ذلك وإن لم تكن عليه زكاة والفقير داخل في المسكين لأن من أوصى للمساكين شيئاً يصرف إلى الفقراء أيضاً وإذا نظرت إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم واعتبر ذلك في العامل والمكاتب والمؤلفة والمديون ثم اعلم أن على مذهب أبي حنيفة رحمه الله حيث قال المسكين من له شيء ما فنقول وإن كان الأمر كذلك لكن لا نزاع في أن إطلاق المسكين على من لا شيء له جائز فيكون الاطلاق هنا بذلك الوجه والفقير يدخل في ذلك بالطريق الأولى
المسألة الثانية في تقدم البعض على البعض فنقول لما كان دفع حاجة القريب واجباً سواء كان في

شدة ومخمصة أو لم يكن كان مقدماً على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة ولما كان المسكين حاجته ليست مختصة بموضع كان مقدماً على من حاجته مختصة بموضع دون موضع
المسألة الثالثة ذكر الأقارب في جميع المواضع كذا اللفظ وهو ذو القربى ولم يذكر المسكين بلفظ ذي المسكنة وذلك لأن القرابة لا تتجدد فهي شيء ثابت وذو كذا لا يقال إلا في الثابت فإن من صدر منه رأي صائب مرة أو حصل له جاه يوماً واحداً أو وجد منه فضل في وقت يقال ذو رأي وذو جاه وذو فضل وإذا دام ذلك له أو وجد منه ذلك كثيراً يقال له ذو الرأي وذو الفضل فقال ذَا الْقُرْبَى إشارة إلى أن هذا حق متأكد ثابت وأما المسكنة فتطرأ وتزول ولهذا المعنى قال مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 16 ) فإن المسكين يدوم له كونه ذا متربة ما دامت مسكنته أو يكون كذلك في أكثر الأمر
المسألة الرابعة قال فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ثم عطف المسكين وابن السبيل ولم يقل فآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقهم لأن العبارة الثانية لكون صدور الكلام أولاً للتشريك والأولى لكون التشريك وارداً على الكلام كأنه يقول أعط ذا القربى حقه ثم يذكر المسكين وابن السبيل بالتبعية ولهذا المعنى إذا قال الملك خل فلان يدخل وفلاناً أيضاً يكون في التعظيم فوق ما إذا قال خل فلاناً وفلاناً يدخلان وإلى هذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله ( بئس خطيب القوم أنت ) حيث قال الرجل من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى ولم يقل ومن عصى الله ورسوله
المسألة الخامسة قوله ذالِكَ خَيْرٌ يمكن أن يكون معناه ذلك خير من غيره ويمكن أن يقال ذلك خير في نفسه وإن لم يقس إلى غيره لقوله تعالى وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ ( الحج 77 ) فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ( البقرة 148 ) والثاني أولى لعدم احتياجه إلى إضمار ولكونه أكثر فائدة لأن الخير من الغير قد يكون نازل الدرجة عند نزول درجة ما يقاس إليه كما يقال السكوت خير من الكذب وما هو خير في نفسه فهو حسن ينفع وفعل صالح يرفع
المسألة السادسة قوله تعالى لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إشارة إلى أن الاعتبار بالقصد لا بنفس الفعل فإن من أنفق جميع أمواله رياء الناس لا ينال درجة من يتصدق برغيف لله وقوله وَجْهُ اللَّهِ أي يكون عطاؤه لله لا غير فمن أعطى للجنة لم يرد به وجه الله وإنما أراد مخلوق الله
المسألة السابعة كيف قال وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مع أن للإفلاح شرائط أخر وهي المذكورة في قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) فنقول كل وصف مذكور هناك يفيد الإفلاح فقوله وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواة ِ فَاعِلُونَ ( المؤمنون 4 ) وقوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 المعارج 32 ) إلى غير ذلك عطف على المفلح أي هذا مفلح وذاك مفلح وذاك الآخر مفلح لا يقال لا يحصل الإفلاح لمن يتصدق ولا يصلي فنقول هذا كقول القائل العالم مكرم أي نظراً إلى علمه ثم إذا حد في الزنا على سبيل النكال وقطعت يده في السرقة لا يبطل ذلك القول حتى يقول القائل إنما كان ذلك لأنه أتى بالفسق فكذلك إيتاء المال لوجه الله يفيد الإفلاح اللهم إلا إذا وجد مانع من ارتكاب محظور أو ترك واجب
المسألة الثامنة لم لم يذكر غيره من الأفعال كالصلاة وغيرها فنقول الصلاة مذكورة من قبل لأن الخطاب ههنا بقوله فَأْتِ مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره تبع وقد قال له من قبل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً ( الروم 30 ) وقال

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ ( الروم 31 )
المسألة التاسعة قوله تعالى وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) يفهم منه الحصر وقد قال في أول سورة البقرة وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة وآمن بما أنزل على رسوله وبما أنزل من قبله وبالآخرة فلو كان المفلح منحصراً في أولئك المذكورين في سورة البقرة فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحاً فنقول هذا هو ذاك لأنا بينا أن قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ متصل بهذا الكلام فإذا أتى بالصلاة وآتى المال وأراد وجه الله فقد ثبت أنه مؤمن مقيم للصلاة مؤت للزكاة معترف بالآخرة فصار مثل المذكور في البقرة
وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَواة ٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ
ذكر هذا تحريضاً يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين ترغبون فيه وتؤتونه وذلك لا يربوا عند الله والزكاة تنمو عند الله كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام ( إن الصدقة تقع في يد الرحمن فتربوا حتى تصير مثل الجبل ) فينبغي أن يكون إقدامكم على الزكاة أكثر وقوله تعالى وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ أي أولئك ذوو الأضعاف كالموسر لذي اليسار وأقل ذلك عشرة أضعاف كل مثل لما آتى في كونه حسنة لا في المقدار فلا يفهم أن من أعطى رغيفاً يعطيه الله عشرة أرغفة بل معناه أن ما يقتضيه فعله من الثواب على وجه الرحمة يضاعفه الله عشرة مرات على وجه التفضل فبالرغيف الواحد يكون له قصر في الجنة فيه من كل شيء ثواباً نظراً إلى الرحمة وعشر قصور مثله نظراً إلى الفضل مثاله في الشاهد ملك عظيم قبل من عبده هدية قيمتها درهم لو عوضه بعشرة دراهم لا يكون كرماً بل إذا جرت عادته بأنه يعطي على مثل ذلك ألفاً فإذا أعطى له عشرة آلاف فقد ضاعف له الثواب
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَى ْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
قوله تعالى اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ أي أوجدكم ثُمَّ رَزَقَكُمْ أي أبقاكم فإن العرض مخلوق وليس بمبقي ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَى ْء جمع في هذه الآية بين إثبات

الأصلين الحشر والتوحيد أما الحشر فبقوله ثُمَّ يُحْيِيكُمْ والدليل قدرته على الخلق ابتداء وأما التوحيد فبقوله هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَى ْء ثم قال تعالى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ فقوله سبحانه أي سبحوه تسبيحاً أي نزهوه ولا تصفوه بالإشراك وقوله وَتَعَالَى أي لا يجوز عليه ذلك وهذا لأن من لا يتصف بشيء قد يجوز عليه فإذا قال سبحوه أي لا تصفوه بالإشراك وإذا قال وتعالى فكأنه قال ولا يجوز عليه ذلك
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( المؤمنون 71 ) كما قال تعالى تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ( مريم 90 ) وإلى هذا أشار بقوله تعالى لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ واختلفت الأقوال في قوله فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ فقال بعض المفسرين المراد خوف الطوفان في البر والبحر وقال بعضهم عدم إنبات بعض الأراضي وملوحة مياه البحار وقال آخرون المراد من البحر المدن فإن العرب تسمى المدائن بحوراً لكون مبنى عمارتها على الماء ويمكن أن يقال إن ظهور الفساد في البحر قلة مياه العيون فإنها من البحار واعلم أن كل فساد يكون فهو بسبب الشرك لكن الشرك قد يكون في العمل دون القول والاعتقاد فيسمى فسقاً وعصياناً وذلك لأن المعصية فعل لا يكون لله بل يكون للنفس فالفاسق مشرك بالله بفعله غاية ما في الباب أن الشرك بالفعل لا يوجب الخلود لأن أصل المرء قلبه ولسانه فإذا لم يوجد منهما إلا التوحيد يزول الشرك البدني بسببهما وقوله تعالى لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ قد ذكرنا أن ذلك ليس تمام جزائهم وكل موجب افترائهم وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني كما يفعله المتوقع رجوعهم مع أن الله يعلم أن من أضله لا يرجع لكن الناس يظنون أنه لو فعل بهم شيء من ذلك لكان يوجد منهم الرجوع كما أن السيد إذا علم من عبده أنه لا يرتدع بالكلام فيقول القائل لماذا لا تؤدبه بالكلام فإذا قال لا ينفع ربما يقع في وهمه أنه لا يبعد عن نفع فإذا زجره ولم يرتدع يظهر له صدق كلام السيد ويطمئن قلبه
قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ
لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم هلاك أمثالهم وأشكالهم الذين

كانت أفعالهم كأفعالهم فقال قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ أي قوم نوح وعاد وثمود وهذا ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه في وقت الامتنان والإحسان قال اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ( مريم 40 ) أي آتاكم الوجود ثم البقاء ووقت الخذلان بالطغيان قال ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الروم 41 ) أي قلل رزقكم ثم قال تعالى سِيرُواْ فِى الاْرْضِ أي هو أعدمكم كم أعدم من قبلكم فكأنه قال أعطاكم الوجود والبقاء ويسلب منكم الوجود والبقاء وأما سلب البقاء فبإظهار الفساد وأما سلب الوجود فبالإهلاك وعند الإعطاء قدم الوجود على البقاء لأن الوجود أولاً ثم البقاء وعند السلب قدم البقاء وهو الاستمرار ثم الوجود
وقوله كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ يحتمل وجوهاً ثلاثة أحدها أن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر وإن كان بغيره أيضاً كالإهلاك بالفسق والمخالفة كما كان على أصحاب السبت الثاني أن كل كافر أهلك لم يكن مشركاً بل منهم من كان معطلاً نافياً لكنهم قليلون وأكثر الكفار مشركون الثالث أن العذاب العاجل لم يختص بالمشركين حين أتى كما قال تعالى وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً ( الأنفال 25 ) بل كان على الصغار والمجانين ولكن أكثرهم كانوا مشركين
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلاًّنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ
لما نهى الكافر عما هو عليه أمر المؤمن بما هو عليه وخاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين ) وقد ذكرنا معناه وقوله مِن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يحتمل وجهين الأول أن يكون قوله مِنَ اللَّهِ متعلقاً بقوله يَأْتِى َ والثاني أن يكون المراد لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي الله لا يرد وغيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي تفرقون ثم أشار إلى التفرق بقوله مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً ولم يقل ومن آمن وذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضاً للمكلف عليه وأما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه ووجه آخر وهو أن الكفر قسمان أحدهما فعل وهو الاشراك والقول به والثاني ترك وهو عدم النظر والإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول ولم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل لكن الإيمان لا بد معه من العمل الصالح فإن الاعتقاد الحق عمل القلب وقول لا إله إلا الله عمل اللسان وشيء منه لا بد منه
المسألة الثانية قال فَعَلَيْهِ فوحد الكناية وقال فَلاِنفُسِهِمْ جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من

الغضب فتشمله وأهله وذريته أما الغضب فمسبوق بالرحمة لازم لمن أساء
المسألة الثالثة قال فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولم يبين وقال في المؤمن فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ تحقيقاً لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين وفصل بشارة وعند غيره أشار إليه إشارة
لِيَجْزِى َ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح وهو الجزاء الذي يجازيه به الله والملك إذا كان كبيراً كريماً ووعد عبداً من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله مِن فَضْلِهِ يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ أوعدهم بوعيد ولم يفصله لما بينا وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل فإن عدم المحبة من الله غاية العذاب وأفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم والدنانير كيف تكون مسرته وإذا قيل له إنه قال إني أحب فلاناً كيف يكون سروره
وفيه لطيفة وهي أن الله عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ( الروم 44 ) وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ لأن قوله مَن كَفَرَ في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد والتحريض للتقرير والإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم وأما عندما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهاراً للكرم والرحمة فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك وليس كذلك فإن الله كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر وقدم التعذيب على الإثابة فنقول إن كان الله يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه ونحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى وكل ترتيب وجد فهو لحكمة وما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالاً وهو قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة ٍ ( الروم 14 15 ) قدم المؤمن على الكافر وههنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن فنقول هناك أيضاً قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( الروم 12 ) فذكر الكافر وإبلاسه ثم قال تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( الروم 14 ) فكان ذكر المؤمن وحده لا بد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وقوله في حق المؤمن فِى رَوْضَة ٍ يُحْبَرُونَ لكن الله تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِى َ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ لما ذكر أن ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ويذكر لأضراره سبباً لئلا يتوهم به الظلم فقال يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ قيل بالمطر كما قال تعالى بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 ) أي قبل المطر ويمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد
ثم قال تعالى وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ عطف على ما ذكرنا أي ليبشركم بصلاح الهواء وصحة الأبدان وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ بالمطر وقد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل ولما كان أمر الدنيا قليلاً وراحتها نزر قال وَلِيُذِيقَكُمْ وأما في الآخرة فيرزقهم ويوسع عليهم ويديم لهم وَلِتَجْرِى َ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تُشْرِكُونَ لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله بِأَمْرِهِ أي الفعل ظاهراً عليه ولكنه بأمر الله ولذلك لما قال وَلِتَبْتَغُواْ مسنداً إلى العباد ذكر بعده مِن فَضْلِهِ أي لا استقلال لشيء بشيء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الترتيب فنقول في الرياح فوائد منها إصلاح الهواء ومنها إثارة السحاب ومنها جريان الفلك بها فقال مُبَشّراتٍ بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن وإلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها
المسألة الثانية قال في قوله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ ( الروم 41 ) وقال ههنا وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ فخاطب ههنا تشريفاً وَأَنْ رَحْمَتِهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ فالمحسن قريب فيخاطب والمسيء بعيد فلم يخاطبهم وأيضاً قال هناك بعض الذي علموا وقال ههنا مّن رَّحْمَتِهِ فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته وفيه معنيان أحدهما ما ذكرنا أن الكريم لا يذكر لإحسانه ورحمته عوضاً وإن وجد فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي وثانيهما أن ما يكون بسبب فعل العبد قليل فلو قال أرسلت الرياح بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة وأما إذا قال مّن رَّحْمَتِهِ كان غاية البشارة ومعنى ثالث وهو أنه لو قال بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم ينبىء عن نقصان عقابهم وهو كذلك
المسألة الثالثة قال هناك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقال ههنا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قالوا وإشارة إلى أن توفيقهم للشكر من النعم فعطف على النعم
المسألة الرابعة إنما أخر هذه الآية لأن في الآيات التي قد سبق ذكرها قلنا إنه ذكر من كل باب آيتين فذكر من المنذرات يُرِيكُمُ الْبَرْقَ والحادث في الجو في أكثر الأمر نار وريح فذكر الرياح ههنا تذكيراً وتقريراً للدلائل ولما كانت الريح فيها فائدة غير المطر وليس في البرق فائدة إن لم يكن مطر ذكر

هناك خوفاً وطمعاً أي قد يكون وقد لا يكون وذكر ههنا مُبَشّراتٍ لأن تعديل الهواء أو تصفيته بالريح أمر لازم وحكمه به حكم جازم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ
لما بين الأصلين ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شغل غير شغلك ولم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك ومن كذبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار وله وجه آخر يبين تعلق الآية بما قبلها وهو أن الله لما بين البراهين ولم ينتفع بها الكفار سلى قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال حال من تقدمك كان كذلك وجاءوا أيضاً بالبينات وكان في قومهم كافر ومؤمن كما في قومك فانتقمنا من الكافرين ونصرنا المؤمنين وفي قوله تعالى وَكَانَ حَقّاً وجهان أحدهما فانتقمنا وكان الانتقام حقاً واستأنف وقال علينا نصر المؤمنين وعلى هذا يكون هذا بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي علينا نصركم أيها المؤمنون والوجه الثاني وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا وعلى الأول لطيفة وعلى الآخر أخرى أما على الأول فهو أنه لما قال فانتقمنا بين أنه لم يكن ظلماً وإنما كان عدلاً حقاً وذلك لأن الانتقام لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم وولادة الكافر الفاجر وكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث وعلى الثاني تأكيد البشارة لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم يقال على فلان كذا ينبىء عن اللزوم فإذا قال حقاً أكد ذلك المعنى وقد ذكرنا أن النصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة فإن إحدى الطائفتين إذا انهزمت أولاً ثم عادت آخراً لا يكون النصر إلا للمنهزم وكذلك موسى وقومه لما انهزموا من فرعون ثم أدركه الغرق لم يكن انهزامهم إلا نصرة فالكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له
اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْى ِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ

بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة وحكمة أما القدرة فظاهرة فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق يصير بحيث يقلع الشجر وهو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار وأما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلاً ومنه ما يكون منقطعاً ثم المطر يخرج منه والماء في الهواء أعجب علامة للقدرة وما يفضي إليه من إنبات الزرع وإدرار الضرع حكمة بالغة ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم وهو علامة المشيئة وقوله تعالى وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم هو تأكيد كما في قوله تعالى فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وقال بعضهم من قبل التنزيل من قبل المطر والأولى أن يقال من قبل أن ينزل عليهم من قبله أي من قبل إرسال الرياح وذلك لأن بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فقبل المطر إذا هبت الريح لا يكون مبلساً فلما قال من قبل أن ينزل عليهم لم يقل إنهم كانوا مبلسين لأن من قبله قد يكون راجباً غالباً على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح فقال من قبله أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب ثم لما فصل قال فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْى ِ الْمَوْتَى لما ذكر الدلائل قال لمحيي باللام المؤكدة وباسم الفاعل فإن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله إنه معطيك لأن الثاني يفيد أنه أعطاك فكان وهو معط متصفاً بالعطاء والأول يفيد أنه سيتصف به ويتبين هذا بقوله إنك ميت فإنه آكد من قوله إنك تموت وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ تأكيد لما يفيد الاعتراف
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ
لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال في الآية الأولى يُرْسِلُ الرّيَاحَ على طريقة الإخبار عن الإرسال وقال ههنا وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا لا على طريقة الإخبار عن الإرسال لأن الرياح من رحمته وهي متواترة والريح من عذابه

وهو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها ولذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي والأيام في البراري والآكام وريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة
المسألة الثانية سمى النافعة رياحاً والضارة ريحاً لوجوه أحدها النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها فإن كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة ولا تهب الريح الضارة في أعوام بل الضارة في الغالب لا تهب في الدهور الثاني هو أن النافعة لا تكون إلا رياحاً فإن ما يهب مرة واحدة لا يصلح الهواء ولا ينشىء السحاب ولا يجري السفن وأما الضارة بنفحة واحدة تقتل كريح السموم الثالث هو أن الريح المضرة إما أن تضر بكيفيتها أو بكميتها أما الكيفية فهي إذا كانت حارة أو متكيفة بكيفية سم وهذا لا يكون للريح في هبوبها وإنما يكون بسبب أن الهواء الساكن في بقعة فيها حشائش رديئة أو في موضع غائر وهو حار جداً أو تكون متكونة في أول تكونها كذلك وكيفما كان فتكون واحدة لأن ذلك الهواء الساكن إذا سخن ثم ورد عليه ريح تحركه وتخرجه من ذلك المكان فتهب على مواضع كاللهيب ثم ما يخرج بعد ذلك من ذلك المكان لا يكون حاراً ولا متكيفاً لأن المكث الطويل شرط التكيف ألا ترى أنك لو أدخلت إصبعك في نار وأخرجتها بسرعة لا تتأثر والحديد إذا مكث فيها يذوب فإذا تحرك ذلك الساكن وتفرق لا يوجد في ذلك الوقت غيره من جنسه وأما المتولدة كذلك فنادرة وموضع ندرتها واحد وأما الكمية فالرياح إذا اجتمعت وصارت واحدة صارت كالخلجان ومياه العيون إذا اجتمعت تصير نهراً عظيماً لا تسده السدود ولا يرده الجلمود ولا شك أن في ذلك تكون واحدة مجتمعة من كثير فلهذا قال في المضرة ريح وفي النافعة رياح
ثم إنه تعالى لما علم رسوله أنواع الأدلة وأصناف الأمثلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً وإنباؤه إلا كفراً وإضراراً قال له فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الترتيب فنقول إرشاد الميت محال والمحال أبعد من الممكن ثم إرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم ما يفهمه بالإشارة لا غير والإفهام بالإشارة صعب ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب فإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يحيد عن قريب وإرشاد الأصم أصعب فلهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع شيئاً لأن غاية الإفهام بالكلام فإن ما لا يفهم بالإشارة يفهم بالكلام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة فإن المعدوم والغائب لا إشارة إليهما فقال أولا لا تسمع الموتى ثم قال ولا الأصم ولا تهدي الأعمى الذي دون الأصم
المسألة الثانية قال في الصم إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ ليكون أدخل في الامتناع وذلك لأن الأصم وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة فإذا ولى ولا يكون نظره إلى المشير فإنه يسمع ولا يفهم
المسألة الثالثة قال في الأصم لاَ تُسْمِعُ الصُّمُّ الدُّعَاء ولم يقل في الموتى ذلك لأن الأصم قد يسمع الصوت الهائل كصوت الرعد القوي ولكن صوت الداعي لا يبلغ ذلك الحد فقال إنك داع لست بملجىء إلى الإيمان والداعي لا يسمع الأصم الدعاء
المسألة الرابعة قال وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعَمَى أي ليس شغلك هداية العميان كما يقول القائل فلان ليس بشاعر وإنما ينظم بيتاً وبيتين أي ليس شغله ذلك فقوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى نفى ذلك عنه وقوله

وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ يعني ليس شغلك ذلك وما أرسلت له
ثم قال تعالى وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ ( النمل 81 ) لما نفى إسماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حياً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمن ترد على قلبه أمطار البراهين فتنبت في قلبه العقائد الحقة ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة وهذا يدل على خلاف مذهب المعتزلة فإنهم قالوا الله يريد من الكل الإيمان غير أن بعضهم يخالف إرادة الله وقوله إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ دليل على أنه يؤمن فيسمعه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يجب أن يفعل فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى عنهم قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( البقرة 285 )
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ ضَعْفاً وَشَيْبَة ً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلاً من دلائل الآفاق وهو قوله اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ( الروم 48 ) وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله فقال خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ أي مبناكم على الضعف كما قال تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 ) ومن ههنا كما تكون في قول القائل فلان زين فلانا من فقره وجعله غنياً أي من حالة فقره ثم قال تعالى ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّة ٍ فقوله من ضعف إشارة إلى حالة كان فيها جنيناً وطفلاً مولوداً ورضيعاً ومفطوماً فهذه أحوال غاية الضعف وقوله ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّة ٍ إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله وشبابه واكتهاله وقوله ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ ضَعْفاً وَشَيْبَة ً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
إشارة إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف ثم بين بقوله يَخْلُقُ مَا يَشَاء إن هذا ليس طبعاً بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء ( الروم 48 ) هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ لما قدم العلم على القدرة وقال من قبل وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( الروم 27 ) فالعزة إشارة إلى تمام القدرة والحكمة إلى العلم فقدم القدرة هناك وقدم العلم على القدرة ههنا فنقول هناك المذكور الإعادة بقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( الروم 27 ) لأن الإعادة تكون بكن فيكون فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الابداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر ثم إن قوله تعالى وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالماً بأعمال الخلق كان عالماً بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيراً علمه وإن عملوا شراً علمه ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم وأما في الآخرة فالعلم بتلك الأحوال مع العقاب فقال وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وإلى مثل هذا مثل هذا أشار في قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) عقيب خلق الإنسان فنقول

أحسن إشارة إلى العلم لأن حسن الخلق بالعلم والخلق المفهوم من قوله الْخَالِقِينَ إشارة إلى القدرة ثم لما بين ذكر الابداء والاعادة كالابداء ذكره بذكر أحوالها وأوقاتها
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَة ٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ
قيل ما لبثوا في الدنيا غير ساعة وقيل ما لبثوا في القبور وقيل ما لبثوا من وقت فناء الدنيا إلى وقت النشور كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ يصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ
قوله وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ من الملائكة وغيرهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ونحن نبين ما هو المعنى اللطيف في هاتين الآيتين فنقول الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله والموعد بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها لكن المجرم إذا حشر علم أن مصيره إلى النار فيستقل مدة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر والمؤمن إذا حشر علم أن مصيره إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد التأخير فيختلف الفريقان ويقول أحدهما إن مدة لبثنا قليل وإليه الإشارة بقوله يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَة ٍ ويقول الآخر لبثنا مديداً وإليه الإشارة بقوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ يعني كان في كاتب الله ضرب الأجل إلى يوم البعث ونحن صبرنا إلى يوم البعث فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ يعني طلبكم التأخير لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
أي لا يطلب منهم الإعتاب وهو إزالة العتب يعني التوبة التي تزيل آثار الجريمة لا تطلب منهم لأنها لا تقبل منهم

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِأايَة ٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ
قوله وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن مَثَلُ إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وإلى أنه لم يبق من جانب الرسول تقصير فإن طلبوا شيئاً آخر فذلك عناد ومن هان عليه تكذيب دليل لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ما ذكر دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا غبار عليه وعانده الخصم لأنه إما أن يعترف بورود سؤال الخصم عليه أو لا يعترف فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يقدح في الدليل أو المستدل إما بأن الدليل فاسد وإما بأن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال وكلاهما لا يجوز الاعتراف به من العالم فكيف من النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يعترف يكون الشروع في غيره موهماً أن الخصم ليس معانداً فيكون اجتراؤه على العناد في الثاني أكثر لأنه يقول العناد أفاد في الأول حيث التزم ذكر دليل آخر فإن قيل فالأنبياء عليهم السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل نقول سردوها سرداً ثم قرروها فرداً فرداً كمن يقول الدليل عليه من وجوه الأول كذا والثاني كذا والثالث كذا وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يزيده بعناده حتى يضيع الوقت فلا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدلائل فتنحط درجته فاذن لكل مكان مقال وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَة ٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ وفي توحيد الخطاب بقوله وَلَئِن جِئْتَهُمْ والجمع في قوله إِنْ أَنتُمْ لطيفة وهي أن الله تعالى قال وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِكُلّ ءايَة ٍ جاءت بها الرسل ويمكن أن يجاء بها يقولون أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون ثم بين تعالى أن ذلك بطبع الله على قلوبهم بقوله كَذالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فإن قيل من لا يعلم شيئاً أية فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه نقول المعنى هو أن من لا يعلم الآن فقد طبع الله على قلبه من قبل ثم إنه تعالى سلى قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي أن صدقك يبين وقوله وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ إشارة إلى وجوب مداومة النبي عليه الصلاة والسلام على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر إنه متقلب الرأي لا ثبات له والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين

سورة لقمان
عليه السلام
مكية كلها إلا آيتين نزلنا بالمدينة وهما وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ الآيتين وإلا آية
نزلت بالمدينة وهي الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ لأن الصلاة
والزكاة نزلتا بالمدينة وهي ثلاث وقيل أربع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الم
الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر ما قبلها هو أن الله تعالى لما قال وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ ( الروم 58 ) إشارة إلى كونه معجزة وقال وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَة ٍ ( الروم 58 ) إشارة إلى أنهم يكفرون بالآيات بين ذلك بقوله الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ولم يؤمنوا بها وإلى هذا أشار بعد هذا بقوله وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ( لقمان 7 )
تِلْكَ ءاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَة ً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
فقوله هُدًى أي بياناً وفرقاناً وأما التفسير فمثل تفسير قوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى ( البقرة 1 و 2 ) وكما قيل هناك إن المعنى بذلك هذا كذلك قيل بأن المراد بتلك هذه ويمكن أن يقال كما قلنا هناك إن تلك إشارة إلى الغائب معناها آيات القرآن آيات الكتاب الحكيم وعند إنزال هذه الآيات التي نزلت مع الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ لم تكن جميع الآيات نزلت فقال تلك إشارة إلى الكل أي آيات القرآن تلك آيات وفيه مسائل

المسألة الأولى قال في سورة البقرة ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 ) ولم يقل الحكيم وههنا قال الْحَكِيمُ فلما زاد ذكر وصف الكتاب زاد ذكر أمر في أحواله فقال هُدًى وَرَحْمَة ً وقال هناك هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 1 ) فقوله هُدًى في مقابلة قوله الْكِتَابِ وقوله وَرَحْمَة ً في مقابلة قوله الْحَكِيمُ ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكم كقوله تعالى فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضا
المسألة الثانية قال هناك لّلْمُتَّقِينَ وقال ههنا لّلْمُحْسِنِينَ لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال لّلْمُتَّقِينَ أي يهتدي به من يتقي الشرك والعناد والتعصب وينظر فيه من غير عناد ولما زاد ههنا رحمة قال لّلْمُحْسِنِينَ أي المتقين الشرك والعناد الآتين بكلمة الإحسان فالمحسن هو الآتي بالإيمان والمتقي هو التارك للكفر كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل 128 ) ومن جانب الكفر كان متقياً وله الجنة ومن أتى بحقيقة الإيمان كان محسناً وله الزيادة لقوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) ولأنه لما ذكر أنه رحمة قال لّلْمُحْسِنِينَ لأن رحمة الله قريب من المحسنين
المسألة الثالثة قال هناك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ ( البقرة 3 ) وقال ههنا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ ولم يقل يؤمنون لما بينا أن المتقي هو التارك للكفر ويلزمه أن يكون مؤمناً والمحسن هو الآتي بحق الإيمان ويلزمه أن لا يكون كافراً فلما كان المتقي دالاً على المؤمن في الالتزام صرح بالإيمان هناك تبييناً ولما كان المحسن دالاً على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان وقوله تعالى الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ قد ذكرنا ما في الصلاة وإقامتها مراراً وما في الزكاة والقيام بها وذكرنا في تفسير الأنفال في أوائلها أن الصلاة ترك التشبه بالسيد فإنها عبادة صورة وحقيقة والله تعالى تجب له العبادة ولا تجوز عليه العبادة وترك التشبه لازم على العبد أيضاً في أمور فلا يجلس عند جلوسه ولا يتكىء عند اتكائه والزكاة تشبه بالسيد فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات والتشبه لازم على العبد أيضاً في أمور كما أن عبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد وبهما تتم العبودية
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه الأول أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح الثاني هو أن الحديث إذا كان لهواً لا فائدة فيه كان أقبح الثالث هو أن اللهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( روحوا القلوب ساعة فساعة ) رواه الديلمي عن أنس مرفوعاً ويشهد له ما في مسلم ( يا حنظلة ساعة وساعة ) والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز

من المطايبة والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كان فعله أدخل في القبح
ثم قال تعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ عائد إلى الشراء أي يشتري بغير علم ويتخذها أي يتخذ السبيل أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ قوله مُّهِينٌ إشارة إلى أمر يفهم منه الدوام وذلك لأن الملك إذا أمر بتعذيب عبد من عبيده فالجلاد إن علم أنه ممن يعود إلى خدمة الملك ولا يتركه الملك في الحبس يكرمه ويخفف من تعذيبه وإن علم أنه لا يعود إلى ما كان عليه وأمره قد انقضى فإنه لا يكرمه فقوله عَذَابٌ مُّهِينٌ إشارة إلى هذا وبه يفرق بين عذاب المؤمن وعذاب الكافر فإن عذاب المؤمن ليطهر فهو غير مين
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
أي يشتري الحديث الباطل والحق الصراح يأتيه مجاناً يعرض عنه وإذا نظرت فيه فهمت حسن هذا الكلام من حيث إن المشتري يطلب المشترى مع أنه يطلبه ببذل الثمن ومن يأتيه الشيء لا يطلبه ولا يبذل شيئاً ثم إن الواجب أن يطلب العاقل الحكمة بأي شيء يجده ويشتريها وهم ما كانوا يطلبونها وإذا جاءتهم مجاناً ما كانوا يسمعونها ثم إن فيه أيضاً مراتب الأولى التولية عن الحكمة وهو قبيح والثاني الاستكبار ومن يشتري حكاية رستم وبهرام ويحتاج إليها كيف يكون مستغنياً عن الحكمة حتى يستكبر عنها وإنما يستكبر الشخص عن الكلام وإذا كان يقول أنا أقول مثله فمن لا يقدر يصنع مثل تلك الحكايات الباطلة كيف يستكبر على الحكمة البالغة التي من عند الله الثالث قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة الرابع قوله كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً أدخل في الإعراض ثم قال تعالى فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي له عذاب مهين بشره أنت به وأوعده أو يقال إذا كان حاله هذا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

لما بين حال من إذا تتلى عليه الآيات ولى بين حال من يقبل على تلك الآيات ويقبلها وكما أن ذلك له مراتب من التولية والاستكبار فهذا له مراتب من الإقبال والقبول والعمل به فإن من سمع شيئاً وقبله قد لا يعمل به فلا تكون درجته مثل من يسمع ويطيع ثم إن هذا له جنات النعيم ولذلك عذاب مهين وفيه لطائف إحداها توحيد العذاب وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة واسعة أكثر من الغضب الثانية تنكير العذاب وتعريف الجنة بالإضافة إلى المعرف إشارة إلى أن الرحيم يبين النعمة ويعرفها إيصالاً للراحة إلى القلب ولا يبين النقمة وإنما ينبه عليها تنبيهاً الثالثة قال عذاب ولم يصرح بأنهم فيه خالدون وإنما أشار إلى الخلود بقوله مُّهِينٌ وصرح في الثواب بالخلود بقوله خَالِدِينَ فِيهَا الرابعة أكد ذلك بقوله وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ولم يذكره هناك الخامسة قال هناك لغيره فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ وقال ههنا بنفسه وَعَدَ اللَّهُ ثم لم يقل أبشركم به لأن البشارة لا تكون إلا بأعظم ما يكون لكن الجنة دون ما يكون للصالحين بشارة من الله وإنما تكون بشارتهم منه برحمته ورضوانه كما قال تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( التوبة 21 ) ولولا قوله مِنْهُ لما عظمت البشارة ولو كانت مِنْهُ مقرونة بأمر دون الجنة لكان ذلك فوق الجنة من غير إضافة فإن قيل فقد بشر بنفس الجنة بقوله وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( فصلت 30 ) نقول البشارة هناك لم تكن بالجنة وحدها بل بها وبما ذكر بعدها إلى قوله تعالى نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ والنزل ما يهيأ عند النزول والإكرام العظيم بعده وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كامل القدرة يعذب المعرض ويثيب المقبل كامل العلم يفعل الأفعال كما ينبغي فلا يعذب من يؤمن ولا يثيب من يكفر
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الأرض رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة ٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
ثم قال تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
بين عزته وحكمته بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ اختلف قول العلماء في السموات فمنهم من قال إنها مبسوطة كصفيحة مستوية وهو قول أكثر المفسرين ومنهم من قال إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين والغزالي رحمه الله قال نحن نوافقهم في ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله فضلاً من أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحاً بل فيه ما يدل على الاستدارة كما قال تعالى كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) والفلك اسم لشيء مستدير بل الواجب أن يقال بأن السموات سواء كانت مستديرة أو مصفحة فهي مخلوقة بقدرة الله لا موجودة بإيجاب وطبع وإذا علم هذا فنقول السماء في مكان وهو فضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس إلا بقدرة مختارة وإليه الإشارة بقوله بِغَيْرِ عَمَدٍ أي ليس على شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي لا تزول إلا بقدرة الله تعالى وقال بعضهم المعنى أن السموات بأسرها ومجموعها لا مكان لها لأن المكان ما يعتمد عليه ما فيه فيكون متمكناً والحيز ما يشار إلى ما فيه بسببه يقال ههنا وهناك على هذا قالوا إن من يقع من شاهق جبل فهو في الهواء في حيز إذ يقال له هو ههنا وهناك وليس في مكان إذ لا يعتمد على شيء فإذا حصل على الأرض حصل في مكان إذا علم هذا فالسموات ليس في مكان تعتمد عليه فلا عمد لها وقوله تَرَوْنَهَا فيه وجهان أحدهما أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد والثاني أنه راجع إلى العمد أي بغير عمد مرئية وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته

ثم قال تعالى وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن
أي جبالاً راسية ثابتة أَن تَمِيدَ أي كراهية أن تميد وقيل المعنى أن لا تميد واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما نرى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع ثم قال تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ أي سكون الأرض فيه مصلحة حركة الدواب مأسكنا الأرض وحركنا الدواب ولو كانت الأرض متزلزلة وبعض الأراضي يناسب بعض الحيوانات لكانت الدابة التي لا تعيش في موضع تقع في ذلك الموضع فيكون فيه هلاك الدواب أما إذا كانت الأرض ساكنة والحيوانات متحركة تتحرك في المواضع التي تناسبها وترعى فيها وتعيش فيها ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء هذه نعمة أخرى أنعمها الله على عباده وتمامها بسكون الأرض لأن البذر إذا لم يثبت إلى أن ينبت لم يكن يحصل الزرع ولو كانت أجزاء الأرض متحركة كالرمل لما حصل الثبات ولما كمل النبات والعدول من المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاماً طويلاً من نمط واحد ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا وقال خالد كذا وكذا وقال عمرو كذا ثم إن بكراً قال قولاً حسناً يستطاب لما قد تكرر القول مراراً وأما الحكمة فمن وجهين أحدهما أن خلق الأرض ثقيل والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة لأن لها اختيار فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان ولكن لا يشك أحد في أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعاً فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختياراً إذ الماء لا اختيار له فهو بإرادة الله تعالى فقال وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء الثاني هو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان متكثرة في كل مكان فأسنده إلى نفسه صريحاً ليتنبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته وقوله تعالى فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ أي من كل جنس وكل جنس فتحته زوجان لأن النبات إما أن يكون شجراً وإما أن يكون غير شجر والذي هو الشجر إما أن يكون مثمراً وإما أن يكون غير مثمر والمثمر كذلك ينقسم قسمين وقوله تعالى كَرِيمٌ أي ذي كرم لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مكرم مثل بغض للمبغض
هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
قوله تعالى هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ يعني الله خالق وغيره ليس بخالق فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق
ثم قال تعالى بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي بين أو مبين للعاقل أنه ضلال وهذا لأن ترك

الطريق والحيد عنه ضلال ثم إن كان الحيد يمنة أو يسرة فهو لا يبعد عن الطريق المستقيم مثل ما يكون المقصد إلى وراء فإنه يكون غاية الضلال فالمقصد هو الله تعالى فمن يطلبه ويلتفت إلى غيره من الدنيا وغيرها فهو ضال لكن من وجهه إلى الله قد يصل إلى المقصود ولكن بعد تعب وطول مدة ومن يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكون كالذي على الطريق المستقيم يصل عن قريب من غير تعب وأما الذي تولى لا يصل إلى المقصود أصلاً وإن دام في السفر والمراد بالظالمين المشركون الواضعون لعبادتهم في غير موضعها أو الواضعون أنفسم في عبادة غير الله
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ حَمِيدٌ
قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ لما بين الله فساد اعتقادهم بسبب عنادهم بإشراك من لا يخلق شيئاً بمن خلق كل شيء بقوله هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ وبين أن المشرك ظالم ضال ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة وإن لم يكن هناك نبوة وهذا إشارة إلى معنى وهو أن اتباع النبي عليه السلام لازم فيما لا يعقل معناه إظهاراً للتعبد فكيف ما لا يختص بالنبوة بل يدرك بالعقل معناه وما جاء به النبي عليه السلام مدرك بالحكمة وذكر حكاية لقمان وأنه أدركه بالحكمة وقوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ عبارة عن توفيق العمل بالعلم فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة وإن أردنا تحديدها بما يدخل فيه حكمة الله تعالى فنقول حصول العمل على وفق المعلوم والذي يدل على ما ذكرنا أن من تعلم شيئاً ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيماً وإنما يكون مبخوتاً ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال إنه حكيم وإن ظهر لفعله مصلحة وخلو عن مفسدة لعدم علمه به أولاً ومن يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس ويلقي نفسه من ذلك المكان وتنكسر أعضاؤه لا يقال إنه حكيم وإن علم ما يكون في فعله ثم الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى أَنِ اشْكُرْ للَّهِ فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ففسر الله إيتاء الحكمة بقوله أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وهو كذلك لأن من جملة ما يقال إن العمل موافق للعلم لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقاً لعلمه وكان حكمة وإن أهمل الأهم كان مخالفاً للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء لكن شكر الله أهم الأشياء فالحكمة أول ما تقتضي ثم إن الله تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وبين أن بالكفران لا يتضرر غير الكافر بقوله وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ حَمِيدٌ أي الله غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه وفي الآية مسائل ولطائف الأولى فسر الله إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة والجواب أن قوله تعالى أَنِ اشْكُرْ للَّهِ أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف
المسألة الثانية قال في الشكر ومن يشكر بصيغة المستقبل وفي الكفران ومن كفر فإن الله غني وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد كقول القائل من دخل داري فهو حر ومن يدخل داري فهو حر فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر

النعمة فمن شكر ينبغي أن يكرر والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله بل أبداً يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود كما قال رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ( النمل 19 ) وكما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيهاً على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام فقال بصيغة الماضي
المسألة الثالثة قال تعالى هنا وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ بتقديم الشكر على الكفران وقال في سورة الروم وَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( الروم 44 ) فنقول هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) وههنا الذكر للترغيب لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد وقوله وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً يحقق ما ذكرنا أولاً لأن المذكور في سورة الروم لما كان بعد اليوم الذي لا مرد له تكون الأعمال قد سبقت فقال بلفظ الماضي ومن عمل وههنا لما كان المذكور في الابتداء قال وَمَن يَشْكُرْ بلفظ المستقبل وقوله وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عن حمد الحامدين حميد في ذاته من غير حمدهم وإنما الحامد ترتفع مرتبته بكونه حامداً لله تعالى
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
عطف على معنى ما سبق وتقديره آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه وحين جعلناه واعظاً لغيره وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملاً في نفسه ومكملاً لغيره فقوله أَنِ اشْكُرْ إشارة إلى الكمال وقوله وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ إشارة إلى التكميل وفي هذا لطيفة وهي أن الله ذكر لقمان وشكر سعيه حيث أرشد ابنه ليعلم منه فضيلة النبي عليه السلام الذي أرشد الأجانب والأقارب فإن إرشاد الولد أمر معاد وأما تحمل المشقة في تعليم الأباعد فلا ثم إنه في الوعظ بدأ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أما أنه ظلم فلأنه وضع للنفس الشريف المكرم بقوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) في عبادة الخسيس أو لأنه وضع العبادة في غير موضعها وهي غير وجه الله وسبيله وأما أنه عظيم فلأنه وضع في موضع ليس موضعه ولا يجوز أن يكون موضعه وهذا لأن من يأخذ مال زيد ويعطي عمراً يكون ظلماً من حيث إنه وضع مال زيد في يد عمرو ولكن جائز أن يكون ذلك ملك عمرو أو يصير ملكه ببيع سابق أو بتمليك لاحق وأما الإشراك فوضع المعبودية في غير الله تعالى ولا يجوز أن يكون غيره معبوداً أصلاً

وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَى َّ الْمَصِيرُ
لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبة منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير الله في بعض الصور مثل خدمة الأبوين ثم بين السبب فقال حَمَلَتْهُ أُمُّهُ يعني لله على العبيد نعمة الإيجاد ابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق وجعل بفضله لأم ما له صورة ذلك وإن لم يكن لها حقيقة فإن الحمل به يظهر الوجود وبالرضاع يحصل التربية والبقاء فقال حملته أمه أي صارت بقدرة الله سبب وجوده وفصاله في عامين أي صارت بقدرته أيضاً سبب بقائه فإذا كان منها ما له صورة الوجود والبقاء وجب عليه ما له شبه العبادة من الخدمة فإن الخدمة لها صورة العبادة فإن قال قائل وصى الله بالوالدين وذكر السبب في حق الأم فنقول خص الأم بالذكر وفي الأب ما وجد في الأم فإن الأب حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ وقوله أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ لما كان الله تعالى بفضله جعل من الوالدين صورة ما من الله فإن الوجود في الحقيقة من الله وفي الصورة يظهر من الوالدين جعل الشكر بينهما فقال أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ ثم بين الفرق وقال إِلَى َّ الْمَصِيرُ يعني نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي في الدنيا والآخرة فإن إلي المصير أو نقول لما أمر بالشكر لنفسه وللوالدين قال الجزاء على وقت المصير إلي
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَى َّ ثُمَّ إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يعني أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما وقد ذكرنا تفسير الآية في العنكبوت وقال ههنا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَى َّ يعني صاحبهما بجسمك فإن حقهما على جسمك واتبع سبيل النبي عليه السلام بعقلك فإنه مربي عقلك كما أن الوالد مربي جسمك
يابُنَى َّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الأرض يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
لما قال فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وقع لابنه أن ما يفعل في خفية يخفي فقال وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا أي الحسنة والسيئة إن كانت في الصعر مثل حبة خردل وتكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا تخفي على الله وفيه مسائل

المسألة الأولى قوله فَتَكُنْ بالفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفية في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب
المسألة الثانية لو قيل الصخرة لا بد من أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها ولأن القائل لو قال هذا رجل أو امرأة أو ابن عمرو لا يصح هذا الكلام لكون ابن عمرو داخلاً في أحد القسمين فكيف يفهم هذا فنقول الجواب عنه من أوجه أحدها ما قاله بعض المفسرين وهو أن المراد بالصخرة صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء والثاني ما قاله الزمخشري وهو أن فيه إضماراً تقديره فتكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض والثالث أن نقول تقديم الخاص وتأخير العام في مثل هذا التقسيم جائز وتقديم العام وتأخير الخاص غير جائز أما الثاني فلما بينتم أن من قال هذا في دار زيد أو في غيرها أو في دار عمرو لا يصح لكون دار عمرو داخلة في قوله أو في غيرها وأما الأول فلأن قول القائل هذا في دار زيد أو في دار عمرو أو في غيرها صحيح غير قبيح فكذلك ههنا قدم الأخص أو نقول خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصغر ومنها أن يكون بعيداً ومنها أن يكون في ظلمة ومنها أن يكون من وراء حجاب فإن انتفت الأمور بأسرها بأن يكون كبيراً قريباً في ضوء من غير حجاب فلا يخفى في العبادة فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ إشارة إلى الصغر وقوله فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ إشارة إلى الحجاب وقوله أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد وقوله أَوْ فِى الاْرْضِ إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأن من يظهر له الشيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره فقوله يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يظهرها الله للإشهاد وقوله إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي نافذ القدرة خَبِيرٌ أي عالم ببواطن الأمور
يابُنَى َّ أَقِمِ الصَّلَواة َ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ
لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزمه من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصاً وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئتها اختلفت
ثم قال تعالى وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم فإن قال قائل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وقبل قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فإنه أول ما قال يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ ثم قال لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلَواة َ فنقول هو كان يعمل من ابنه أنه معترف بوجود الله فما أمره بهذا المعروف ونهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف فإن المشرك بالله لا يكون نافياً لله في الاعتقاد وإن كان يلزمه نفيه بالدليل فكان كل معروف في مقابلته منكر والمعروف في

معرفة الله اعتقاد وجوده والمنكر اعتقاد وجود غيره معه فلم يأمره بذلك المعروف لحصوله ونهاه عن المنكر لأنه ورد في التفسير أن ابنه كان مشركاً فوعظه ولم يزل يعظه حتى أسلم وأما ههنا فأمر أمراً مطلقاً والمعروف مقدم على المنكر ثم قال تعالى وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ يعني أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذي فأمره بالصبر عليه وقوله إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ أي من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة ويكون المصدر بمعنى المفعول كما تقول أكلي في النهار رغيف خبز أي مأكولي
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
لما أمره أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكان يخشى بعدهما من أمرين أحدهما التكبر على الغير بسبب كونه مكملاً له والثاني التبختر في النفس بسبب كونه كاملاً في نفسه فقال وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ تكبراً وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا تبختراً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ يعني من يكون به خيلاء وهو الذي يرى الناس عظمة نفسه وهو التكبر فَخُورٌ يعني من يكون مفتخراً بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه وفي الآية لطيفة وهو أن الله تعالى قدم الكمال على التكميل حيث قال أَقِمِ الصَّلَواة َ ثم قال وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وفي النهي قدم ما يورثه التكميل على ما يورثه الكمال حيث قال وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ ثم قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا لأن في طرف الإثبات من لا يكون كاملاً لا يمكن أن يصير مكملاً فقدم الكمال وفي طرف النفي من يكون متكبراً على غيره متبختراً لأنه لا يتكبر على الغير إلا عند اعتقاده أنه أكبر منه من وجه وأما من يكون متبختراً في نفسه لا يتكبر ويتوهم أنه يتواضع للناس فقدم نفي التكبر ثم نفي التبختر لأنه لو قد نفي التبختر للزم منه نفي التكبر فلا يحتاج إلى النهي عنه ومثاله أنه لا يجوز أن يقال لا تفطر ولا تأكل لأن من لا يفطر لا يأكل ويجوز أن يقال لا تأكل ولا تفطر لأن من لا يأكل قد يفطر بغير الأكل ولقائل أن يقول إن مثل هذا الكلام يكون للتفسير فيقول لا تفطر ولا تأكل أي لا تفطر بأن تأكل ولا يكون نهيين بل واحداً
وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاٌّ صْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ
لما قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهداً فقال وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ أي كن وسطاً بين الطرفين المذمومين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي فنقول نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه الأول هو أن الإنسان لما كان شريفاً تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطراً فأقدر الله

الإنسان على تحصيلها بالمشي فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشياً إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة الفصيل بالثغاء والخوار والرغاء ولكن لا تتعدى إلى غيرها والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر الثاني هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا لله وقد أشار إليه بقوله إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ أي أصلح ضميرك فإن الله خبير بقي الأمران فقال وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال الثالث هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه فقوله وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان فإن الملك لا يأمر ملكاً آخر بشيء ولا ينهاه عن شيء وقوله وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحاً الذي هو إشارة إلى عدم التكبر والتبختر إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة فإن عدم التكبر والتبختر صفتهم وقوله وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان ثم قال تعالى إِلَى َّ أَنكَرَ الاْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي نقول أما على قولنا إن المشي والصوت كلاهما موصلان إلى شخص مطلوب إن أدركه بالمشي إليه فذاك وإلا فيوقفه بالنداء فنقول رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن وأما السرعة في المشي فلا تؤذي أو إن كانت تؤذي فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإن الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ولا كذلك المشي وأما على قولنا الإشارة بالشيء والصوت إلى الأفعال والأقوال فلأن القول قبيحه أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب والاعتبار يصحح الدعوى
المسألة الثانية كيف يفهم كونه أنكر مع أن مس المنشار بالمبرد وحت النحاس بالحديد أشد تنفيراً نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن المراد أن أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد ما ذكرتم وما ذكرتم في أكثر الأمر لمصلحة وعمارة فلا ينكر بخلاف صوت الحمير وهذا وهو الجواب الثاني
المسألة الثالثة أنكر هو أفعل التفضيل فمن أي باب هو نقول يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه بمعنى أشدها طاعة فإن أفعل لا يجىء في مفعل ولا في مفعول ولا في باب العيوب إلا ما شذ كقولهم أطوع من كذا للتفضيل على المطيع وأشغل من ذات النحيين للتفضيل على المشغول وأحمق من فلان من باب العيوب وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول فيكون للتفضيل على المنكر أو نقول هو من باب أشغل مأخوذاً من نكر الشيء فهو منكر وهذا أنكر منه وعلى هذا فله معنى لطيف وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق فصوته منكور ويمكن أن يقال هو من نكير كأجدر من جدير

أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وَبَاطِنَة ً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
لما استدل بقوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ على الوحدانية وبين بحكاية لقمان أن معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة وما جاء به النبي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة ولو كان تعبداً محضاً للزم قبوله فضلاً عن أنه على وفق الحكمة استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مراراً أن الملك يخدم لعظمته وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضاً فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي وذكر بعض النعم بقوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء ( المؤمنون 18 ) ذكر بعده عامة النعم فقال سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ أي سخر لأجلكم ما في السموات فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله وفيها فوائد لعباده وسخر ما في الأرض لأجل عباده وقوله وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وهي ما في الأعضاء من السلامة وَبَاطِنَة ً وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم وكذلك كل عضو وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائماً وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يكون إشارة إلى النعم الآفاقية وقوله وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وَبَاطِنَة ً يكون إشارة إلى النعم الأنفسية وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولاً منقولاً وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغاً معقولاً
ثم قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في الله ويثبت غيره إما إلهاً أو منعماً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي فقال تعالى يُجَادِلُ ذلك المجادل لا من علم واضح ولا من هدى أتاه من هاد ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علماً كما قال تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) والثاني إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) والثالث إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وقال في هذه السورة هُدًى وَرَحْمَة ً لّلْمُحْسِنِينَ ( لقمان 3 ) وقال في السجدة وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْراءيلَ ( الإسراء 2 ) فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام والنبي هداه من الله تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين فقال تعالى يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفاً ولا بهدى أرسلناه إليه وحياً ولا بكتاب يتلى عليه وعظاً ثم فيه لطيفة أخرى وهو أنه

تعالى قال في الكتاب وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف فلو قال ولا كتاب لكان لقائل أن يقول لا يجادل من غير كتاب فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم فقال وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ فإن ذلك الكتاب مظلم ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَة ُ الاٌّ مُورِ
قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإن النبي عليه السلام يدعوهم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم وبين كلام الله تعالى وكلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهلاء ثم إن ههنا شيئاً آخر وهو أنهم قالوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا يعني نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل والقول أدل من الفعل لأن الفعل يحتمل أن يكون جائزاً ويحتمل أن يكون حراماً وهم تعاطوه ويحتمل أن يكون واجباً في اعتقادهم والقول بين الدلالة فلو سمعنا قول قائل افعل ورأينا فعله يدل على خلاف قوله لكان الواجب الأخذ بالقول فكيف والقول من الله والفعل من الجهال ثم قال تعالى أَوْ لَّوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ استفهاماً على سبيل التعجب في الإنكار يعني الشيطان يدعوهم إلى العذاب والله يدعو إلى الثواب وهم مع هذا يتبعون الشيطان ثم قال تعالى وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَة ُ الاْمُورِ لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المسلم المستسلم لأمر الله فقوله وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ إشارة إلى الإيمان وقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ إشارة إلى العمل الصالح فتكون الآية في معنى قوله تعالى مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وقوله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى أي تمسك بحبل لا انقطاع له وترقى بسببه إلى أعلى المقامات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ههنا وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وقال في سورة البقرة بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فعدى ههنا بإلى وهناك باللام قال الزمخشري معنى قوله أَسْلَمَ لِلَّهِ أي جعل نفسه لله سالماً أي خالصاً والوجه بمعنى النفس والذات ومعنى قوله يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ يسلم نفسه إلى الله كما يسلم واحد متاعاً إلى غيره ولم يزد على هذا ويمكن أن يزاد عليه ويقال من أسلم لله أعلى درجة ممن يسلم إلى الله لأن إلى للغاية واللام للاختصاص يقول القائل أسلمت وجهي إليك أي توجهت نحوك وينبىء هذا عن عدم الوصول

لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول وقوله أسلمت وجهي لك يفيد الاختصاص ولا ينبىء عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول إذا علم هذا فنقول في البقرة قالت اليهود والنصارى لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) فقال الله رداً عليهم تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( البقرة 111 ) ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أنتم مع أنكم تتركون الله للدنيا وتولون عنه للباطل وتشترون بآياته ثمناً قليلاً تدخلون ( النار ) ومن كان بكليته لله لا يدخلها هذا كلام باطل فأورد عليهم من أسلم لله ولا شك أن النقض بالصورة التي هي ألزم أولى فأورد عليهم المخلص الذي ليس له أمر إلا الله وقال أنتم تدخلون الجنة وهذا لا يدخلها ثم بين كذبهم وقال بلى وبين أن له فوق الجنة درجة وهي العندية بقوله فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وأما ههنا أراد وعد المحسن بالثواب والوصول إلى الدرجة العالية فوعد من هو دونه ليدخل فيه من هو فوقه بالطريق الأولى ويعم الوعد وهذا من الفوائد الجليلة ثم قال تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى أوثق العرى جانب الله لأن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له ثم قال تعالى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَة ُ الاْمُورِ يعني استمسك بعروة توصله إلى الله وكل شيء عاقبته إليه فإذا حصل في الحال ما إليه عاقبته في عاقبته في غاية الحسن وذلك لأن من يعلم أن عاقبة الأمور إلى واحد ثم يقدم إليه الهدايا قبل الوصول إليه يجد فائدته عند القدوم عليه وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 110 )
وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ
لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ أي لا تحزن إذا كفر كافر فإن من يكذب وهو قاطع بأن صدقه يتبين عن قريب لا يحزن بل قد يؤنب المكذب على الزيادة في التكذيب إذا لم يكن من الهداة ويكون المكذب من العداة ليخجله غاية التخجيل وأما إذا كان لا يرجو ظهور صدقه يتألم من التكذيب فقال فلا يحزنك كفره فإن المرجع إلي فأنبئهم بما عملوا فيخجلون وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم وذات الصدور هي المهلك ثم إن الله تعالى فصل ما ذكرنا وقال نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً أي بقاؤهم مدة قليلة ثم بين لهم وبال تكذيبهم وكفرهم بقوله ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي نسلط عليهم أغلظ عذاب حتى يدخلوا بأنفسهم عذاباً غليظاً فيضطرون إلى عذاب النار فراراً من الملائكة الغلاظ الشداد الذين يعذبونهم بمقامع من نار وفيه وجه آخر لطيف وهو أنهم لما كذبوا الرسل ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون النار ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء وهو يتحقق بقوله تعالى فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
الآية متعلقة بما قبلها من وجهين أحدهما أنه تعالى لما استدل بخلق السموات بغير عمد وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له وهذا يقتضي أن يكون الحمد كله لله لأن خالق السموات والأرض يحتاج إليه كل ما في السموات والأرض وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره لكنهم لا يعلمون هذا والثاني أن الله تعالى لما سلى قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم أي لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب عند رجوعهم إلينا قال وليس لا يتبين إلا ذلك اليوم بل هو يتبين قبل يوم القيامة لأنهم معترفون بأن خلق السموات والأرض من الله وهذا يصدقك في دعوى الوحدانية ويبين كذبهم في الإشراك فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ على ظهور صدقك وكذب مكذبيك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك وعلى هذا يكون لا يعلمون استعمالاً للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية كما يقول القائل فلأن يعطي ويمنع ولا يكون في ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاءً ومنعاً فكذلك ههنا قال لا يعلمون أي ليس لهم علم وعلى الأول يكون لا يعلمون له مفعول مفهوم وهو أنهم لا يعلمون أن الحمد كله لله والثاني أبلغ لأن قول القائل فلان لا علم له بكذا دون قوله فلان لا علم له وكذا قوله فلان لا ينفع زيداً ولا يضره دون قوله فلان لا يضر ولا ينفع
لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ
ذكر بما يلزم منه وهو أنه يكون له ما فيهما والأمر كذلك عقلاً وشرعاً أما عقلاً فلأن ما في السموات المخلوقة مخلوق وإضافة خلقه إلى من منه خلق السموات والأرض لازم عقلاً لأنها ممكنة والممكن لا يقع ولا يوجد إلا بواجب من غير واسطة كما هو مذهب أهل السنة أو بواسطة كما يقوله غيرهم وكيفما فرض فكله من الله لأن سبب السبب سبب وأما شرعاً فلأن من يملك أرضاً وحصل منها شيء ما يكون ذلك لمالك الأرض فكذلك كل ما في السموات والأرض حاصل فيهما ومنهما فهو لمالك السموات والأرض وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله لله ثم قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ فيه معان لطيفة أحدها أن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وفيها منافع فهي لكم خلقها فهو غني لعدم حاجته حميد مشكور لدفعه حوائجكم بها وثانيها أن بعد ذكر الدلائل على أن الحمد كله لله ولا تصلح العبادة إلا لله افترق المكلفون فريقين مؤمن وكافر والكافر لم يحمد الله والمؤمن حمده فقال إنه عني عن حمد الحامدين فلا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين وحميد في نفسه فيتبين به إصابة المؤمنين وتكمل بحمده الحامدون وثالثها هو أن السموات وما فيها والأرض وما فيها إذا كانت لله ومخلوقة له فالكل محتاجون فلا غني إلا الله فهو الغني المطلق وكل محتاج فهو حامد لاحتياجه إلى من يدفع حاجته فلا يكون الحميد المطلق إلا الغني

المطلق فهو الحميد وعلى هذا ( يكون ) الحميد بمعنى المحمود والله إذا قيل له الحميد لا يكون معناه إلا الواصف أي وصف نفسه أو عباده بأوصاف حميدة والعبد إذا قيل له حامد يحتمل ذلك المعنى ويحتمل كونه عابداً شاكراً له
وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأرض مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَة ٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
لما قال تعالى للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وكان ذلك موهماً لتناهي ملكه لانحصار ما في السموات وما في الأرض فيهما وحكم العقل الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها فقال وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ ويكتب بها والأبحر مداد لا تفني عجائب صنع الله وعلى هذا فالكلمة مفسرة بالعجيبة ووجهها أن العجائب بقوله كن وكن كلمة وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز يقول الشجاع لمن يبارزه أنا موتك ويقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح كلمة لأنه كان أمراً عجيباً وصنعاً غريباً لوجوده من غير أب فإن قال قائل الآية واردة في اليهود حيث قالوا الله ذكر كل شيء في التوراة ولم يبق شيء لم يذكره فقال الذي في التوراة بالنسبة إلى كلام الله تعالى ليس إلا قطرة من بحار وأنزل هذه الآية وقيل أيضاً إنها نزلت في واحد قال للنبي عليه السلام إنك تقول وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وتقول وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) فنزلت الآية دالة على أنه خير كثير بالنسبة إلى العباد وبالنسبة إلى الله وعلومه قليل وقيل أيضاً إنها نزلت رداً على الكفار حيث قالوا بأن ما يورده محمد سينفد فقال إنه كلام الله وهو لا ينفد وما ذكر من أسباب النزول ينافي ما ذكرتم من التفسير لأنها تدل على أن المراد الكلام فنقول ما ذكرتم من اختلاف الأقوال فيه يدل على جواز ما ذكرنا لأنه إذا صلح جواباً لهذه الأشياء التي ذكرتموها وهي متباينة علم أنها عامة وما ذكرنا لا ينافي هذا لأن كلام الله عجيب معجز لا يقدر أحد على الإتيان بمثله وإذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه لا يقال إنك جعلت الكلام مخلوقاً لأنا نقول المخلوق هو الحرف والتركيب وهو عجيب وأما الكلمات فهي من صفات الله تعالى واعلم أن الآية وإن كانت نازلة على ترتيب غير الذي هو مكتوب ولكن الترتيب المكتوب عليه القرآن بأمر الله فإنه بأمر الرسول كتب كذلك وأمر الرسول من أمر الله وذلك محقق متيقن من سنن الترتيب الذي فيه ثم إن الآية فيها لطائف الأولى قال وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وحد الشجرة وجمع الأقلام ولم يقل ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولا قال ولو أن ما في الأرض من شجرة قلم إشارة إلى التكثير يعني ولو أن بعدد كل شجرة أقلاماً الثانية قوله والبحر يمده تعريف البحر باللام لاستغراق الجنس

وكل بحر مداد ثم قوله يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ إشارة إلى بحار غير موجودة يعني لو مدت البحار الموجودة بسبعة أبحر أخر وقوله سَبْعَة ُ ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر والسبعة خصصت بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة والذي يدل عليه وجوه الأول هو أن ما هو معلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان لأن المكان فيه الأجسام والزمان فيه الأفعال لكن المكان منحصر في سبعة أقاليم والزمان في سبعة أيام ولأن الكواكب السيارة سبعة وكان المنجمون ينسبون إليها أموراً فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير الثاني هو أن الآحاد إلى العشرة وهي العقد الأول وما بعده يبتدىء من الآحاد مرة أخرى فيقال أحد عشر واثنا عشر ثم المئات من العشرات والألوف من المئات إذا علم هذا فنقول أقل ما يلتئم منه أكثر المعدودات هو الثلاثة لأنه يحتاج إلى طرفين مبدأ ومنتهى ووسط ولهذا يقال أقل ما يكون الإسم والفعل منه هو ثلاثة أحرف فإذا كانت الثلاثة هو القسم الأول من العشرة التي هو العدد الأصلي تبقى السبعة القسم الأكثر فإذا أريد بيان الكثرة ذكرت السبعة ولهذا فإن المعدودات في العبادات من التسبيحات في الانتقالات في الصلوات ثلاثة والمرار في الوضوء ثلاثة تيسيراً للأمر على المكلف اكتفاءً بالقسم الأول إذا ثبت هذا فنقول قوله عليه السلام ( المؤمن يأكل في معى والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) إشارة إلى قلة الأكل وكثرته من غير إرادة السبعة بخصوصها ويحتمل أن يقال إن لجهنم سبعة أبواب بهذا التفسير ثم على هذا فقولنا للجنة ثمانية أبواب إشارة إلى زيادتها فإن فيها الحسنى وزيادة فلها أبواب كثيرة وزائدة على كثرة غيرها والذي يدل على ما ذكرنا في السبعة أن العرب عند الثامن يزيدون واواً يقول الفراء إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للاستئناف لأن العدد بالسبعة يتم في العرف ثم بالثامن استئناف جديد اللطيفة الثالثة لم يقل في الأقلام المدد لوجهين أحدهما هو أن قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ بينا أن المراد منه هو أن يكون بعدد كل شجرة موجودة أقلام فتكون الأقلام أكثر من الأشجار الموجودة وقوله في البحر وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ إشارة إلى أن البحر لو كان أكثر من الموجود لاستوى القلم والبحر في المعنى والثاني هو أن النقصان بالكتابة يلحق المداد أكثر فإنه هو النافد والقلم الواحد يمكن أن يكتب به كتب كثيرة فذكر المدد في البحر الذي هو كالمداد
ثم قال تعالى أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لما ذكر أن ملكوته كثيراً أشار إلى ما يحقق ذلك فقال إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي كامل القدرة فيكون له مقدورات لا نهاية لها وإلا لانتهت القدرة إلى حيث لا تصلح للإيجاد وهو حكيم كامل العلم ففي علمه ما لا نهاية له فتحقق أن البحر لو كان مداداً لما نفد ما في علمه وقدرته
ثم قال تعالى مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَة ٍ لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للمعشر وقال مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَة ٍ ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى كونوا فيكونوا
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ سميع لما يقولون بصير بما يعملون فإذا كونه قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال يوجب ذلك الاجتناب التام والاحتراز الكامل

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
يحتمل أن يقال إن وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما قال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على وجه العموم ذكر منها بعض ما هو فيهما على وجه الخصوص بقوله يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وقوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ إشارة إلى ما في السموات وقوله بعد هذا أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ إشارة إلى ما في الأرض ويحتمل أن يقال إن وجهه هو أن الله تعالى لما ذكر البعث وكان من الناس من يقول وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( الجاثية 24 ) والدهر هو الليالي والأيام قال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي تنسبون إليها الموت والحياة هي بقدرة الله تعالى فقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ ثم إن قائلاً لو قال إن ذلك اختلاف مسير الشمس تارة تكون القوس التي هي فوق الأرض أكثر من التي تحت الأرض فيكون الليل أقصر والنهار أطول وتارة تكون بالعكس وتارة يتساويان فيتساويان فقال تعالى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني إن كنتم لا تعترفون بأن هذه الأشياء كلها في أوائلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسرها عائدة إلى الله تعالى فالآجال إن كانت بالمدد والمدد بسير الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إيلاج الليل في النهار يحتمل وجهين أحدهما أن يقال المراد إيلاج الليل في زمان النهار أي يجعل في الزمان الذي كان فيه النهار الليل وذلك لأن الليل إذا كان مثلاً اثنتي عشرة ساعة ثم يطول يصير الليل موجوداً في زمان كان فيه النهار وثانيهما أن يقال المراد إيلاج زمان الليل في النهار أي يجعل زمان الليل في النهار وذلك لأن الليل إذا كان كما ذكرنا اثنتي عشرة ساعة إذا قصر صار زمان الليل موجوداً في النهار ولا يمكن غير هذا لأن إيلاج الليل في النهار محال الوجود فما ذكرنا من الإضمار لا بد منه لكن الأول أولى لأن الليل والنهار أفعال والأفعال في الأزمنة لأن الزمان ظرف فقولنا الليل في زمان النهار أقرب من قولنا زمان الليل في النهار لأن الثاني يجعل الظرف مظروفاً إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ أي يوجده في وقت كان فيه النهار والله تعالى قدم إيجاد الليل على إيجاد النهار في كثير من المواضع كما في قوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ ( الإسراء 12 ) وقوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وقوله وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الجاثية 5 ) ومن جنسه قوله خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( الجاثية 5 ) وهذا إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الظلمة قد يظن بها أنها عدم النور والليل عدم النور والليل عدم النهار والحياة عدم الموت وليس كذلك إذ في الأزل لم يكن نهار ولا نور ولا حياة لممكن ولا يمكن أن يقال كان فيه موت أو ظلمة أو ليل فهذه الأمور كالأعمى والأصم فالعمي والصمم

ليس مجرد عدم البصر وعدم السمع إذ الحجر والشجر لا بصر لهما ولا سمع ولا يقال لشيء منهما إنه أصم أو أعمى إذا علم هذا فنقول ما يتحقق فيه العمى والصمم لا بد من أن يكون فيه اقتضاء لخلافهما وإلا لما كان يقال له أعمى وأصم وما يكون فيه اقتضاء شيء ويترتب عليه مقتضاه لا تطلب النفس له سبباً لأن من يرى المتعيش في السوق لا يقول لم دخل السوق وما يثبت على خلاف المقتضى تطلب النفس له سبباً كمن يرى ملكاً في السوق يقول لم دخل فإذن سبب العمى والصمم يطلبه كل واحد فيقول لم صار فلان أعمى ولا يقول لم صار فلان بصيراً وإذا كان كذلك قدم الله تعالى ما تطلب النفس سببه وهو الليل الذي هو على وزان العمى والظلمة والموت لكون كل واحد طالباً سببه ثم ذكر بعده الأمر الآخر
المسألة الثانية قال يُولِجُ بصيغة المستقبل وقال في الشمس والقمر سخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل فصل بل كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ ( ي س 39 )
المسألة الثالثة قدم الشمس على القمر مع تقدم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لما بينا أن تقديم الليل كان لأن الأنفس تطلب سببه أكثر مما تطلب سبب النهار وههنا كذلك لأن الشمس لما كانت أكبر وأعظم كانت أعجب والنفس تطلب سبب الأمر العجيب أكثر مما تطلب سبب الأمر الذي لا يكون عجيباً
المسألة الرابعة ما تعلق قوله تعالى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بما تقدم نقول لما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله
المسألة الخامسة قوله تعالى أَلَمْ تَرَ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعليه الأكثرون وكأنه ترك الخطاب مع غيره لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة للخطاب معهم لإصرارهم ومن هو غيره من المؤمنين فهم مؤتمرون بأمر النبي عليه الصلاة والسلام ناظرون إليه الوجه الثاني أن يقال المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولا يعين أحداً فيقول لجمع عظيم يا مسكين إلى الله مصيرك فمن نصيرك ولماذا تقصيرك فقوله أَلَمْ تَرَ يكون خطاباً من ذلك القبيل أي يا أيها الغافل ألم تر هذا الأمر الواضح
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ
ولما ذكر تعالى أوصاف الكمال بقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ ( لقمان 26 ) وقوله أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 220 ) وقوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( المجادلة 1 ) وأشار إلى الإرادة والكمال بقوله مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 ) وبقوله يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وعلى الجملة فقوله هُوَ الْغَنِى ُّ إشارة إلى كل صفة سلبية فإنه إذا كان غنياً لا يكون عرضاً محتاجاً إلى الجوهر في القوام ولا جسماً محتاجاً إلى الحيز في الدوام ولا شيئاً من الممكنات المحتاجة إلى

الموجد وذكر بعده جميع الأوصاف الثبوتية صريحاً وتضمناً فإن الحياة في ضمن العلم والقدرة قال ذلك بأن الله هو الحق أي ذلك الاتصاف بأنه هو الحق والحق هو الثبوت والثابت الله وهو الثابت المطلق الذي لا زوال له وهو الثبوت فإن المذهب الصحيح أن وجوده غير حقيقته فكل ما عداه فله زوال نظراً إليه والله له الثبوت والوجود نظراً إليه فهو الحق وما عداه الباطل لأن الباطل هو الزائل يقال بطل ظله إذا زال وإذا كان له الثبوت من كل وجه يكون تاماً لا نقص فيه
ثم اعلم أن الحكماء قالوا الله تام وفوق التمام وجعلوا الأشياء على أربعة أقسام ناقص ومكتف وتام وفوق التمام ( فالناقص ) ما ليس له ما ينبغي أن يكون له كالصبي والمريض والأعمى ( والمكتفي ) وهو الذي أعطى ما يدفع به حاجته في وقته كالإنسان والحيوان الذي له من الآلات ما يدفع به حاجته في وقتها لكنها في التحلل والزوال ( والتام ) ما حصل له كل ما جاز له وإن لم يحتج إليه كالملائكة المقربين لهم درجات لا تزداد ولا ينقص الله منها لهم شيئاً كما قال جبريل عليه السلام ( لو دنوت أنملة لاحترقت ) لقوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) ( وفوق التمام ) هو الذي حصل له ما جاز له وحصل لما عداه ما جاز له أو احتاج إليه لكن الله تعالى حاصل له كل ما يجوز له من صفات الكمال ونعوت الجلال فهو تام وحصل لغيره كل ما جاز له أو احتاج إليه فهو فوق التمام إذا ثبت هذا فنقول قوله هُوَ الْحَقُّ إشارة إلى التمام وقوله وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ أي فوق التمام وقوله وَهُوَ الْعَلِى ُّ أي في صفاته وقوله الْكَبِيرُ أي في ذاته وذلك ينافي أن يكون جسماً في مكان لأنه يكون حينئذ جسداً مقدراً بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيراً بالنسبة إلى المفروض لكنه كبير من مطلقاً أكبر من كل ما يتصور
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ ءَايَاتِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
ثم قال تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءايَاتُهُ لما ذكر آية سماوية بقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( لقمان 29 ) وأشار إلى السبب والمسبب ذكر آية أرضية وأشار إلى السبب والمسبب فقوله الْفُلْكَ تَجْرِى إشارة إلى المسبب وقوله بِنِعْمَتِ اللَّهِ إشارة إلى السبب أي إلى الريح التي هي بأمر الله لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءايَاتِهِ يعنى يريكم بإجرائها بنعمته مّنْ ءايَاتِهِ أي بعض آياته ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ صبار في الشدة شكور في الرخاء وذلك لأن المؤمن متذكر عند الشدة والبلاء عند النعم والآلاء فيصبر إذا أصابته نقمة ويشكر إذا أتته نعمة وورد في كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) إشارة إلى أن التكاليف أفعال وتروك والتروك صبر عن المألوف كما قال عليه الصلاة والسلام ( الصوم صبر والأفعال شكر على المعروف )

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِأايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
لما ذكر الله أن في ذلك لآيات ذكر أن الكل معترفون به غير أن البصير يدركه أولا ومن في بصره ضعف لا يدركه أولا فإذا غشيه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل من الله ودعاه مخلصاً أي يترك كل من عداه وينسى جميع من سواه فإذا نجاه من تلك الشدة قد بقي على تلك الحالة وهو المراد بقوله فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وقد يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ وحد الموج وجمع الظلل وقيل في معناه كالجبال وقيل كالسحاب إشارة إلى عظم الموج ويمكن أن يقال الموج الواحد العظيم يرى فيه طلوع ونزول وإذا نظرت في الجرية الواحدة من النهر العظيم تبين لك ذلك فيكون ذلك كالجبال المتلاصقة
المسألة الثانية قال في العنكبوت فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ ( العنكبوت 65 ) ثم قال فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( العنكبوت 65 ) وقال ههنا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ فنقول لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر
المسألة الثالثة قوله وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا في مقابلة قوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ يعني يعترف بها الصبار الشكور ويجحدها الختار الكفور والصبار في موازنة الختار لفظاً ومعنى والكفور في موازنة الشكور أما لفظاً فظاهر وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر أو الشديد الغدر والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يكن يعهد مع أحد لا يعهد منه الأضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله وأما الغدار فيعهد ولا يصبر على العهد فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ

لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى لأنه تعالى لما كان واحداً أوجب التقوى البالغة فإن من يعلم أن الأمر بيد اثنين لا يخاف أحدهما مثل ما يخاف لو كان الأمر بيد أحدهما لا غير ثم أكد الخوف بذكر اليوم الذي يحكم الله فيه بين العباد وذلك لأن الملك إذا كان واحداً ويعهد منه أنه لا يعلم شيئاً ولا يستعرض عباده لا يخاف منه مثل ما يخاف إذا علم أن له يوم استعراض واستكشاف ثم أكده بقوله لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وذلك لأن المجرم إذا علم أن له عند الملك من يتكلم في حقه ويقضي ما يخرج عليه برفد من كسبه لا يخاف مثل ما يخاف إذا علم أنه ليس له من يقضي عنه ما يخرج عليه ثم ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليستدل بالأدنى على الأعلى وذكر الولد والوالد جميعاً فيه لطيفة وهي أن من الأمور ما يبادر الأب إلى التحمل عن الولد كدفع المال وتحمل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد ومنها ما يبادر الولد إلى تحمله عن الوالد ولا يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد كالإهانة فإن من يريد إحضار والد أحد عند وال أو قاض يهون على الإبن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله فإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الإيلام عن ابنه ويتحمله هو بنفسه فقوله لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ في دفع الآلام وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً في دفع الاهانة وفي قوله لاَّ يَجْزِى وقوله وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ ( لطيفة أخرى ) وهي أنا ذكرنا أن الفعل يتأتى وإن كان ممن لا ينبغي ولا يكون من شأنه لأن الملك إذا كان يخيط شيئاً يقال إنه يخيط ولا يقال هو خياط وكذلك من يحيك شيئاً ولا يكون ذلك صنعته يقال هو يحيك ولا يقال هو حائك إذا علمت هذا فنقول الإبن من شأنه أن يكون جازياً عن والده لما له عليه من الحقوق والوالد يجزي لما فيه من الشفقة وليس بواجب عليه ذلك فقال في الوالد لا يجزي وقال في الولد وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ
ثم قال تعالى إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تحقيقاً لليوم يعني اخشوا يوماً هذا شأنه وهو كائن لوعد الله به ووعده حق والثاني أن يكون تحقيقاً لعدم الجزاء يعني لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ لأن الله وعد ب أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( النجم 38 ) ووعد الله حق فلا يجزي والأول أحسن وأظهر
ثم قال تعالى فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا يعني إذا كان الأمر كذلك فلا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع ( ذلك ) اليوم المذكور بالوعد الحق
ثم قال تعالى وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني الدنيا لا ينبغي أن تغركم بنفسها ولا ينبغي أن تغتروا ( بها ) وإن حملكم على محبتها غار من نفس أمارة أو شيطان فكان الناس على أقسام منهم من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويؤمله ويقول إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة فنهاهم عن الأمرين وقال كونوا قسما ثالثاً وهم الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين
إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاٌّ رْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَى ِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ

يقول بعض المفسرين إن الله تعالى نفى علم أمور خمسة بهذه الآية عن غيره وهو كذلك لكن المقصود ليس ذلك لأن الله يعلم الجوهر الفرد الذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان ونقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرة ويعلم أنه أين هو ولا يعلمه غيره ولأن يعلم أنه يوجد بعد هذه السنين ذرة في برية لا يسلكها أحد ولا يعلمه غيره فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنما الحق فيه أن نقول لما قال الله وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وذكر أنه كائن بقوله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ كأن قائلاً قال فمتى يكون هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم ما لم يحصل لغير الله ولكن هو كائن ثم ذكر الدليلين الذين ذكرناهما مراراً على البعث أحدهما إحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَلْبَهُ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْى ِ الْمَوْتَى ( الروم 49 50 ) وقال تعالى وَيُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( الروم 19 ) وقال ههنا يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله قادر عليها كما هو قادر على إحياء الأرض حيث قال وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ ( الشورى 28 ) وقال يُخْرِجُ الْحَى َّ ( الروم 19 ) وثانيهما الخلق ابتداء كما قال وَهُوَ الَّذِى اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( الروم 27 ) وقال تعالى قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء النَّشْأَة َ الاْخِرَة َ ( العنكبوت 20 ) إلى غير ذلك فقال ههنا وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ إشارة إلى أن الساعة وإن كنت لا تعلمها لكنها كائنة والله قادر عليها وكما هو قادر على الخلق في الأرحام كذلك يقدر على الخلق من الرخام ثم قال لذلك الطالب علمه يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها فلك أشياء أهم منها لا تعلمها فإنك لا تعلم معاشك ومعادك ولا تعلم ماذا تكسب غداً مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون فالله ما أعلمك كسب غدك مع أن لك فيه فوائد تبنى عليها الأمور من يومك ولا أعلمك أين تموت مع أن لك فيه أغراضاً تهيىء أمورك بسبب ذلك العلم وإنما لم يعلمك لكي تكون في وقت بسبب الرزق راجعاً إلى الله تعالى متوكلاً على الله ولا أعلمك الأرض التي تموت فيها كي لا تأمن الموت وأنت في غيرها فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه وهي الساعة وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمت الله على لسان أنبيائه
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة بقوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ذكر أن علمه غير مختص بها بل هو عليم مطلقاً بكل شيء وليس علمه علماً بظاهر الأشياء فحسب بل خبير علمه واصل إلى بواطن الأشياء والله أعلم بالصواب

سورة السجدة
وتسمى سورة المضاجع مكية عند أكثرهم
وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
ال م تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
لما ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة دليل الوحدانية وذكر الأصل وهو الحشر وختم السورة بهما بدأ ببيان الرسالة في هذه السورة فقال الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وقد علم ما في قوله الم وفي قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ من سورة البقرة وغيرها غير أن ههنا قال مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ وقال من قبل هُدًى وَرَحْمَة ً لّلْمُحْسِنِينَ ( لقمان 3 ) وقال في البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وذلك لأن من يرى كتاباً عند غيره فأول ما تصير النفس طالبة تطلب ما في الكتاب فيقول ما هذا الكتاب فإذا قيل هذا فقه أو تفسير فيقول بعد ذلك تصنيف من هو ولا يقال أولا هذا الكتاب تصنيف من ثم يقول فيماذا هو إذا علم هذا فقال أولا هذا الكتاب هدى ورحمة ثم قال ههنا هو كتاب الله تعالى وذكره بلفظ رب العالمين لأن كتاب من يكون رب العالمين يكون فيه عجائب العالمين فتدعو النفس إلى مطاعته
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
يعني أتعترفون به أم تقولون هو مفترى ثم أجاب وبين أن الحق أنه حق من ربه ثم بين فائدة التنزيل وهو الإنذار وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف قال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مع أن النذر سبقوه الجواب من وجهين أحدهما معقول والآخر منقول أما المنقول فهو أن قريشاً كانت أمة أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو

بعيد فإنهم كانوا من أولاد إبراهيم وجميع أنبياء بني إسرائيل من أولاد أعمامهم وكيف كان الله يترك قوماً من وقت آدم إلى زمان محمد بلا دين ولا شرع وإن كنت تقول بأنهم ما جاءهم رسول بخصوصهم يعني ذلك القرن فلم يكن ذلك مختصاً بالعرب بل أهل الكتاب أيضاً لم يكن ذلك القرن قد أتاهم رسول وإنما أتى الرسل آباءهم وكذلك العرب أتى الرسل آباءهم كيف والذي عليه الأكثرون أن آباء محمد عليه الصلاة والسلام كانوا كفاراً ولأن النبي أوعدهم وأوعد آباءهم بالعذاب وقال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وأما المعقول وهو أن الله تعالى أجرى عادته على أن أهل عصر إذا ضلوا بالكلية ولم يبق فيهم من يهديهم يلطف بعباده ويرسل رسولاً ثم إنه إذا أراد طهرهم بإزالة الشرك والكفر من قلوبهم وإن أراد طهر وجه الأرض باهلاكهم ثم أهل العصر ضلوا بعد الرسل حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فلم يأتهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام فقال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم أي بعد الضلال الذي كان بعد الهداية لم يأتهم نذير
المسألة الثانية لو قال قائل التخصيص بالذكر يدل على نفي ما عداه فقوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم يوجب أن يكون إنذاره مختصاً بمن لم يأته نذير لكن أهل الكتاب قد أتاهم نذير فلا يكون الكتاب منزلاً إلى الرسول لينذر أهل الكتاب فلا يكون رسولاً إليهم نقول هذا فاسد من وجوه أحدها أن التخصيص لا يوجب نفي ما عداه والثاني أنه وإن قال به قائل لكنه وافق غيره في أن التخصيص إن كان له سبب غير نفي ما عداه لا يوجب نفي ما عداه وههنا وجد ذلك لأن إنذارهم كان أولى ألا ترى أنه تعالى قال وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( العراء 214 ) ولم يفهم منه أنه لا ينذر غيرهم أو لم يأمر بإنذار غيرهم وإنذار المشركين كان أولى لأن إنذارهم كان بالتوحيد والحشر وأهل الكتاب لم ينذروا إلا بسبب إنكارهم الرسالة فكانوا أولى بالذكر فوقع التخصيص لأجل ذلك الثالث هو أن على ما ذكرنا لا يرد ما ذكره أصلا لأن أهل الكتاب كانوا قد ضلوا ولم يأتهم نذير من قبل محمد بعد ضلالهم فلزم أن يكون مرسلا إلى الكل على درجة سواء وبهذا يتبين حسن ما اخترناه وقوله لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني تنذرهم راجياً أنت اهتداءهم
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
لما ذكر الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل فقال اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الله مبتدأ وخبره الذي خلق يعني الله هو الذي خلق السموات والأرض ولم يخلقهما إلا واحد فلا إله إلا واحد وقد ذكرنا أن قوله تعالى فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إشارة إلى ستة أحوال في نظر الناظرين وذلك لأن السموات والأرض وما بينهما ثلاثة أشياء ولكل واحد منها ذات وصفة فنظراً إلى خلقه ذات السموات حالة ونظراً إلى خلقه صفاتها أخرى ونظراً إلى ذات الأرض وإلى صفاتها كذلك ونظراً إلى ذوات ما بينهما وإلى صفاتها كذلك فهي ستة أشياء على ستة أحوال وإنما ذكر الأيام لأن الإنسان إذا نظر إلى الخلق رآه فعلا

والفعل ظرفه الزمان والأيام أشهر الأزمنة وإلا فقبل السموات لم يكن ليل ولا نهار وهذا مثل ما يقول القائل لغيره إن يوماً ولدت فيه
كان يوماً مباركاً
وقد يجوز أن يكون ذلك قد ولد ليلاً ولا يخرج عن مراده لأن المراد هو الزمان الذي هو ظرف ولادته
ثم قال تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ اعلم أن مذهب العلماء في هذه الآية وأمثالها على وجهين أحدهما ترك التعرض إلى بيان المراد وثانيهما التعرض إليه والأول أسلم والى الحكمة أقرب أما أنه أسلم فذلك لأن من قال أنا لا أتعرض إلى بيان هذا ولا أعرف المراد من هذا لا يكون حاله إلا حال من يتكلم عند عدم وجوب الكلام أو لا يعلم شيئاً لم يجب عليه أن يعلمه وذلك لأن الأصول ثلاثة التوحيد والقول بالحشر والاعتراف بالرسل لكن الحشر أجمعنا واتفقنا أن العلم به واجب والعلم بتفصيله أنه متى يكون غير واحب ولهذا قال تعالى في آخر السورة المتقدمة إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) فكذلك الله يجب معرفة وجوده ووحدانيته واتصافه بصفات الجلال ونعوت الكمال على سبيل الإجمال وتعاليه عن وصمات الإمكان وصفات النقصان ولا يجب أن يعلم جميع صفاته كما هي وصفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن ترك التعرض إليه لم يترك واجباً وأما من يتعرض إليه فقد يخطىء فيه فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم والثاني يكاد أن يقع في أن يكون جاهلاً مركباً وعدم العلم الجهل المركب كالسكوت والكذب ولا يشك أحد في أن السكوت خير من الكذب وأما إنه أقرب إلى الحكمة فذلك لأن من يطالع كتاباً صنفه إنسان وكتب له شرحاً والشارح دون المصنف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ولهذا كثيراً ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلامه ويقول لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب عن علم قاصر كذلك فما ظنك بالكتاب العزيز الذي فيه كل حكمة يجوز أن يدعي جاهل أني علمت كل سر في هذا الكتاب وكيف ولو ادعى عالم اني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليه الكتاب الفلاني يستقبح منه ذلك فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله ثم ليس لقائل أن يقول بأن الله تعالى بين كل ما أنزله لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز ولعل القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيه فبين له لا لغيره إذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم وهذا أقرب إلى ذلك الذي لا يعلم للتشابه البالغ الذي فيه لكن هذا المذهب له شرط وهو أن ينفي بعض ما يعلمه قطعاً أنه ليس بمراد وهذا لأن قائلاً إذا قال إن هذه الأيام أيام قرء فلانة يعلم أنه لا يريد أن هذه الأيام أيام موت فلانة ولا يريد أن هذه الأيام أيام سفر فلانة وإنما المراد منحصر في الطهر أو الحيض فكذلك ههنا يعلم أن المراد ليس ما يوجب نقصاً في ذاته لاستحالة ذلك والجلوس والاستقرار المكاني من ذلك الباب فيجب القطع بنفي ذلك والتوقف فيما يجوز بعده والمذهب الثاني خطر ومن يذهب إليه فريقان أحدهما من يقول المراد ظاهره وهو القيام والانتصاب أو الاستقرار المكاني وثانيهما من يقول المراد الاستيلاء والأول جهل محض والثاني يجوز أن يكون جهلاً والأول مع كونه جهلاً هو بدعة وكاد يكون كفراً والثاني وإن كان جهلاً فليس بجهل يورث بدعة وهذا كما أن واحداً إذا اعتقد أن الله يرحم الكفار ولا يعاقب أحداً منهم يكون جهلاً وبدعة وكفراً وإذا اعتقد أنه يرحم زيداً الذي هو مستور

الحال لا يكون بدعة غاية ما يكون أنه اعتقاد غير مطابق ومما قيل فيه إن المراد منه استوى على ملكه والعرش يعبر به عن الملك يقال الملك قعد على سرير المملكة بالبلدة الفلانية وإن لم يدخلها وهذا مثل قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ ( المائدة 64 ) إشارة إلى البخل مع أنهم لم يقولوا بأن على يد الله غلا على طريق الحقيقة ولو كان مراد الله ذلك لكان كذباً جل كلام الله عنه ثم لهذا فضل تقرير وهو أن الملوك على درجات فمن يملك مدينة صغيرة أو بلاداً يسيرة ما جرت العادة بأن يجلس أول ما يجلس على سرير ومن يكون سلطاناً يملك البلاد الشاسعة والديار الواسعة وتكون الملوك في خدمته يكون له سرير يجلس عليه وقدامه كرسي يجلس عليه وزيره فالعرش والكرسي في العادة لا يكون إلا عند عظمة المملكة فلما كان ملك السموات والأرض في غاية العظمة عبر بما ينبىء في العرف عن العظمة ومما ينبهك لهذا قوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا ( الإنسان 2 ) إِنَّا زَيَّنَّا ( الصافات 6 ) نَحْنُ أَقْرَبُ ( ق 16 ) نَحْنُ نَزَّلْنَا ( الحجر 9 ) أيظن أو يشك مسلم في أن المراد ظاهره من الشريك وهل يجد له محملاً غير أن العظيم في العرف لا يكون واحداً وإنما يكون معه غيره فكذلك الملك العظيم في العرف لا يكون إلا ذا سرير يستوي عليه فاستعمل ذلك مريداً للعظمة ومما يؤيد هذا أن المقهور المغلوب المهزوم يقال له ضاقت به الأرض حتى لم يبق له مكان أيظن أنهم يريدون به أنه صار لا مكان له وكيف يتصور الجسم بلا مكان ولا سيما من يقول بأن إلهه في مكان كيف يخرج الإنسان عن المكان فكما يقال للمقهور الهارب لم يبق له مكان مع أن المكان واجب له يقال للقادر القاهر هو متمكن وله عرش وإن كان التنزه عن المكان واجباً له وعلى هذا كلمة ثم معناها خلق السموات والأرض ثم القصة أنه استوى على الملك وهذا كما يقول القائل فلان أكرمني وأنعم علي مراراً ويحكي عنه أشياء ثم يقول إنه ما كان يعرفني ولا كنت فعلت معه ما يجازيني بهذا فنقول ثم للحكاية لا للمحكي الوجه الآخر قيل استوى جاء بمعنى استولى على العرش واستوى جاء بمعنى استولى نقلاً واستعمالاً أما النقل فكثير مذكور في ( كتاب اللغة ) منها ديوان الأدب وغيره مما يعتبر النقل عنه وأما الاستعمال فقول القائل قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
وعلى هذا فكلمة ثم معناها ما ذكرنا كأنه قال خلق السموات والأرض ثم ههنا ما هو أعظم منه استوى على العرش فإنه أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض والوجه الثالث قيل إن المراد الاستقرار وهذا القول ظاهر ولا يفيد أنه في مكان وذلك لأن الإنسان يقول استقر رأي فلان على الخروج ولا يشك أحد أنه لا يريد أن الرأي في مكان وهو الخروج لما أن الرأي لا يجوز فيه أن يقال إنه متمكن أو هو مما يدخل في مكان إذا علم هذا فنقول فهم التمكن عند استعمال كلمة الاستقرار مشروط بجواز التمكن حتى إذا قال قائل استقر زيد على الفلك أو على التخت يفهم منه التمكن وكونه في مكان وإذا قال قائل استقر الملك على فلان لا يفهم أن الملك في فلان فقول القائل الله استقر على العرش لا ينبغي أن يفهم كونه في مكان ما لم يعلم أنه مما يجوز عليه أن يكون في مكان أو لا يجوز فإذن فهم كونه في مكان من هذه اللفظة مشروط بجواز أن يكون في مكان فجواز كونه في مكان إن استفيد من هذه اللفظة يلزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال ثم الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون على العرش بمعنى كون

العرش مكاناً له وجوه من القرآن أحدها قوله تعالى وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِى ُّ ( الحج 64 ) وهذا يقتضي أن يكون غنياً على الإطلاق وكل ما هو في مكان فهو في بقائه محتاج إلى مكان لأن بديهة العقل حاكمة بأن الحيز إن لم يكن لا يكون المتحيز باقياً فالمتحيز ينتفي عند انتفاء الحيز وكل ما ينتفي عند انتفاء غيره فهو محتاج إليه في استمراره فالقول باستقراره يوجب احتياجه في استمراره وهو غنى بالنص الثاني قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فالعرش يهلك وكذلك كل مكان فلا يبقى وهو يبقى فاذن لا يكون في ذلك الوقت في مكان فجاز عليه أن لا يكون في مكان وما جاز له من الصفات وجب له فيجب أن لا يكون في مكان الثالث قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ ( الحديد 4 ) ووجه التمسك به هو أن على إذا استعمل في المكان يفهم كونه عليه بالذات كقولنا فلان على السطح وكلمة مع إذا استعملت في متمكنين يفهم منها اقترانهما بالذات كقولنا زيد مع عمرو إذا استعمل هذا فإن كان الله في مكان ونحن متمكنون فقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وقوله وَهُوَ مَعَكُمْ كان ينبغي أن يكون للاقتران وليس كذلك فإن قيل كلمة مع تستعمل لكون ميله إليه وعلمه معه أو نصرته يقال الملك الفلاني مع الملك الفلاني أي بالإعانة والنصر فنقول كلمة على تستعمل لكون حكمه على الغير يقول القائل لولا فلان على فلان لأشرف في الهلاك ولأشرف على الهلاك وكذلك يقال لولا فلان على أملاك فلان أو على أرضه لما حصل له شيء منها ولا أكل حاصلها بمعنى الإشراف والنظر فكيف لا نقول في استوى على العرش إنه استوى عليه بحكمه كما نقول هو معناه بعلمه الرابع قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( الأنعام 103 ) ولو كان في مكان لأحاط به المكان وحينئذٍ فإما أن يرى وإما أن لا يرى لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق لأن القول بأنه في مكان ولا يرى باطل بالإجماع وإن كان يرى فيرى في مكان أحاط به فتدركه الأبصار وأما إذا لم يكن في مكان فسواء يرى أو لا يرى لا يلزم أن تدركه الأبصار أما إذا لم ير فظاهر وأما إذا رؤي فلأن البصر لا يحيط به فلا يدركه وإنما قلنا إن البصر لا يحيط به لأن كل ما أحاط به البصر فله مكان يكون فيه وقد فرضنا عدم المكان ولو تدبر الإنسان القرآن لوجده مملوءاً من عدم جواز كونه في مكان كيف وهذا الذي يتمسك به هذا القائل يدل على أنه ليس على العرش بمعنى كونه في المكان وذلك لأن كلمة ثم للتراخي فلو كان عليه بمعنى المكان لكان قد حصل عليه بعد ما لم يكن عليه فقبله إما أن يكون في مكان أو لا يكون فإن كان يلزم محالان أحدهما كون المكان أزلياً ثم إن هذا القائل يدعى مضادة الفلسفي فيصير فلسفياً يقول بقدم سماء من السموات والثاني جواز الحركة والانتقال على الله تعالى وهو يفضي إلى حدوث الباري أو يبطل دلائل حدوث الأجسام وإن لم يكن مكان وما حصل في مكان يحيل العقل وجوده بلا مكان ولو جاز لما أمكن أن يقال بأن الجسم لو كان أزلياً فإما أن يكون في الأزل ساكناً أو متحركاً لأنهما فرعا الحصول في مكان وإذا كان كذلك فيلزمه القول بحدوث الله أو عدم القول بحدوث العالم لأنه إن سلم أنه قبل المكان لا يكون فهو القول بحدوث الله تعالى وإن لم يسلم فيجوز أن يكون الجسم في الأزل لم يكن في مكان ثم حصل في مكان فلا يتم دليله في حدوث العالم فيلزمه أن لا يقول بحدوثه ثم إن هذا القائل يقول إنك تشبه الله بالمعدوم فإنه ليس في مكان ولا يعلم أنه جعله معدوماً حيث أحوجه إلى مكان وكل محتاج نظراً إلى عدم ما يحتاج إليه معدوم ولو كتبنا ما فيها لطال الكلام
ثم قال تعالى مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ لما ذكر أن الله خالق السموات

والأرض قال بعضهم نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات وهذه الأصنام صور الكواكب منها نصرتنا وقوتنا وقال آخرون هذه صور الملائكة عند الله هم شفعاؤنا فقال الله تعالى لا إله غير الله ولا نصرة من غير الله ولا شفاعة إلا بإذن الله فعبادتكم لهم لهذه الأصنام باطلة ضائعة لا هم خالقوكم ولا ناصروكم ولا شفعاؤكم ثم قال تعالى أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض وخلق هذه الأجسام العظام لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى تنصركم والملك العظيم لا يكون عنده لهذه الأشياء الحقيرة احترام وعظمة حتى تكون لها شفاعة
يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ
لما بين الله تعالى الخلق بين الأمر كما قال تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) والعظمة تتبين بهما فإن من يملك مماليك كثيرين عظماء تكون له عظمة ثم إذا كان أمره نافذاً فيهم يزداد في أعين الخلق وإن لم يكن له نفاذ أمر ينقص من عظمته وقوله تعالى ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ معناه والله أعلم أن أمره ينزل من السماء على عباده وتعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر فإن العمل أثر الأمر وقوله تعالى فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ مّمَّا تَعُدُّونَ فيه وجوه أحدها أن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو في يوم فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في مسيرة خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة ثانيها هو أن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة فقوله تعالى فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ يعني يُدَبّرُ الاْمْرَ في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون شهر منه وكم تكون سنة منه وكم يكون دهر منه وعلى هذا الوجه لا فرق بين هذا وبين قوله مقداره خمسين ألف سنة لأن تلك إذا كانت إشارة إلى دوام نفاذ الأمر فسواء يعبر بالألف أو بالخمسين ألفاً لا يتفاوت إلا أن المبالغة تكون في الخمسين أكثر وتبين فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى ( وفي هذه لطيفة ) وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق وأشار إلى عظمة الملك وذكر في هذه الآية عالم الأرواح والأمر بقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ والروح من عالم الأمر كما قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 15 ) وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان والمراد دوام البقاء كما يقال في العرف طال زمان فلان والزمان لا يطول وإنما الواقع في الزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة فيطول ذلك فيأخذ أزمنة كثيرة فأشار هناك إلى عظمة الملك بالمكان وأشار إلى دوامه ههنا بالزمان فالمكان من خلقه وملكه والزمان بحكمه وأمره واعلم أن ظاهر قوله يُدَبّرُ الاْمْرَ في يوم يقتضي أن يكون أمره في يوم واليوم له ابتداء وانتهاء فيكون أمره في زمان حادث فيكون حادثاً وبعض من يقول بأن الله على العرش استوى يقول

بأن أمره قديم حتى الحروف وكلمة كن فكيف فهم من كلمة على كونه في مكان ولم يفهم من كلمة في كون أمره في زمان ثم بين أن هذا الملك العظيم النافذ الأمر غير غافل فإن الملك إذا كان آمراً ناهياً يطاع في أمره ونهيه ولكن يكون غافلاً لا يكون مهيباً عظيماً كما يكون مع ذلك خبيراً يقظاً لا تخفى عليه أمور الممالك والمماليك فقال ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ولما ذكر من قبل عالم الأشباح بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وعالم الأرواح بقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الاْرْضِ قال عَالِمُ الْغَيْبِ يعلم ما في الأرواح وَالشَّهَادَة ِ يعلم ما في الأجسام أو نقول قال عَالِمُ الْغَيْبِ إشارة إلى ما لم يكن بعد وَالشَّهَادَة ِ إشارة إلى ما وجد وكان وقدم العلم بالغيب لأنه أقوى وأشد إنباء عن كمال العلم ثم قال تعالى الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ لما بين أنه عالم ذكر أنه عزيز قادر على الانتقام من الكفرة رحيم واسع الرحمة على البررة ثم قال تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ لما بين الدليل الدال على الوحدانية من الآفاق بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وأتمه بتوابعه ومكملاته ذكر الدليل الدال عليها من الأنفس بقوله الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء يعني أحسن كل شيء مما ذكره وبين أن الذي بين السموات والأرض خلقه وهو كذلك لأنك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات وسلاسة الهواء للاستنشاق وقبول الانشقاق لسهولة الاستطراق وسيلان الماء لنقدر عليه في كل موضع وحركة النار إلى فوق لأنها لو كانت مثل الماء تتحرك يمنة ويسرة لاحترق العالم فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شيء هناك يقبل الاحتراق وقوله وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ قيل المراد آدم عليه السلام فإنه خلق من طين ويمكن أن يقال بأن الطين ماء وتراب مجتمعان والآدمي أصله منى والمنى أصله غذاء والأغذية إما حيوانية وإما نباتية والحيوانية بالآخرة ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو طين
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
وقوله تعالى ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ على التفسير الأول ظاهر لأن آدم كان من طين ونسله من سلالة من ماء مهين هو النطفة وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من الطين ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي من ماء مهين فإن قال قائل التفسير الثاني غير صحيح لأن قوله بَدَأَ خَلَقَ الإِنسَانَ ثم

جعل نسله دليل على أن جعل النسل بعد خلق الإنسان من طين فنقول لا بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله سلالة ثم سواه ونفخ فيه من روحه وعلى ما ذكرتم يبعد أن يقال ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ عائد إلى آدم أيضاً لأن كلمة ثم للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة وذلك بعد خلق آدم واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرَ ( غافر 57 ) ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ثُمَّ سَوَّاهُ أي كان طيناً فجعله منياً ثم جعله بشراً سوياً وقوله تعالى وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف واعلم أن النصارى يفترون على الله الكذب ويقولون بأن عيسى كان روح الله فهو ابن ولا يعلمون أن كل أحد روحه روح الله بقوله وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ أي الروح التي هي ملكه كما يقول القائل داري وعبدي ولم يقل أعطاه من جسمه لأن الشرف بالروح فأضاف الروح دون الجسم على ما يترتب على نفخ الروح من السمع والبصر والعلم فقال تعالى وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وجعل لكم مخاطباً ولم يخاطب من قبل وذلك لأن الخطاب يكون مع الحي فلما قال وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ خاطبه من بعده وقال جعل لكم فإن قيل الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ( الروم 20 ) فنقول هناك لم يذكر الأمور المرتبة وإنما أشار إلى تمام الخلق وههنا ذكر الأمور المرتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماءً مهيناً ثم خلقاً مسوى بأنواع القوى مقوي فخاطب في بعض المراتب دون البعض
المسألة الثانية الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة وذلك لأن الإنسان يسمع أولاً من الأبوين أو الناس أموراً فيفهمها ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجريها ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قبله ومثاله شخص يسمع من أستاذ شيئاً ثم يصير له أهلية مطالعة الكتب وفهم معانيها ثم يصير له أهلية التصنيف فيكتب من قلبه كتاباً فكذلك الإنسان يسمع ثم يطالع صحائف الموجودات ثم يعلم الأمور الخفية
المسألة الثالثة ذكر في السمع المصدر وفي البصر والفؤاد الاسم ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع لأن المصدر لا يجمع وذلك لحكمة وهو أن السمع قوة واحدة ولها فعل

واحد فإن الإنسان لا يضبط في زمان واحد كلامين والأذن محله ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة لها على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض وأما الإبصار فمحله العين ولها فيه شبه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون آخر وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير والقوة مستبدة فذكر القوة في الأذن وفي العين والفؤاد للمحل نوع اختيار فذكر المحل لأن الفعل يسند إلى المختار ألا ترى أنك تقول سمع زيد ورأى عمرو ولا تقول سمع أذن زيد ولا رأى عين عمرو إلا نادراً لما بينا أن المختار هو الأصل وغيره آلته فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له والعين كالأصل وقوة الأبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ولأن السمع له قوة واحدة ولها فعل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويدرك في زمان واحد صورتين وأكثر ويستبينهما
المسألة الرابعة لم قدم السمع ههنا والقلب في قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( البقرة 7 ) فنقول ذلك يحقق ما ذكرنا وذلك لأن عند الإعطاء ذكر الأدنى وارتقى إلى الأعلى فقال أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب وعند السلب قال ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار مع أنها في الوسط فيما ذكرنا من الترتيب وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع فجمع بينهما وسلب قوة البصر بجعل الغشاوة عليه فذكرها متأخرة
وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ
لما قال قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ بين عدم شكرهم بإتيانهم بضده وهو الكفر وإنكار قدرته على إحياء الموتى وقد ذكرنا أن الله تعالى في كلامه القديم كلما ذكر أصلين من الأصول الثلاثة لم يترك الأصل الثالث وههنا كذلك لما ذكر الرسالة بقوله تَنزِيلُ الْكِتَابِ إلى قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ وذكر الوحدانية بقوله اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ إلى قوله وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ ذكر الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو للعطف على ما سبق منهم فإنهم قالوا محمد ليس برسول والله ليس بواحد وقالوا الحشر ليس بممكن
المسألة الثانية أنه تعالى قال في تكذيبهم الرسول في الرسالة أم يقولون بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم إياه في الحشر وقالوا بلفظ الماضي وذلك لأن تكذيبهم إياه في رسالته لم يكن قبل وجوده وإنما كان ذلك حالة وجوده فقال يقولون يعني هم فيه وأما إنكارهم للحشر كان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال وقالوا
المسألة الثالثة أنه تعالى صرح بذكر قولهم في الرسالة حيث قال أَمْ يَقُولُونَ وفي الحشر حيث قال وَقَالَ ولم يصرح بذكر قولهم في الوحدانية وذلك لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسول وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في المعنى ألا ترى أن الله تعالى قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) فلم يقل قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر
المسألة الرابعة لو قال قائل لما ذكر الرسالة ذكر من قبل دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه ولما ذكر الوحدانية ذكر دليلها وهو خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من طين ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل نقول في الجواب ذكر دليله أيضاً وذلك لأن خلق الإنسان ابتداء دليل على قدرته على إعادته

ولهذا استدل الله على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) وقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( ي س 79 ) وكذلك خلق السموات كما قال تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى ( ي س 81 82 )
وقوله تعالى إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أئنا كائنون في خلق جديد أو واقعون فيه بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كَافِرُونَ إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب أو نقول معناه لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم فإنهم أنكروه فأنكروا المفضى إليه ثم بين ما يكون لهم من الموت إلى العذاب
قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
يعني لا بد من الموت ثم من الحياة بعده وإليه الإشارة بقوله ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ وقوله الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ إشارة إلى أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجلكم لا يؤخركم إذ لا شغل له إلا هذا وقوله يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ينبىء عن بقاء الأرواح فإن التوفي الاستيفاء والقبض هو الأخذ والإعدام المحض ليس بأخذ ثم إن الروح الزكي الطاهر يبقى عند الملائكة مثل الشخص بين أهله المناسبين له والخبيث الفاجر يبقى عندهم كأسير بين قوم لا يعرفهم ولا يعرف لسانهم والأول ينمو ويزيد ويزداد صفاؤه وقوته والآخر يذبل ويضعف ويزداد شقاؤه وكدورته والحكماء يقولون إن الأرواح الطاهرة تتعلق بجسم سماوي خير من بدنها وتكمل به والأرواح الفاجرة لا كمال لها بعد التعلق الثاني فإن أرادوا ما ذكر بها فقد وافقونا وإلا فيغير النظر في ذلك بحسب إرادتهم فقد يكون قولهم حقاً وقد يكون غير حق فإن قيل هم أنكروا الإحياء والله ذكر الموت وبينهما مباينة نقول فيه وجهان أحدهما أن ذلك دليل الإحياء ودفع استبعاد ذلك فإنهم قالوا ما عدم بالكلية كيف يكون الموجود عين ذلك فقال الملك يقبض الروح والأجزاء تتفرق فجمع الأجزاء لا بعد فيه وأمر الملك برد ما قبضه لا صعوبة فيه أيضاً فقوله قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ أي الأرواح معلومة فترد إلى أجسادها
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ
لما ذكر أنهم يرجعون إلى ربهم بين ما يكون عند الرجوع على سبيل الإجمال بقوله وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ يعني لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجباً وقوله تَرَى يحتمل أن يكون خطاباً مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تشفياً لصدره فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب ويحتمل أن يكون عاماً مع كل أحد كما يقول القائل إن فلاناً كريم إن خدمته ولو لحظة يحسن إليك طول عمرك ولا يريد به خاصاً وقوله عِندَ رَبّهِمْ

لبيان شدة الخجالة لأن الرب إذا أساء إليه المربوب ثم وقف بين يديه يكون في غاية الخجالة
ثم قال تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا يعني يقولون أو قائلين رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وحذف يقولون إشارة إلى غاية خجالتهم لأن الخجل العظيم الخجالة لا يتكلم وقوله رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا أي أبصرنا الحشر وسمعنا قول الرسول فارجعنا إلى دار الدنيا لنعمل صالحاً وقولهم إِنَّا مُوقِنُونَ معناه إنا في الحال آمنا ولكن النافع الإيمان والعمل الصالح ولكن العمل الصالح لا يكون إلا عند التكليف به وهو في الدنيا فارجعنا للعمل وهذا باطل منهم فإن الإيمان لا يقبل في الآخرة كالعمل الصالح أو نقول المراد منه أنهم ينكرون الشرك كما قالوا وَمَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فقالوا إن هذا الذي جرى علينا ما جرى إلا بسبب ترك العمل الصالح وأما الإيمان فإنا موقنون وما أشركنا
وَلَوْ شِئْنَا لاّتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
ثم قال تعالى وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ جواباً عن قولهم رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا وبيانه هو أنه تعالى قال إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت وما شئت إيمانكم فلا أردكم وقوله وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا صريح في أن مذهبنا صحيح حيث نقول إن الله ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر ثم قال تعالى وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ أي وقع القول وهو قوله تعالى لإبليس لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ ( ص 85 ) هذا من حيث النقل وله وجه في العقل وهو أن الله تعالى لم يفعل فعلاً خالياً عن حكمة وهذا متفق عليه والخلاف في أنه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل ولزمته الحكمة لا بحيث تحمله تلك الحكمة على الفعل وإذا علم أن فعله لا يخلو عن الحكمة فقال الحكماء حكمة أفعاله بأمرها لا تدرك على سبيل التفصيل لكن تدرك على سبيل الإجمال فكل ضرب يكون في العالم وفساد فحكمته تخرج من تقسيم عقلي وهو أن الفعل إما أن يكون خيراً محضاً أو شراً محضاً أو خيراً مشوباً بشر وهذا القسم على ثلاثة أقسام قسم خيره غالب وقسم شره غالب وقسم خيره وشره مثلان إذا علم هذا فخلق الله عالماً فيه الخير المحض وهو عالم الملائكة وهو العالم العلوي وخلق عالماً فيه خير وشر وهو عالمنا وهو العالم السفلي ولم يخلق عالماً فيه شر محض ثم إن العالم السفلي الذي هو عالمنا وإن كان الخير والشر موجودين فيه لكنه من القسم الأول الذي خيره غالب فإنك إذا قابلت المنافع بالمضار والنافع بالضار تجد المنافع أكثر وإذا قابلت الشرير بالخير تجد الخير أكثر وكيف لا والمؤمن يقابله الكافر ولكن المؤمن قد يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه شر أصلاً من أول عمره إلى آخره كالأنبياء عليهم السلام والأولياء والكافر لا يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه خير أصلاً غاية ما في الباب أن الكفر يحبط خيره ولا ينفعه إنما يستحيل نظراً إلى العادة أن يوجد كافر لا يسقي العطشان شربة ماء ولا يطعم الجائع لقمة خبز ولا يذكر ربه في عمره وكيف لا وهو في زمن صباه كان مخلوقاً على الفطرة المقتضية للخيرات إذا ثبت هذا فنقول قالوا لولا الشر في هذا العالم لكانت مخلوقات الله تعالى منحصرة في الخير المحض ولا يكون قد خلق القسم الذي فيه الخير الغالب والشر

القليل ثم إن ترك خلق هذا القسم إن كان لما فيه من الشر فترك الخير الكثير لأجل الشر القليل لا يناسب الحكمة ألا ترى أن التاجر إذا طلب منه درهم بدينار فلو امتنع وقال في هذا شر وهو زوال الدرهم عن ملكي فيقال له لكن في مقابلته خير كثير وهو حصول الدينار في ملكك وكذلك الإنسان لو ترك الحركة اليسيرة لما فيها من المشقة مع علمه بأنه تحصل له راحة مستمرة ينسب إلى مخالفة الحكمة فإذا نظر إلى الحكمة كان وقوع الخير الكثير المشوب بالشر القليل من اللطف فخلق العالم الذي يقع فيه الشر وإلى هذا أشار بقوله إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) فقال الله تعالى في جوابهم إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) أي أعلم أن هذا القسم يناسب الحكمة لأن الخير فيه كثير ثم بين لهم خيره بالتعليم كما قال تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) يعني أيها الملائكة خلق الشر المحض والشر الغالب والشر المساوي لا يناسب الحكمة وأما الخير الكثير المشوب بالشر القليل مناسب فقوله تعالى أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا إشارة إلى الشر وأجابهم الله بما فيه من الخير بقوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء فإن قال قائل فالله تعالى قادر على تخليص هذا القسم من الشر بحيث لا يوجد فيه شر فيقال له ما قاله الله تعالى وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ( السجدة 13 ) يعني لو شئنا لخلصنا الخير من الشر لكن حينئذٍ لا يكون الله تعالى خلق الخير الكثير المشوب بالشر القليل وهو قسم معقول فما كان يجوز تركه للشر القليل وهو لا يناسب الحكمة لأن ترك الخير الكثير للشر القليل غير مناسب للحكمة وإن كان لا كذلك فلا مانع من خلقه فيخلقه لما فيه من الخير الكثير وهذا الكلام يعبر عنه من يقول برعاية المصالح إن الخير في القضاء والشر في القدر فالله قضى بالخير ووقع الشر في القدر بفعله المنزه عن القبح والجهل وقوله مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ لأنه تعالى قال لإبليس لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ ( ص 85 ) وهذا إشارة إلى أن النار لمن في العالم السفلي والذين في العالم العلوي مبرءون عن دخول النار وهم الملائكة وهذا يقتضي أن لا يكون إبليس من الملائكة وهو الصحيح وقوله أَجْمَعِينَ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تأكيداً وهو الظاهر والثاني أن يكون حالاً أي مجموعين فإن قيل كيف جعل جميع الإنس والجن مما يملأ بهم النار نقول هذا لبيان الجنس أي جهنم تملأ من الجن والإنس لا غير أمناً للملائكة ولا يقتضي ذلك دخول الكل كما يقول القائل ملأت الكيس من الدراهم لا يلزم أن لا يبقى درهم خارج الكيس فإن قيل فهذا يقتضي أن تكون جهنم ضيقة تمتلىء ببعض الخلق نقول هو كذلك وإنما الواسع الجنة التي هي من الرحمة الواسعة والله أعلم ولما بين الله تعالى بقوله وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا أنهم لا رجوع لهم قال لهم إذا علمتم أنكم لا رجوع لكم
فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
المسألة الأولى قوله فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء لقاء يحتمل أن يكون منصوباً بذوقوا أي ذوقوا لقاء يومكم

بما نسيتم وعلى هذا يحتمل أن يكون المنسي هو الميثاق الذي أخذ منهم بقوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) أو بما في الفطرة من الوحدانية فينسى بالإقبال على الدنيا والاشتغال بها ويحتمل أن يكون منصوباً بقوله نَسِيتُمْ أي بما نسيتم لقاء هذا اليوم ذوقوا وعلى هذا لو قال قائل النسيان لا يكون إلا في المعلوم أولاً إذا جهل آخراً نقول لما ظهرت براهينه فكأنه ظهر وعلم ولما تركوه بعد الظهور ذكر بلفظ النسيان إشارة إلى كونهم منكرين لأمر ظاهر كمن ينكر أمراً كان قد علمه
المسألة الثانية قوله تعالى هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون إشارة إلى اليوم أي فذوقوا بما نسيتم لقاء هذا اليوم وثانيها أن يكون إشارة إلى لقاء اليوم أي فذوقوا بما نسيتم هذا اللقاء وثالثها أن يكون إشارة إلى العذاب أي فذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم ثم قال إنا نسيناكم أي تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعله الناسي قطعاً لرجائكم ثم ذكر ما يلزم من تركه إياهم كما يترك الناسي وهو خلود العذاب لأن من لا يخلصه الله فلا خلاص له فقال وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
إشارة إلى أن الإيمان بالآيات كالحاصل وإنما ينساه البعض فإذا ذكر بها خرّ ساجداً له يعني انقادت أعضاؤه له وسبح بحمده يعني ويحرك لسانه بتنزيهه عن الشرك وهم لا يستكبرون يعني وكان قلبه خاشعاً لا يتكبر ومن لا يستكبر عن عبادته فهو المؤمن حقاً
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
يعني بالليل قليلاً ما يهجعون وقوله يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي يصلون فإن الدعاء والصلاة من باب واحد في المعنى أو يطلبونه وهذا لا ينافي الأول لأن الطلب قد يكون بالصلاة والحمل على الأول أولى لأنه قال بعده وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وفي أكثر المواضع التي ذكر فيها الزكاة ذكر الصلاة قبلها كقوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 3 ) وقوله خَوْفًا وَطَمَعًا يحتمل أن يكون مفعولاً له ويحتمل أن يكون حالاً أي خائفين طامعين كقولك جاؤني زوراً أي زائرين وكأن في الآية الأولى إشارة إلى المرتبة العالية وهي العبادة لوجه الله تعالى مع الذهول عن الخوف والطمع بدليل قوله تعالى إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ ( السجدة 15 ) فإنه يدل على أن عند مجرد الذكر يوجد منهم السجود وإن لم يكن خوف وطمع وفي الآية الثانية إشارة إلى المرتبتين الأخيرتين وهي العبادة خوفاً كمن يخدم الملك الجبار مخافة سطوته أو يخدم الملك الجواد طمعاً في بره ثم بين ما يكون لهم جزاء فعلهم

فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِى َ لَهُم مِّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يعني مما تقر العين عنده ولا تلتفت إلى غيره يقال إن هذا لا يدخل في عيني يعني عيني تطلع إلى غيره فإذا لم يبق تطلع للعين إلى شيء آخر لم يبق للعين مسرح إلى غيره فتقر جزاء بحكم الوعد وهذا فيه لطيفة وهي أن من العبد شيئاً وهو العمل الصالح ومن الله أشياء سابقة من الخلق والرزق وغيرهما وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام فلله تعالى أن يقول جزاء الإحسان إحسان وأنا أحسنت أولا والعبد أحسن في مقابلته فالثواب تفضل ومنحة من غير عوض وله أن يقول جعلت الأول تفضلاً لا أطلب عليه جزاء فإذا أتى العبد بالعمل الصالح فليس عليه شيء لأني أبرأته مما عليه من النعم فكان هو آتياً بالحسنة ابتداء وجزاء الإحسان إحسان فأجعل الثواب جزاء كلاهما جائز لكن غاية الكرم أن يجعل الأول هبة ويجعل الثاني مقابلاً وعوضاً لأن العبد ضعيف لو قيل له بأن فعلك جزاء فلا تستحق جزاء وإنما الله يتفضل يثق ولكن لا يطمئن قلبه وإذا قيل له الأول غير محسوب عليك والذي أتيت به أنت به باد ولك عليه استحقاق ثواب يثق ويطمئن ثم إذا عرف أن هذا من فضل الله فالواجب من جانب العبد أن يقول فعلى جزاء نعم الله السابقة ولا أستحق به جزاء فإذا أثابه الله تعالى يقول الذي أتيت به كان جزاء وهذا ابتداء إحسان من الله تعالى يستحق حمداً وشكراً فيأتي بحسنة فيقول الله إني أحسنت إليه جزاء فعله الأول وما فعلت أولا لا أطلب له جزاء فيجازيه ثالثاً فيشكر العبد ثالثاً فيجازيه رابعاً وعلى هذا لا تنقطع المعاملة بين العبد والرب ومثله في الشاهد اثنان تحابا فأهدى أحدهما إلى الآخر هدية ونسيها والمهدي إليه يتذكرها فأهدى إلى المهدي عوضاً فرآه المهدي الأول ابتداء لنسيانه ما أهداه إليه فجازاه بهدية فقال المحب الآخر ما أهديته كان جزاء لهديته السابقة وهذه هدية ما عوضتها فيعوض ويعوض عنه المحب الآخر ويتسلسل الأمر بينهما ولا ينقطع التهادي والتحاب بخلاف من أرسل إلى واحد هدية وهو يتذكرها فإذا بعث إليه المهدي إليه عوضاً يقول المهدي هذا عوض ما أهديت إليه فيسكت ويترك الإهداء فينقطع واعلم أن التكاليف يوم القيامة وإن ارتفعت لكن الذكر والشكر والعبادة لا ترتفع بل العبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما يعبده في الدنيا وكيف لا وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال في حقهم يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( الأنبياء 20 ) غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي بمقتضى الطبع ومن جملة الأسباب الموحبة لدوام نعيم الجنة هذا وكيف لا وخدمة الملوك لذة وشرف فلا تترك وإن قرب العبد منه بل تزداد لذتها
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ

لما بين حال المجرم والمؤمن قال للعاقل هل يستوي الفريقان ثم بين أنهما لا يستويان ثم بين عدم الاستواء على سبيل التفصيل فقال أَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى إشارة إلى ما ذكرنا أن الله أحسن ابتداء لا لعوض فلما آمن العبد وعمل صالحاً قبله منه كأنه ابتداء فجازاه بأن أعطاه الجنة ثم قال تعالى نُزُلاً إشارة إلى أن بعدها أشياء لأن النزل ما يعطي الملك النازل وقت نزوله قبل أن يجعل له راتباً أو يكتب له خبزاً وقوله بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يحقق ما ذكرنا وقوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا إشارة إلى حال الكافر وقد ذكرنا مراراً أن العمل الصالح له مع الإيمان أثر أما الكفر إذا جاء فلا التفات إلى الأعمال فلم يقل وأما الذين فسقوا وعملوا السيآت لأن المراد من فسقوا كفروا ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل لظن أن مجرد الكفر لا عقاب عليه وقوله في حق المؤمنين لَهُمْ بلام التمليك زيادة إكرام لأن من قال لغيره اسكن هذه الدار يكون ذلك محمولاً على العارية وله استرداده وإذا قال هذه الدار لك يكون ذلك محمولا على نسبة الملكية إليه وليس له استرداده بحكم قوله وكذلك في قوله لَهُمْ جَنَّاتُ ألا ترى أنه تعالى لما أسكن آدم الجنة وكان في علمه أنه يخرجه منها قال اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ ( البقرة 35 ) ولم يقل لكما الجنة وفي الآخرة لما لم يكن للمؤمنين خروج عنها قال لَكُمْ الْجَنَّة ِ و لَهُمْ جَنَّاتُ وقوله كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ إشارة إلى معنى حكمي وهو أن المؤلم إذا تمكن والألم إذا امتد لم يبق به شعور تام ولهذا قال الأطباء إن حرارة حمى الدق بالنسبة إلى حرارة الحمى البلغمية نسبة النار إلى الماء المسخن ثم إن المدقوق لا يحس من الحرارة بما يحس به من به الحمى البلغمية لتمكن الدق وقرب العهد بظهور حرارة الحمى البلغمية وكذلك الإنسان إذا وضع يده في ماء بارد يتألم من البرد فإذا صبر زماناً طويلاً تثلج يده ويبطل عنه ذلك الألم الشديد مع فساد مزاجه إذا علمت هذا فقوله كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا إشارة إلى أن الإله لا يسكن عنهم بل يرد عليهم في كل حال أمر مؤلم يجدد وقوله ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ يقرر ما ذكرنا ومعناه أنهم في الدنيا كانوا يكذبون بعذاب النار فلما ذاقوه كان أشد إيلاماً لأن من لا يتوقع شيئاً فيصيبه يكون أشد تأثيراً ثم إنهم في الآخرة كما في الدنيا يجزمون أن لا عذاب إلا وقد وصل إليهم ولا يتوقعون شيئاً آخر من العذاب فيرد عليهم عذاب أشد من الأول وكانوا يكذبون به بقولهم لا عذاب فوق ما نحن فيه فاذن معنى قوله تعالى ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ليس مقتصراً على تكذيبهم الذي كان في الدنيا بل كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وقيل لهم ذوقوا عذاباً كذبتم به من قبل أما في الدنيا بقولكم لا عذاب في الآخرة وأما في الآخرة فبقولكم لا عذاب فوق ما نحن فيه
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الاٌّ دْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاٌّ كْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

يعني قبل عذاب الآخرة نذيقهم عذاب الدنيا فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة لأن عذاب الدنيا لا يكون شديداً ولا يكون مديداً فإن العذاب الشديد في الدنيا يهلك فيموت المعذب ويستريح منه فلا يمتد وإن أراد المعذب أن يمتد عذاب المعذب لا يعذبه بعذاب في غاية الشدة وأما عذاب الآخرة فشديد ومديد وفي الآية مسألتان
إحداهما قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى في مقابلته العذاب الأقصى والعذاب الأكبر في مقابلته العذاب الأصغر فما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر فنقول حصل في عذاب الدنيا أمران أحدهما أنه قريب والآخر أنه قليل صغير وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمرانأحدهما أنه بعيد والآخر أنه عظيم كثير لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح للتخويف به فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس ويستبعد الثواب العظيم الآجل وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد لما بينا فقال في عذاب الدنيا الْعَذَابِ الاْدْنَى ليحترز العاقل عنه ولو قال ( لنذيقنهم من العذاب الأصغر ) ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلاً وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى ولو قال دون العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه بالكبر وبالجملة فقد اختار الله تعالى في العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف من الوصفين الآخرين فيهما لحكمة بالغة
المسألة الثانية قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل هذه الترجى والله تعالى محال ذلك عليه فما الحكمة فيه نقول فيه وجهان أحدهما معناه لنذيبقنهم إذاقة الراجين كقوله تعالى إِنَّا نَسِينَاكُمْ ( السجدة 14 ) يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا فكذلك ههنا نذيقهم على الوجه الذي يفعل بالراجي من التدريج وثانيهما معناه نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل لعلهم يرجعون بسببه ونزيد وجهاً آخر من عندنا وهو أن كل فعل يتلوه أمر مطلوب من ذلك الفعل يصح تعليل ذلك الفعل بذلك الأمر كما يقال فلان اتجر ليربح ثم إن هذا التعليل إن كان في موضع لا يحصل الجزم بحصول الأمر من الفعل نظراً إلى نفس الفعل وإن حصل الجزم والعلم بناء على أمر من خارج فإنه يصح أن يقال يفعل كذا رجاء كذا كما يقال يتجر رجاء أن يربح وإن حصل للتاجر جزم بالربح لا يقدح ذلك في صحة قولنا يرجو لما أن الجزم غير حاصل نظراً إلى التجارة وإن كان الجزم حاصلاً نظراً إلى الفعل لا يصح أن يقال يرجو وإن كان ذلك الجزم يحتمل خلافه كقول القائل فلان حز رقبة عدوه رجاء أن يموت لا يصح لحصوله الجزم بالموت عقيب الحز نظراً إليه وإن أمكن أن لا يموت نظراً إلى قدرة الله تعالى ويصحح قولنا قوله تعالى في حق إبراهيم وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى ( الشعراء 82 ) مع أنه كان عالماً بالمغفرة لكن لما لم يكن الجزم حاصلاً من نفس الفعل أطلق عليه الطمع وكذلك قوله تعالى وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ ( العنكبوت 36 ) مع أن الجزم به لازم إذا علم ما ذكرنا فنقول في كل صورة قال الله تعالى لَعَلَّهُمْ فإن نظرنا إلى الفعل لا يلزم الجزم فإن من التعذيب لا يلزم الرجوع لزوماً بيناً فصح قولنا يرجو وإن كان علمه حاصلاً بما يكون غاية ما في الباب أن الرجاء في أكثر الأمر استعمل فيما لا يكون الأمر معلوماً فأوهم أن لا يجوز الإطلاق في حق الله تعالى وليس كذلك بل الترجي يجوز في حق الله تعالى ولا يلزم منه عدم العلم وإنما يلزم عدم الجزم بناء على ذلك

الفعل وعلم الله ليس مستفاداً من الفعل فيصح حقيقة الترجي في حقه على ما ذكرنا من المعنى
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَة ٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِأايَاتِنَا يُوقِنُونَ
قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا يعني لنذيقنهم ولا يرجعون فيكونون قد ذكروا بآيات الله من النعم أولا والنقم ثانياً ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد لأن من يكفر بالله ظالم فإن الله لذوي البصائر ظاهر لا يحتاج المستنير الباطن إلى شاهد يشهد عليه بل هو شهيد على كل شيء كما قال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ ( فصلت 53 ) أي دليلك الله لا يحتاج المستنير الباطن إلى دليل على الله ولهذا قال بعض العارفين رأيت الله قبل كل شيء فمن لم يكفه الله فسائر الموجودات سواء كان فيها نفع أو ضر كاف في معرفة الله كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) فإن لم يكفهم ذلك فبسبغه عليهم نعمه ظاهرة وباطنة فالأول الذي لا يحتاج إلى غير الله هو عدل والثاني الذي يحتاج إلى دليل فهو متوسط والثالث الذي لم تكفه الآفاق ظالم والرابع الذي لم تقنعه النعم أظلم من ذلك الظالم وقد يكون أظلم منه آخر وهو الذي إذا أذيق العذاب لا يرحع عن ضلالته فإن الأكثر كان من صفتهم أنهم إذا مسهم ضر دعوا ربهم منيبين إليه فهذا لما عذب ولم يرجع فلا أظلم منه أصلا فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا
ثم قال تعالى إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ أي لما لم ينفعهم العذاب الأدنى فأنا منتقم منهم بالعذاب الأكبر
ثم قال تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لما قرر الأصول الثلاثة على ما بيناه عاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ ( القصص 46 ) وقال قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ ( الأحقاف 9 ) بل كان قبلك رسل مثلك واختار من بينهم موسى لقربه من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم وإنما لم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام فتمسك بالمجمع عليه وقوله فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَة ٍ مّن لّقَائِهِ قيل معناه فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه وقيل بأنه رآه ليلة المعراج وقيل معناه فلا تكن في شك من لقاء الكتاب فإنك تلقاه كما لقي موسى الكتاب ويحتمل أن تكون الآية واردة لا للتقرير بل لتسلية النبي عليه السلام فإنه لما أتى بكل آية وذكر بها وأعرض عنها قومه حزن عليهم فقيل له

تذكر حال موسى ولا تحزن فإنه لقي ما لقيت وأوذي كما أوذيت وعلى هذا فاختيار موسى عليه السلام لحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه قومه إلا الذين لم يؤمنوا به وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى فإن لم يؤمن به آذاه مثل فرعون وغيره ومن آمن به من بني إسرائيل أيضاً آذاه بالمخالفة وطلب أشياء منه مثل طلب رؤية الله جهرة ومثل قوله اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ( المائدة 24 ) ثم بين له أن هدايته غير خالية عن المنفعة كما أنه لم تخل هداية موسى فقال وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِنَبِى ّ إِسْراءيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا فحيث جعل الله كتاب موسى هدى وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صحابة يهدون كما قال عليه السلام ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر فقال لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يُوقِنُونَ فكذلك اصبروا وآمنوا بأن وعد الله حق
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ
قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ هذا يصلح جواباً لسؤال وهو أنه لما قال تعالى وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ كان لقائل أن يقول كيف كانوا يهدون وهم اختلفوا وصاروا فرقاً وسبيل الحق واحد فقال فيهم هداة والله بين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة وفيه وجه آخر وهو أن الله تعالى بين أنه يفصل بين المختلفين من أمة واحدة كما يفصل بين المختلفين من الأمم فينبغي أن لا يأمن من آمن وإن لم يجتهد فإن المبتدع معذب كالكافر غاية ما في الباب أن عذاب الكافر أشد وآلم وأمد وأدوم
ثم قال تعالى أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْقُرُونِ قد ذكرنا أن قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تقرير لرسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإعادة لبيان ما سبق في قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ ( القصص 46 ) ولما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد فقال تعالى أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ وقوله يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ زيادة إبانة أي مساكن المهلكين دالة على حالهم وأنتم تمشون فيها وتبصرونها وقوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ اعتبر فيه السمع لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم فقال أفلا يسمعون يعني ليس لهم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرض الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضر والنفع بيد الله والجرز الأرض اليابسة التي لا نبات فيها والجرز هو القطع وكأنها المقطوع عنها الماء والنبات ثم قال تعالى فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ قدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه أحدها أن الزرع أول ما ينبت يصلح للدواب ولا يصلح للإنسان والثاني وهو أن الزرع غذاء الدواب وهو لا بد منه وأما غذاء الإنسان فقد يحصل من الحيوان فكأن الحيوان يأكل الزرع ثم الإنسان يأكل من الحيوان الثالث إشارة إلى أن الأكل من ذوات الدواب والإنسان يأكل بحيوانيته أو بما فيه من القوة العقلية فكماله بالعبادة ثم قال تعالى أَفَلاَ يُبْصِرُونَ لأن الأمر يرى بخلاف حال الماضين فإنها كانت مسموعة ثم لما بين الرسالة والتوحيد بين الحشر بقوله تعالى وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ إلى آخر السورة فصار ترتيب آخر السورة كترتيب أولها حيث ذكر الرسالة في أولها بقوله لِتُنذِرَ قَوْماً ( القصص 46 ) وفي آخرها بقوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ( البقرة 87 ) وذكر التوحيد بقوله الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقوله الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ وفي آخر السورة ذكره بقوله أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ وذكر الحشر في أولها بقوله وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ ( السجدة 10 ) وفي آخرها بقوله وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ
قوله تعالى قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ أي لا يقبل إيمانهم في تلك الحالة لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا ولا ينظرون أي لا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا فيقبل إيمانهم ثم لما بين المسائل وأتقن الدلائل ولم ينفعهم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تناظرهم بعد ذلك وإنما الطريق بعد هذا القتال وقوله وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ يحتمل وجوهاً أحدها وانتظر هلاكهم فإنهم ينتظرون هلاكك وعلى هذا فرق بين الانتظارين لأن انتظار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأمر الله تعالى بعد وعده وانتظارهم بتسويل أنفسهم والتعويل على الشيطان وثانيها وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم وفرق بين الانتظارين وثالثها وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء كما قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( الأعراف 70 ) وقالوا مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( النمل 71 ) إلى غير ذلك والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ
قوله تعالى قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ أي لا يقبل إيمانهم في تلك الحالة لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا ولا ينظرون أي لا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا فيقبل إيمانهم ثم لما بين المسائل وأتقن الدلائل ولم ينفعهم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تناظرهم بعد ذلك وإنما الطريق بعد هذا القتال وقوله وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ يحتمل وجوهاً أحدها وانتظر هلاكهم فإنهم ينتظرون هلاكك وعلى هذا فرق بين الانتظارين لأن انتظار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأمر الله تعالى بعد وعده وانتظارهم بتسويل أنفسهم والتعويل على الشيطان وثانيها وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم وفرق بين الانتظارين وثالثها وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء كما قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( الأعراف 70 ) وقالوا مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( النمل 71 ) إلى غير ذلك والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين

سورة الأحزاب
سبعون وثلاث آيات وهي مدنية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
يأَيُّهَا النَّبِى ِّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
قوله تعالى مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ في تفسير الآية مسائل
الأولى في الفرق بين النداء والمنادى بقوله يا رجل ويا أيها الرجل وقد قيل فيه ما قيل ونحن نقول قول القائل يا رجل يدل على النداء وقوله يا أيها الرجل يدل على ذلك أيضاً وينبىء عن خطر خطب المنادي له أو غفلة المنادى أما الثاني فمذكور وأما الأول فلأن قوله ( يا أي ) جعل المنادى غير معلوم أولاً فيكون كل سامع متطلعاً إلى المنادى فإذا خص واحداً كان في ذلك إنباء الكل لتطلعهم إليه وإذا قال يا زيد أو يا رجل لا يلتفت إلى جانب المنادى إلا المذكور إذا علم هذا فنقول فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا لا يجوز حمله على غفلة النبي لأن قوله النَّبِى ّ ينافي الغفلة لأن النبي عليه السلام خبير فلا يكون غافلاً فيجب حمله على خطر الخطب
المسألة الثانية الأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس وللساكت اسكت والنبي عليه السلام كان متقياً فما الوجه فيه نقول فيه وجهان احدهما منقول وهو أنه أمر بالمداومة فإنه يصح أن يقول القائل للجالس اجلس ههنا إلى أن أجيئك ويقول القائل للساكت قد أصبت فاسكت تسلم أي دم على ما أنت عليه والثاني وهو معقول لطيف وهو أن الملك يتقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه وبعضهم يخاف من قطع ثوابه وثالث يخاف من احتجابه فالنبي لم يؤمر بالتقوى بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني وأما الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا وكيف والأمور الدنيوية شاغلة والآدمي في الدنيا تارة مع الله وأخرى مقبل على ما لابد منه وإن كان معه الله وإلى هذا إشارة بقوله إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحِى إِلَى َّ ( فصلت 6 ) يعني يرفع الحجاب عني

وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم فالأمر بالتقوى يوجب استدامة الحضور الوجه الثاني هو أن النبي عليه الصلاة والسلام كل لحظة كان يزداد علمه ومرتبته حتى كان حاله فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه تركا للأفضل فكان له في كل ساعة تقوى متجددة فقوله اتَّقِ اللَّهَ على هذا أمر بما ليس فيه وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام بقوله ( من استوى يوماه فهو مغبون ) ولأنه طلب من ربه بأمر الله إياه به زيادة العلم حيث قال وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وأيضاً إلى هذا وقعت الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ) يعني يتجدد له مقام يقول الذي أتيت به من الشكر والعبادة لم يكن شيئاً إذا علم هذا فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحكم إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( فصلت 6 ) كان قد وقع له خوف ما يسير من جهة ألسنة الكفار والمنافقين ومن أيديهم بدليل قوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 37 ) فأمره الله بتقوى أخرى فوق ما يتقيه بحيث تنسيه الخلق ولا يريد إلا الحق وزاد الله به درجته فكان ذلك بشارة له في مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ أنت ما بقيت في الدرجة التي يقنع منك بتقوى مثل تقوى الآحاد أو تقوى الأوتاد بل لا يقنع منك إلا بتقوى تنسيك نفسك ألا ترى أن الإنسان إذا كان يخاف فوت مال إن هجم عليه غاشم يقصد قتله يذهل عن المال ويهرب ويتركه فكذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر بمثل هذه التقوى ومع هذه التقوى لا يبقى الخوف من أحد غير الله وخرج هذا مخرج قول القائل لمن يخاف زيد أو عمراً خف عمراً فإن زيداً لا يقدر عليك إذا كان عمرو معك فلا يكون ذلك أمراً بالخوف من عمرو فإنه يخاف وإنما يكون ذلك نهياً عن الخوف من زيد في ضمن الأمر بزيادة الخوف من عمرو حتى ينسيه زيداً
ثم قوله تعالى وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يقرر قولنا أي اتق الله تقوى تمنعك من طاعتهم
المسألة الثالثة لم خص الكافرين والمنافقين بالذكر مع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينبغي أن لا يطيع أحداً غير الله نقول لوجهين أحدهما أن ذكر الغير لا حاجة إليه لأن غيرهما لا يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام الاتباع ولا يتوقع أن يصير النبي عليه السلام مطيعاً له بل يقصد اتباعه ولا يكون عنده إلا مطاعاً والثاني هو أنه تعالى لما قال وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ منعه من طاعة الكل لأن كل من طلب من النبي عليه الصلاة والسلام طاعته فهو كافر أو منافق لأن من يأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأمر أمر إيجاب معتقداً على أنه لو لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً إشارة إلى أن التقوى ينبغي تكون عن صميم قلبك لا تخفى في نفسك تقوى غير الله كما يفعله الذي يرى من نفسه الشجاعة حيث يخاف في نفسه ويتجلد فإن التقوى من الله وهو عليم وقوله حَكِيماً إشارة إلى دفع وهم متوهم وهو أن متوهما لو قال إذا قال الله شيئاً وقال جميع الكافرين والمنافقين مع أنهم أقارب النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً آخر ورأوا المصلحة فيه وذكروا وجهاً معقولاً فاتباعهم لا يكون إلا مصلحة فقال الله تعالى إنه حكيم ولا تكون المصلحة إلى في قول الحكيم فإذا أمرك الله بشيء فاتبعه ولو منعك أهل العالم عنه

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ
يقرر ما ذكرنا من أنه حكيم فاتباعه هو الواجب ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً لما قال إنه عليم بما في قلوب العباد بين أنه عالم خبير بأعمالكم فسووا قلوبكم وأصلحوا أعمالكم ثم قال تعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً يعني اتق الله وإن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه كفى به دافعاً ينفع ولا يضر معه شيء وإن ضر لا ينفع معه شيء
ثم قال تعالى مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ قال بعض المفسرين الآية نزلت في أبي معمر كان يقول لي قلبان أعلم وأفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد فرد الله عليه بقوله مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وقال الزمخشري قوله وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ أي ما جعل لرجل قلبين كما لم يجعل لرجل أمين ولا لابن أبوين وكلاهما ضعيف بل الحق أن يقال إن الله لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ فكان ذلك أمراً له بتقوى لا يكون فوقها تقوى ومن يتقي ويخاف شيئاً خوفاً شديداً لا يدخل في قلبه شيء آخر ألا ترى أن الخائف الشديد الخوف ينسى مهماته حالة الخوف فكأن الله تعالى قال يا أيها النبي اتق الله حق تقاته ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حى يتقي بأحدهما الله وبالآخرة غيره فإن اتقى غيره فلا يكون ذلك إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره وذلك لا يليق بالمتقي الذي يدعي أنه يتق الله حق تقاته ثم ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام أنه لا ينبغي أن يتقي أحداً ولا مثل ما اتقيت في حكاية زينب زوجة زيد حيث قال الله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 37 ) يعني مثل تلك التقوى لا ينبغي أن تدخل في قلبك ثم لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بتلك الحالة ذكر ما يدفع عنه السوء فقال وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ أي وما جعل الله دعي المرء ابنه ثم قدم عليه ما هو دليل قوي على اندفاع القبح وهو قوله وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم أنت علي كظهر أمي فلا تصير هي أماً بإجماع الكل أما في الإسلام فلأنه ظهار لا يحرم الوطء وأما في الجاهلية فلأنه كان طلاقاً حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها من جديد فإذا كان قول القائل لزوجته أنت أمي أو كظهر أمي لا يوجب صيرورة الزوجة أماً كذلك قول القائل للدعي أنت أبي لا يوجب كونه ابناً فلا تصير زوجته زوجة الابن فلم

يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئاً فلم يكن خوفك من الناس له وجه كيف ولو كان أمراً مخوفاً ما كان يجوز أن تخاف غير الله أو ليس لك قلبان وقلبك مشغول بتقوى الله فما كان ينبغي أن تخاف أحداً
ثم قال تعالى ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ فيه لطيفة وهو أن الكلام المعتبر على قسمين أحدهما كلام يكون عن شيء كان فيقال والثاني كلام يقال فيكون كما قيل والأول كلام الصادقين الذين يقولون ما يكون والآخر كلام الصديقين الذين إذا قالوا شيئاً جعله الله كما قالوه وكلاهما صادر عن قلب والكلام الذي يكون بالفم فحسب هو مثل نهيق الحمار أو نباح الكلب لأن الكلام المعتبر هو الذي يعتمد عليه والذي لا يكون عن قلب وروية لا اعتماد عليه والله تعالى ما كرم ابن آدم وفضله على سائر الحيوانات ينبغي أن يحترز من التخلق بأخلاقها فقول القائل هذا ابن فلان مع أنه ليس ابنه ليس كلاماً فإن الكلام في الفؤاد وهذا في الفم لا غير واللطيفة هي أن الله تعالى ههنا قال ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ وقال في قوله وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 30 ) يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضاً في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ إشارة إلى معنى لطيف وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل أو عن شرع فإذا قال فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو يكون عن شرع بأن يكون ابنه شرعاً وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولداً وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني فلقيام الفراش ونقول إنه ابنه وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق لأن أباه مشهور ظاهر ووجه آخر فيه وهو أنهم قالوا هذه زوجة الابن فتحرم وقال الله تعالى هي لك حلال وقولهم لا اعتبار به فإنه بأفواههم كأصوات البهائم وقول الله حق فيجب اتباعه وقوله وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ يؤكد قوله وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ يعني يجب اتباعه لكونه حقاً ولكونه هادياً وقوله تعالى ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فيه لطيفة وهو أن الكلام الذي بالفم فحسب يشبه صوت البهائم الذي يوجد لا عن قلب ثم إن الكلام الذي بالقلب قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً لأن من يقول شيئاً عن اعتقاد قد يكون مطابقاً فيكون حقاً وقد لا يكون فيكون باطلاً فالقول الذي بالقلب وهو المعتبر من أقوالكم قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً لأنه يتبع الوجود وقول الله حق لأنه يتبعه الوجود فإنه يقول عما كان أو يقول فيكون فإذن قول الله خير من أقوالكم التي عن قلوبكم فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم فإذن لا يجوز أن تأخذوا بقولكم الكاذب اللاغي وتتركوا قول الله الحق فمن يقول بأن تزوج النبي عليه الصلاة والسلام بزينب لم يكن حسناً يكون قد ترك قول الله الحق وأخذ بقول خرج عن الفم
ثم قال تعالى وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ إشارة إلى أن اتباع ما أنزل الله خير من الأخذ بقول الغير
ادْعُوهُمْ لاًّبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً

ثم بين الهداية وقال ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءابَاءهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ
قوله تعالى ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ أرشد وقال هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ أي أعدل فإنه وضع الشيء في موضعه وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون ترك الإضافة للعموم أي أعدل كل كلام كقول القائل الله أكبر وثانيهما أن يكون ما تقدم منوياً كأنه قال ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد وقال ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ يعني قولوا لهم إخواننا وأخو فلان فإن كانوا محررين فقولوا مولى فلان ثم قال تعالى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ يعني قول القائل لغيره يا بني بطريق الشفقة وقول القائل لغيره يا أبي بطريق التعظيم فإنه مثل الخطأ ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان فكذلك سبق اللسان في قول القائل ابني والسهو في قوله ابني من غير قصد إلى إثبات النسب سواء وقوله وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ مبتدأ خبره محذوف يدل عليه ما سبق وهو الجناح يعني ما تعمدت قلوبكم فيه جناح وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يغفر الذنوب ويرحم المذنب وقد ذكرنا كلاماً شافياً في المغفرة والرحمة في مواضع ونعيد بعضها ههنا فنقول المغفرة هو أن يسترد القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته حتى أن العبد إذا ستر عيب سيده مخافة عقابه لا يقال إنه غفر له والرحمة هو أن يميل إليه بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه وكذا من أحسن إلى غيره رجاء في خيره أو عوضاً عما صدر منه آنفاً من الإحسان لا يقال رحمه إذا علم هذا فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلساً عاجزاً فرحمه وأعطاه ما كفاه وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه ولم يقتصر عليه بل ستر ذنوبه
النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الاٌّ رْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً
قوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تقرير لصحة ما صدر منه عليه الصلاة والسلام من التزوج بزينب وكأن هذا جواب عن سؤال وهو أن قائلاً لو قال هب أن الأدعياء ليسوا بأبناء كما قلت لكن من سماه غيره ابناً إذا كان لدعيه شيء حسن لا يليق بمروءته أن يأخذه منه ويطعن فيه عرفاً فقال الله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ جواباً عن ذلك السؤال وتقريره هو أن دفع الحاجات على مراتب دفع حاجة الأجانب ثم دفع حاجة الأقارب الذين على حواشي النسب ثم دفع حاجة الأصول والفصول ثم دفع حاجة النفس والأول عرفاً دون الثاني وكذلك شرعاً فإن العاقلة تتحمل الدية عنهم ولا تتحملها عن الأجانب والثاني دون الثالث أيضاً وهو ظاهر بدليل النفقة والثالث دون الرابع فإن النفس تقدم على الغير وإليه أشار النبي عليه الصلاة

والسلام بقوله ( ابدأ بنفسك ثم

بمن تعول ) إذا علمت هذا فالإنسان إذا كان معه ما يغطي به إحدى الرجلين أو يدفع به حاجة عن أحد شقي بدنه فلو أخذ الغطاء من أحدهما وغطى به الآخر لا يكون لأحد أن يقول له لم فعلت فضلاً عن أن يقول بئسما فعلت اللهم إلا أن يكون أحد العضوين أشرف من الآخر مثل ما إذا وقى الإنسان عينه بيده ويدفع البرد عن رأسه الذي هو معدن حواسه ويترك رجله تبرد فإنه الواجب عقلاً فمن يعكس الأمر يقال له لم فعلت وإذا تبين هذا فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أولى بالمؤمن من نفسه فلو دفع المؤمن حاجة نفسه دون حاجة نبيه يكون مثله مثل من يدهن شعره ويكشف رأسه في برد مفرط قاصداً به تربية شعره ولا يعلم أنه يؤذي رأسه الذي لا نبات لشعره إلا منه فكذلك دفع حاجة النفس فراغها إلى عبادة الله تعالى ولا علم بكيفية العبادة إلا من الرسول عليه الصلاة والسلام فلو دفع الإنسان حاجته لا للعبادة فهو ليس دفعاً للحاجة لأن دفع الحاجة ما هو فوق تحصيل المصلحة وهذا ليس فيه مصلحة فضلاً عن أن يكون حاجة وإذا كان للعبادة فترك النبي الذي منه يتعلم كيفية العبادة في الحاجة ودفع حاجة النفس مثل تربية الشعر مع إهمال أمر الرأس فتبين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد شيئاً حرم على الأمة التعرض إليه في الحكمة الواضحة
ثم قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ تقريراً آخر وذلك لأن زوجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما جعلها الله تعالى في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي عليه الصلاة والسلام فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت الزوجات في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره فلو قال قائل كيف قال وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وقال من قبل وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ إشارة إلى أن غير من ولدت لا تصير أماً بوجه ولذلك قال تعالى في موضع آخر إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ فنقول قوله تعالى في الآية المتقدمة وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ جواب عن هذا معناه أن الشرع مثل الحقيقة ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة كما أن امرأتين إذا ادعت كل واحدة ولداً بعينه ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد وإن تبين أن التي حلفت دون البلوغ أو بكر ببينة لا يحكم لها بالولد فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع لا بل في بعض المواضع على الندور تغلب الشريعة الحقيقة فإن الزاني لا يجعل أباً لولد الزنا إذا ثبت هذا فالشارع له الحكم فقول القائل هذه أمي قول يفهم لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة وأما قول الشارع ( فهو ) حق والذي يؤيده هو أن الشارع به الحقائق حقائق فله أن يتصرف فيها ألا ترى أن الأم ما صارت أماً إلا بخلق الله الولد في رحمها ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها فإذا كان هو الذي يجعل الأم الحقيقية أماً فله أن يسمى امرأة أماً ويعطيها حكم الأمومة والمعقول في جعل أزواجه أمهاتنا هو أن الله تعالى جعل زوجة الأب محرمة على الإبن لأن الزوجة محل الغيرة والتنازع فيها فإن تزوج الإبن بمن كانت تحت الأب يفضي ذلك إلى قطع الرحم والعقوق لكن النبي عليه الصلاة والسلام أشرف وأعلى درجة من الأب وأولى بالإرضاء فإن الأب يربي في الدنيا فحسب والنبي عليه الصلاة والسلام يربي في الدنيا والآخرة فوجب أن تكون زوجاته مثل زوجات الآباء فإن قال قائل فلم لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى أو لم يقل إن أزواجه أزواج أبيكم فنقول لحكمة وهي أن النبي لما بينا أنه إذا أراد زوجة واحد من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي عليه الصلاة والسلام فلو قال أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد ولأنه لما جعله أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدم على الأب لقوله عليه الصلاة والسلام ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ولذلك فإن المحتاج إلى القوت لا يجب عليه صرفه إلى الأب ويجب عليه صرفه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ثم إن أزواجه لهم حكم زوجات الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقية والرضاعية
ثم قال تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً إشارة إلى الميراث وقوله إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً إشارة إلى الوصية يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم فإن قيل فعلى هذا أي تعلق للميراث والوصية بما ذكرت نقول تعلق قوي خفي لا يتبين إلا لمن هداه الله بنوره وهو أن غير النبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته لا يصير له مال الغير وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته والنبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أراده ولا يصير ماله لورثته بعد وفاته كأن الله تعالى عوض النبي عليه الصلاة والسلام عن قطع ميراثه بقدرته على تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه يرجع إليهم حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ولا يرجع إليهم فقال تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ يعني بينكم التوارث فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم الثاني هو أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام أولي بالمؤمنين وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض ثم إذا أراد أحد براً مع صديق فيوصي له بشيء فيصير أولى من قريبه وكأنه بالوصية قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا إلى من أريده فكذلك الله تعالى جعل لصديقه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره وقوله ( كان ذلك في الكتاب مسطوراً ) فيه وجهان أحدهما في القرآن وهو آية المواريث والوصية والثاني في اللوح المحفوظ
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) وأكده بالحكاية التي خشى فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحداً غيره وبين أنه لم يرتكب أمراً يوجب الخشية بقوله النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( الأحزاب 6 ) أكده بوجه آخر وقال وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ كأنه قال اتق الله ولا تخف أحداً واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الميثاق المأخوذ من النبيين إرسالهم وأمرهم بالتبليغ

المسألة الثانية خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجاً على قومهما وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب وأما نوح فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنذار ولهذا أهلك قومه وأغرقوا
المسألة الثالثة في كثير من المواضع يقول الله عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ( البقرة 87 ) الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ( المائدة 17 ) إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به وقوله وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ ( الأعراف 6 ) وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولاً وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظاً للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً ( النساء 21 ) هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) وكما أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد
لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً
يعني أرسل الرسل وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب والكافر معذب وهذا كما قال علي عليه السلام ( الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب ) وهذا مما يوجب الخوف العام فيتأكد قوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاٌّ بْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ
تحقيقاً لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك لأن واقعة اجتماع الأحزاب واشتداد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم ونزلوا على المدينة وعمل النبي عليه السلام الخندق كان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغاً إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمنهم من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبد غير ربه فإنه كاف أمره ولا يأمن مكره فإنه قادر على كل

ممكن فكان قادراً على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم كانوا ضعفاء كما قهر الكافرين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم وقوله فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا إشارة إلى ما فعل الله بهم من إرسال ريح باردة عليهم في ليلة شاتية وإرسال الملائكة وقذف الرعب في قلوبهم حتى كان البعض يلتزق بالبعض من خوف الخيل في جوف الليل والحكاية مشهورة وقوله وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إشارة إلى أن الله علم التجاءكم إليه ورجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداء وهذا تقرير لوجوب الخوف وعدم جواز الخوف من غير الله فإن قوله فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا أي الله يقضي حاجتكم وأنتم لا ترون فإن كان لا يظهر لكم وجه الأمن فلا تلتفتوا إلى عدم ظهوره لكم لأنكم لا ترون الأشياء فلا تخافون غير الله والله بصير بما تعملون فلا تقولوا بأنا نفعل شيئاً وهو لا يبصره فإنه بكل شيء بصير وقوله إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ بيان لشدة الأمر وغاية الخوف وقيل مّن فَوْقِكُمْ أي من جانب الشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ من جانب الغرب وهم أهل مكة وزاغت الأبصار أي مالت عن سننها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ كناية عن غاية الشدة وذلك لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص فيلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مجرى النفس لا يقدر المرء يتنفس ويموت من الخوف ومثله قوله تعالى حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( الواقعة 83 ) وقوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ الألف واللام يمكن أن يكونا بمعنى الاستغراق مبالغة يعني تظنون كل ظن لأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً ويمكن أن يكون المراد ظنونهم المعهودة لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قال عليه السلام ( ظنوا بالله خيراً ) ومن الكافر الظن السوء كما قال تعالى ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) وقوله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( النجم 23 ) فإن قال قائل المصدر لا يجمع فما الفائدة في جمع الظنون فنقول لا شك في أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدراً كما يقال ضربته سياطاً وأدبته مراراً فكأنه قال ظننتم ظناً بعد ظن أي ما ثبتم على ظن فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال تظنون ظناً جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال ظنوناً تبين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها وقد يكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد مثاله إذا رأى جمع من بعيد جسماً وظن بعضهم أنه زيد وآخرون أنه عمرو وقال ثالث إنه بكر ثم ظهر لهم الحق قد يكون الكل مخطئين والمرئي شجر أو حجر وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مصيبين فقوله الظُّنُونَاْ أفاد أن فيهم من أخطأ الظن ولو قال تظنون بالله ظناً ما كان يفيد هذا
هُنَالِكَ ابْتُلِى َ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً
أي عند ذلك امتحن الله المؤمنين فتميز الصادق عن المنافق والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له

بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة وعزم على معاقبته على مخالفته وعنده غيره من العبيد وغيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه يخالفه فيبين الأمر عند الغير فتقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنها بظلم أو من قلة حلم وقوله وَزُلْزِلُواْ أي أزعجوا وحركوا فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وبذكر الله تطمئن مرة أخرى وهم المؤمنون حقاً
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِى َّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة ٌ وَمَا هِى َ بِعَوْرَة ٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً
فسر الظنون وبينها فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث قطعوا بأن الغلبة واقعة وقوله وَإِذْ قَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ أَهْلُ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ أي لا وجه لإقامتكم مع محمد كما يقال لا إقامة على الذل والهوان أي لا وجه لها ويثرب اسم للبقعة التي هي المدينة فارجعوا أي عن محمد واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان ثم السامعون عزموا على الرجوع واستأذنوه وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي فيها خلل لا يأمن صاحبها السارق على متاعه والعدو على أتباعه ثم بين الله كذبهم بقوله وَمَا هِى َ بِعَوْرَة ٍ وبين قصدهم وما تكن صدورهم وهو الفرار وزوال القرار بسبب الخوف
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَة َ لاّتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً
إشارة إلى أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله كمن يبذل المال لكي لا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله فقال الله تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً وليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وقوله وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ احتمل أن يكون المراد المدينة واحتمل أن يكون البيوت وقوله وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا يحتمل أن يكون المراد الفتنة إِلاَّ يَسِيراً فإنها تزول وتكون العاقبة للمتقين ويحتمل أن يكون المراد المدينة أو البيوت أي ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً فإن المؤمنين يخرجونهم
وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاٌّ دْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً

بياناً لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً وندماً وذكروا أن القتال لا يزال لهم قدماً ثم هددهم بقوله وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً وقوله قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ إشارة إلى أن الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما وقع عليه القرار وما قدره الله كائن فمن أمر بشيء إذا خالفه يبقى في ورطة العقاب آجلاً ولا ينتفع بالمخالفة عاجلاً ثم قال تعالى وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً كأنه يقول ولو فررتم منه في يومكم مع أنه غير ممكن لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً فالعاقل لا يرغب في شيء قليل مع أنه يفوت عليه شيئاً كثيراً فلا فرار لكم ولو كان لما متعتم بعد الفرار إلا قليلاً
قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُو ءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَة ً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
بياناً لما تقدم من قوله لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ وقوله وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ تقرير لقوله مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً
أي الذين يثبطون المسلمين ويقولون تعالوا إلينا ولا تقاتلوا مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه وجهان أحدهما أنهم المنافقون الذين كانوا يقولون للأنصار لا تقاتلوا وأسلموا محمداً إلى قريش وثانيهما اليهود الذين كانوا يقولون لأهل المدينة تعالوا إلينا وكونوا معنا وهلم بمعنى تعال أو احضر ولا تجمع في لغة الحجاز وتجمع في غيرها فيقال للجماعة هلموا وللنساء هلمن وقوله وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً يؤيد الوجه الأول وهو أن المراد منهم المنافقون وهو يحتمل وجهين أحدهما لاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ بمعنى يتخلفون عنكم ولا يخرجون معكم وحينئذٍ قوله تعالى أَشِحَّة ً عَلَيْكُمْ أي بخلاء حيث لا ينفقون في سبيل الله شيئاً وثانيهما لا يأتون البأس بمعنى لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم وقوله أَشِحَّة ً عَلَيْكُمْ أي بأنفسهم وأبدانهم
أَشِحَّة ً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة ٍ حِدَادٍ أَشِحَّة ً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَائِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً

إشارة إلى غاية جبنهم ونهاية روعهم واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخل بين سببه وهو الجبن والذي يدل عليه هو أن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك وأما بالنفس والبدن فكذلك فإن الجبان يخاف قرنه ويتصور الفشل فيجبن ويترك الإقدام وأما الشجاع فيحكم بالغلبة والنصر فيقدم وقوله تعالى فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم أي غلبوكم بالألسنة وآذوكم بكلامهم يقولون نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو وقهرتم ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالإياب وقوله أَشِحَّة ً عَلَى الْخَيْرِ قيل الخير المال ويمكن أن يقال معناه أنهم قليلو الخير في الحالتين كثيرو الشر في الوقتين في الأول يبخلون وفي الآخر كذلك
ثم قال تعالى أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يعني لم يؤمنوا حقيقة وإن أظهروا الإيمان لفظاً فأحبط الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين وقوله وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إشارة إلى ما يكون في نظر الناظر كما في قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) وذلك لأن الإحباط إعدام وإهدار وإعدام الأجسام إذا نظر الناظر يقول الجسم بتفريق أجزائه فإن من أحرق شيئاً يبقى منه رماد وذلك لأن الرماد إن فرقته الريح يبقى منه ذرات وهذا مذهب بعض الناس والحق هو أن الله يعدم الأجسام ويعيد ما يشاء منها وأما العمل فهو في العين معدوم وإن كان يبقى يبقى بحكمه وآثاره فإذا لم يكن له فائدة واعتبار فهو معدوم حقيقة وحكماً فالعمل إذا لم يعتبر فهو معدوم في الحقيقة بخلاف الجسم
يَحْسَبُونَ الاٌّ حْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الاٌّ حْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاٌّ عْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً
أي من غاية الجبن عند ذهابهم كانوا يخافونهم وعند مجيئهم كانوا يودون لو كانوا في البوادي ولا يكونون بين المقاتلين مع أنهم عند حضورهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كما قال تعالى وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً

وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاٌّ حْزَابَ قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً
لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين وهو أنهم قالوا هذا ما وعدنا الله من الابتلاء ثم قالوا وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في مقابلة قولهم مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ( الأحزاب 12 ) وقولهم وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هي إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وقد وقع وصدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس وقوله مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً بوقوعه وتسليماً عند وجوده
مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لِّيَجْزِى َ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً
إشارة إلى وفائهم بعهدهم الذي عاهدوا الله أنهم لا يفارقون نبيه إلا بالموت فمنهم من قضى نحبه أي قاتل حتى قتل فوفى بنذره والنحب النذر ومنهم من هو بعد في القتال ينتظر الشهادة وفاء بالعهد وما بدلوا تبديلاً بخلاف المنافقين فإنهم قالوا لا نولي الأدبار فبدلوا قولهم وولوا أدبارهم وقوله لّيَجْزِى َ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي بصدق ما وعدهم في الدنيا والآخرة كما صدقوا مواعيدهم ويعذب المنافقين الذين كذبوا واخلفوا وقوله إِن شَاء ذلك فيمنعهم من الإيمان أو يتوب عليهم إن أراد وإنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل يأس النبي عليه الصلاة والسلام عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس منهم وقوله وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً حيث ستر ذنوبهم و رَّحِيماً حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده أو نقول وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جازاهم الله به على صدقهم فقال وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ أي مع غيظهم لم يشفوا صدراً ولم يحققوا أمراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ أي لم يحوجهم إلى قتال وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً غير محتاج إلى قتالهم عزيزاً قادراً على استئصال الكفار وإذلالهم
وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً

أي عاونوهم من أهل الكتاب وهم بنو قريظة من صياصيهم من قلاعهم وقذف في قلوبهم الرعب حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونسائهم للسبي فريقاً تقتلون وهم الرجال وتأسرون فريقاً وهم الصبيان والنسوان فإن قيل هل في تقديم المفعول حيث قال فريقاً تقتلون وتأخيره حيث قال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فائدة قلت قد أجبنا أن ما من شيء من القرآن إلا وله فوائد منها ما يظهر ومنها ما لا يظهر والذي يظهر من هذا والله أعلم أن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأعرف فالأعرف والأقرب فالأقرب والرجال كانوا مشهورين فكان القتل وارداً عليهم والأسرى كانوا هم النساء والصغار ولم يكونوا مشهورين والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلين ما هو أشهر على الفعل القائم به وما هو أشهر من الفعلين قدمه على المحل الأخفى وإن شئنا نقول بعبارة توافق المسائل النحوية فنقول قوله فَرِيقاً تَقْتُلُونَ فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل أما أنها جملة فعلية فلأنها لو كانت إسمية لكان الواجب في فريق الرفع وكان يقول فريق منهم تقتلونهم فلما نصب كان ذلك بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره تقتلون فريقاً تقتلون والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قذف في قلوبهم الرعب فلو قال تقتلون إلى أن يسمع السامع مفعول تقتلون يكون زمان وقد يمنعه مانع فيفوته فلا يعلم أنهم هم المقتولون فأما إذا قال فريقاً مع سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعه يستمع إلى تمام الكلام وإذا كان الأول فعلاً ومفعولاً قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على الأصل فعدم تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذا عرف حالهم وما يجىء بعده يكون مصروفاً إليهم ولو قال بعد ذلك وفريقاً تأسرون فمن سمع فريقاً ربما يظن أن يقال فيهم يطلقون أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى وكذلك الكلام في قوله وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم وقوله وَقَذَفَ فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبب الإنزال ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر قدم الإنزال على قذف الرعب والله أعلم
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيراً
فيه ترتيب على ما كان فإن المؤمنين أولاً تملكوا أرضهم بالنزول فيها والاستيلاء عليها ثم تملكوا ديارهم بالدخول عليهم وأخذ قلاعهم ثم أموالهم التي كانت في بيوتهم وقوله وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا قيل

المراد القلاع وقيل المراد الروم وأرض فارس وقيل كل ما يؤخذ إلى يوم القيامة وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيراً هذا يؤكد قول من قال إن المراد من قولهم وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا هو ما سيؤخذ بعد بني قريظة ووجهه هو أن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاد ووعدهم بغيرها دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاٌّ زْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاٌّ خِرَة َ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
وجه التعلق هو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدمهن في النفقة وفي الآية مسائل فقهية منها أن التخيير هل كان واجباً على النبي عليه السلام أم لا فنقول التخيير قولاً كان واجباً من غير شك لأنه إبلاغ الرسالة لأن الله تعالى لما قال له قل لهم صار من الرسالة وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا والظاهر أنه للوجوب ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله تعالى فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ومنها أن واحدة منهن إن اختارت نفسها وقلنا بأنها لا تبين إلا بإنابة من جهة النبي عليه السلام فهل كان يجب على النبي عليه السلام الطلاق أم لا الظاهر نظراً إلى منصب النبي عليه السلام أنه كان يجب لأن الخلف في الوعد من النبي غير جائز بخلاف واحد منا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا والظاهر أنها لا تحرم وإلا لا يكون التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا ومنها أن من اختارت الله ورسوله كان يحرم على النبي عليه الصلاة والسلام طلاقها أم لا الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى أن النبي عليه السلام لا يباشره أصلاً بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب وفيها لطائف لفظية منها تقديم اختيار الدنيا إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام غير ملتفت إلى جانبهن غاية الالتفات وكيف وهو مشغول بعبادة ربه ومنها قوله عليه السلام وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً إشارة إلى ما ذكرنا فإن السراح الجميل مع التأذي القوي لا يجتمع في العادة فعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يتأثر من اختيارهن فراقه بدليل أن التسريح الجميل منه ومنها قوله وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ إعلاماً لهن بأن في اختيار النبي عليه السلام اختيار الله ورسوله والدار الآخرة وهذه الثلاثة هي الدين وقوله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أي لمن عمل صالحاً منكن وقوله تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاْخِرَة َ فيه معنى الإيمان وقوله لِلْمُحْسِنَاتِ لبيان الإحسان حتى تكون الآية في المعنى كقوله تعالى وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ( لقمان 22 ) وقوله تعالى مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( الكهف 88 ) وقوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 82 ) والأجر العظيم الكبير في الذات الحسن في الصفات الباقي في الأوقات وذلك لأن العظيم في الأجسام لا يطلق إلا على الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ولو كان زائداً في العرض يقال له عريض وكذلك العميق فإذا وجدت

الأمور الثلاثة قيل عظيم فيقال جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات وإن كان مرتفعاً فحسب يقال جبل عال إذا عرفت هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن جهة قبح لما في مأكوله من الضرر والثقل وكذلك في مشروبه وغيره من اللذات وغير دائم وأجر الآخرة كثير خال عن جهات القبح دائم فهو عظيم
يانِسَآءَ النَّبِى ِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيِّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
لما خيرهن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن للتوقي عما يسوء النبي عليه السلام ويقبح بهن من الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان إحداهما أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ولإيذاء قلبه والإزراء بمنصبه وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي عليه السلام ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين ثانيتهما أن هذا إشارة إلى شرفهن لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته وقرائبه اللاتي هن أمهات المؤمنين وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأمة بالنسبة إلى الحرة واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض يقع جزماً من مات فقد استراح وفي البعض يتردد السامع في الأمرين فقوله تعالى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ عندنا من القبيل الأول فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة وقوله تعالى وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكن شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم أو شفعائهم وإخوانهم
وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً
قوله تعالى وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً بياناً لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ في مقابلة قوله تعالى يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ مع لطيفة وهي أن عند إيتاء

الأجر ذكر المؤتي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالمعذب فقال يُضَاعِفُ إشارة إلى كمال الرحمة والكرم كما أن الكريم الحي عند النفع يظهر نفسه وفعله وعند الضر لا يذكر نفسه وقوله تعالى وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً وصف رزق الآخرة بكونه كريماً مع أن الكريم لا يكون إلا وصفاً للرزاق إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس التاجر يسترزق من السوقة والمعاملين والصناع من المستعملين والملوك من الرعية والرعية منهم فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزاق وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق
يانِسَآءَ النَّبِى ِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
ثم قال تعالى كَرِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء لما ذكر أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثلاً أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء فقال لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ ومعنى قول القائل ليس فلان كآحاد الناس يعني ليس فيه مجرد كونه إنساناً بل وصف أخص موجود فيه وهو كونه عالماً أو عاملاً أو نسيباً أو حسيباً فإن الوصف الأخص إذا وجد لا يبقى التعريف بالأعم فإن من عرف رجلاً ولم يعرف منه غير كونه رجلاً يقول رأيت رجلاً فإن عرف علمه يقول رأيت زيداً أو عمراً فكذلك قوله تعالى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء يعني فيكن غير ذلك أمر لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين وزوجات خير المرسلين وكما أن محمداً عليه السلام ليس كأحد من الرجال كما قال عليه السلام ( لست كأحدكم ) كذلك قرائبه اللاتي يشرفن به وبين الزوجين نوع من الكفاءة
ثم قوله تعالى إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون متعلقاً بما قبله على معنى لستن كأحد إن اتقيتن فإن الأكرم عند الله هو الأتقى وثانيهما أن يكون متعلقاً بما بعده على معنى إن اتقيتن فلا تخضعن والله تعالى لما منعهن من الفاحشة وهي الفعل القبيح منعهن من مقدماتها وهي المحادثة مع الرجال والانقياد في الكلام للفاسق ثم قوله تعالى فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فسق وقوله تعالى وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً أي ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام والله تعالى لما قال فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ذكر بعده وَقُلْنَ إشارة إلى أن ذلك ليس أمراً بالإيذاء والمنكر بل القول المعروف وعند الحاجة هو المأمور به لا غيره
وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ الاٍّ ولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَواة َ وَءَاتِينَ الزَّكَواة َ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً

قوله تعالى وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ من القرار وإسقاط أحد حرفي التضعيف كما قال تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ وقيل بأنه من الوقار كما يقال وعد يعد عد وقول وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ الاْولَى قيل معناه لا تتكسرن ولا تتغنجن ويحتمل أن يكون المراد لا تظهرن زينتكن وقوله تعالى الْجَاهِلِيَّة ِ الاْولَى فيه وجهان أحدهما أن المراد من كان في زمن نوح والجاهلية الأخرى من كان بعده وثانيهما أن هذه ليست أولى تقتضي أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة كقول القائل أين الأكاسرة الجبابرة الأولى
ثم قال تعالى وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ يعني ليس التكليف في النهي فقط حتى يحصل بقوله تعالى لا تَخْضَعْنَ وَلاَ تَبَرَّجْنَ بل فيه وفي الأوامر إِلَى الصَّلَواة ِ التي هي ترك التشبه بالجبار المتكبر وَقَرْنَ فِى التي هي تشبه بالكريم الرحيم وَأَطِعْنَ اللَّهَ أي ليس التكليف منحصراً في المذكور بل كل ما أمر الله به فأتين به وكل ما نهى الله عنه فانتهين عنه
ثم قال تعالى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً
يعني ليس المنتفع بتكليفكن هو الله ولا تنفعن الله فيما تأتين به وإنما نفعه لكن وأمره تعالى إياكن لمصلحتكن وقوله تعالى لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ فيه لطيفة وهي أن الرجس قد يزول عيناً ولا يطهر المحل فقوله تعالى لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أي يزيل عنكم الذنوب ويطهركم أي يلبسكم خلع الكرامة ثم إن الله تعالى ترك خطاب المؤنثات وخاطب بخطاب المذكرين بقوله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم واختلفت الأقوال في أهل البيت والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي عليه السلام وملازمته للنبي

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً
ثم قال تعالى وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ أي القرآن وَالْحِكْمَة ِ أي كلمات النبي عليه السلام إشارة إلى ما ذكرنا من أن التكاليف غير منحصرة في الصلاة والزكاة وما ذكر الله في هذه الآية فقال وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى ليعلمن الواجبات كلها فيأتين بها والمحرمات بأسرها فينتهين عنها
( وقوله ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً إشارة إلى أنه خبير بالبواطن لطيف فعلمه يصل إلى كل شيء ومنه اللطيف الذي يدخل في المسام الضيقة ويخرج من المسالك المسدودة
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً
ثم قال تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لما أمرهن ونهاهن وبين ما يكون لهن وذكر لهن عشر مراتب الأولى الإسلام والانقياد لأمر الله والثانية الإيمان بما يرد به أمر الله فإن المكلف أولاً يقول كل ما يقوله أقبله فهذا إسلام فإذا قال الله شيئاً وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده فهو إيمان ثم اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة المذكورة بقوله وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ثم إذا آمن وعمل صالحاً كمل فيكمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ثم إن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال تعالى وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ثم إنه إذا كمل وكمل قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ أو نقول لما ذكر هذه الحسنات أشار إلى ما يمنع منها وهو إما حب الجاه أو حب المال من الأمور الخارجية أو الشهوة من الأمور الداخلة والغضب منهما يكون لأنه يكون بسبب نقص جاه أو فوت مال أو منع من أمر مشتى فقوله وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ أي المتواضعين الذين لا يميلهم الجاه عن العبادة ثم قال تعالى وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ أي الباذلين الأموال الذين لا يكنزونها لشدة محبتهم إياها ثم قال تعالى والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ إشارة إلى الذين لا تمنعهم الشهوة البطنية من عبادة الله ثم قال تعالى وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ أي الذين لا تمنعهم الشهوة الفرجية
ثم قال تعالى وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ يعني هم في جميع هذه الأحوال يذكرون الله ويكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصبرهم وخشوعهم وصدقتهم وصومهم بنية صادقة لله واعلم أن الله تعالى في أكثر المواضع حيث ذكر الذكر قرنه بالكثرة ههنا وفي قوله بعد هذا عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ( الأحزاب 41 ) وقال من قبل لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ( الأحزاب 21 ) لأن الإكثار من الأفعال البدنية غير ممكن أو عسر فإن الإنسان أكله وشربه وتحصيل مأكوله ومسروبه يمنعه من أن يشتغل دائماً بالصلاة ولكن لا مانع له من أن يذكر الله تعالى وهو آكل ويذكره وهو شارب أو ماش أو بائع أو شار وإلى هذا أشار بقوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( آل عمران 191 ) ولأن جميع الأعمال بذكر الله تعالى وهي النية
ثم قال تعالى أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَة ً تمحو ذنوبهم وقوله وَأَجْراً عَظِيماً ذكرناه فيما تقدم
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَة ٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً
قيل بأن الآية نزلت في زينب حيث أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تزويجها من زيد بن حارثة فكرهت إلا النبي عليه

السلام وكذلك أخوها امتنع فنزلت الآية فرضيا به والوجه أن يقال إن الله تعالى لما أمر نبيه بأن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يريد ضرر الغير فمن كان ميله إلى شيء يمكنه النبي عليه السلام من ذلك ويترك النبي عليه السلام حق نفسه لحظ غيره فقال في هذه الآية لا ينبغي أن يظن ظان أن هوى نفسه متبعه وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في الزوجات بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله فما أمر الله هو المتبع وما أراد النبي هو الحق ومن خالفهما في شيء فقد ضل ضلالاً مبيناً لأن الله هو المقصد والنبي هو الهادي الموصل فمن ترك المقصد ولم يسمع قول الهادي فهو ضال قطعاً
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَى ْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً
وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالتحرير والإعتاق أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ همَّ زيد بطلاق زينب فقال له النبي أمسك أي لا تطلقها وَاتَّقِ اللَّهَ قيل في الطلاق وقيل في الشكوى من زينب فإن زيداً قال فيها إنها تتكبر علي بسبب النسب وعدم الكفاءة وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ من أنك تريد التزوج بزينب بِرَبّ النَّاسِ من أن يقولوا أخذ زوجة الغير أو الإبن وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ليس إشارة إلى أن النبي خشي الناس ولم يخش الله بل المعنى الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخش أحداً معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً فاجعل الخشية له وحده كما قال تعالى الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ( الأحزاب )
ثم قال تعالى فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا أي لما طلقها زيد وانقضت عدتها وذلك لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن وكذلك إذا كان في العده له بها تعلق لإمكان شغل الرحم فلم يقض منها بعد وطره وأما إذا طلق وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فيقضي منها الوطر وهذا موافق لما في الشرع لأن التزوج بزوجة الغير أو بمعتدته لا يجوز فلهذا قال فَلَمَّا قَضَى وكذلك قوله لِكَى ْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً

أي إذا طلقوهن وانقضت عدتهن وفيه إشارة إلى أن التزويج من النبي عليه السلام لم يكن لقضاء شهوة النبي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً أي مقضياً ما قضاه كائن
ثم بين أن تزوجه عليه السلام بها مع أنه كان مبيناً لشرع مشتمل على فائدة كان خالياً من المفاسد فقال
مَّا كَانَ عَلَى النَّبِى ِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّة َ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً
مَّا كَانَ عَلَى النَّبِى ّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّة َ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ يعني كان شرع من تقدمه كذلك كان يتزوج الأنبياء بنسوة كثيرة أبكار ومطلقات الغير وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً أي كل شيء بقضاء وقدر والقدر التقدير وبين المفعول والمقدور فرق مقول بين القضاء والقدر فالقضاء ما كان مقصوداً في الأصل والقدر ما يكون تابعاً له مثاله من كان يقصد مدينة فنزل بطريق تلك المدينة بخان أو قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول لم جثت إلى هذه القرية إني ما جئت إلى هذه وإنما قصدت المدينة الفلانية وهذه وقعت في طريقي وإن كان قد جاءها ودخلها وإذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر فالله تعالى خلق المكلف بحيث يشتهي ويغضب ليكون اجتهاده في تغليب العقل والدين عليهما مثاباً عليه بأبلغ وجه فأفضى ذلك في البعض إلى أن زنى وقتل فالله لم يخلقهما فيه مقصوداً منه القتل والزنا وإن كان ذلك بقدر الله إذا علمت هذا ففي قوله تعالى أولا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً وقوله ثانياً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً لطيفة وهي أنه تعالى لما قال زَوَّجْنَاكَهَا قال وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً أي تزويجنا زينب إياك كان مقصوداً متبوعاً مقضياً مراعى ولما قال سُنَّة َ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ إشارة إلى قصة داود عليه السلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً أي كان ذلك حكماً تبعياً فلو قال قائل هذا قول المعتزلة بالتوليد والفلاسفة بوجوب كون الأشياء على وجوه مثل كون النار تحرق حيث قالوا الله تعالى أراد أن يخلق ما ينضج الأشياء وهو لا يكون إلا محرقاً بالطبع فخلق النار للنفع فوقع اتفاق أسباب أوجبت احتراق دار زيد أو دار عمرو فنقول معاذ الله أن نقول بأن الله غير مختار في أفعاله أو يقع شيء لا باختياره ولكن أهل السنة يقولون أجرى الله عادته بكذا أي وله أن يخلق النار بحيث عند حاجة إنضاج اللحم تنضج وعند مساس ثوب العجوز لا تحرق ألا ترى أنها لم تحرق إبراهيم عليه السلام مع قوتها وكثرتها لكن خلقها على غير ذلك الوجه بمحض إرادته أو لحكمة خفية ولا يسأل عما يفعل فنقول ما كان في مجرى عادته تعالى على وجه تدركه العقول البشرية نقول بقضاء وما يكون على وجه يقع لعقل قاصر أن يقول لم كان ولماذا لم يكن على خلافه نقول بقدر ثم بين الذين خلوا بقوله
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً
يعني كانوا هم أيضاً مثلك رسلا ثم ذكره بحالهم أنهم جردوا الخشية ووحدوها بقوله وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ فصار كقوله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وقوله وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً أي محاسباً فلا تخش غيره أو محسوباً فلا تلتفت إلى غيره ولا تجعله في حسابك

مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً
لما بين الله ما في تزوج النبي عليه السلام بزينب من الفوائد بين أنه كان خالياً من وجوه المفاسد وذلك لأن ما كان يتوهم من المفسدة كان منحصراً في التزوج بزوجة الابن فإنه غير جائز فقال الله تعالى إن زيداً لم يكن ابناً له لا بل أحد الرجال لم يكن ابن محمد فإن قائل النبي كان أبا أحد من الرجال لأن الرجل اسم الذكر من أولاد آدم قال تعالى وَإِن كَانُواْ إِخْوَة ً رّجَالاً وَنِسَاء ( النساء 176 ) والصبي داخل فيه فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الرجل في الاستعمال يدخل في مفهومه الكبر والبلوغ ولم يكن للنبي عليه السلام ابن كبير يقال إنه رجل والثاني هو أنه تعالى قال مّن رّجَالِكُمْ ووقت الخطاب لم يكن له ولد ذكر ثم إنه تعالى لما نفى كونه أباً عقبه بما يدل على ثبوت ما هو في حكم الأبوة من بعض الوجوه فقال وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه وفي التعظيم من طرفهم بل أقوى فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم والأب ليس كذلك ثم بين ما يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم بقوله وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ وذلك لأن النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئاً من النصيحة والبيان يستدركه من يأتي بعده وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم وأجدى إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد وقوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً يعني علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بتزوجه بزوجة دعيه تكميلاً للشرع وذلك من حيث إن قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حل أكل الضب ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء ولما أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن السورة أصلها ومبناها على تأديب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد ذكرنا أن الله تعالى بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع الله وهو التقوى وذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع أهله وأقاربه بقوله قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ ( الأحزاب 28 ) والله تعالى يأمر عباده المؤمنين بما يأمر به أنبياءه المرسلين فأرشد عباده كما أدب نبيه وبدأ بما يتعلق بجانبه من التعظيم فقال عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً كما قال لنبيه مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 )
ثم ههنا لطيفة وهي أن المؤمن قد ينسى ذكر الله فأمر بدوام الذكر أما النبي لكونه من المقربين لا ينسى ولكن قد يغتر المقرب من الملك بقربه منه فيقل خوفه فقال اتَّقِ اللَّهَ فإن المخلص على خطر عظيم وحسنة الأولياء سيئة الأنبياء وقوله ذِكْراً كَثِيراً قد ذكرنا أن الله في كثير من المواضع لما ذكر وصفه بالكثرة إذ لا مانع من الذكر على ما بينا

وَسَبِّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً
أي إذا ذكرتموه فينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء وهو المراد بالتسبيح وقيل المراد منه الصلاة وقيل للصلاة تسبيحه بكرة وأصيلاً إشارة إلى المداومة وذلك لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله عليه السلام ( لو أن أولكم وآخركم ) ولم يذكر وسطكم ففهم منه المبالغة في العموم
هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
يعني هو يصلي عليكم ويرحمكم وأنتم لا تذكرونه فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ يعني يهديكم برحمته والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار فقيل بأن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز وينسب هذا القول إلى الشافعي رضي الله عنه وهو غير بعيد فإن أريد تقريبه بحيث يصير في غاية القرب نقول الرحمة والاستغفار يشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة تضمنية لكون العناية جزأ منهما كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله يُصَلّى عَلَيْكُمْ غير مختص بالسامعين وقت الوحي
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً
ثم قال تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ لما بين الله عنايته في الأولى بين عنايته في الآخرة وذكر السلام لأنه هو الدليل على الخيرات فإن من لقي غيره وسلم عليه دل على المصافاة بينهما وإن لم يسلم دل على المنافاة وقوله يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يوم القيامة وذلك لأن الإنسان في دنياه غير مقبل بكليته على الله وكيف وهو حالة نومه غافل عنه وفي أكثر أوقاته مشغول بتحصيل رزقه وأما في الآخرة فلا شغل لأحد يلهيه عن ذكر الله فهو حقيقة اللقاء
ثم قال تعالى وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً لو قائل قائل الإعداد إنما يكون ممن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه وأما الله تعالى فلا حاجة ولا عجز فحيث يلقاه الله يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الاعداد من قبل فنقول الإعداد للإكرام لا للحاجة وهذا كما أن الملك إذا قيل له فلان واصل فإذا أراد إكرامه يهيىء له بيتاً وأنواعاً من الإكرام ولا يقول بأنه إذا وصل نفتح باب الخزانة ونؤتيه ما يرضيه فكذلك الله لكمال الإكرام أعد للذاكر أجراً كريماً والكريم قد ذكرناه في الرزق أي أعد له أجراً يأتيه من غير طلبه بخلاف الدنيا فإنه يطلب الرزق ألف مرة ولا يأتيه إلا بقدر وقوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ مناسب لحالهم لأنهم لما ذكروا الله في دنياهم حصل لهم معرفة ولما سبحوه تأكدت المعرفة حيث عرفوه كما ينبغي بصفات الجلال ونعوت الكمال والله يعلم حالهم في الدنيا فأحسن إليهم بالرحمة كما قال تعالى هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وقال وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً

( الأحزاب 43 ) والمتعارفان إذا التقيا وكان أحدهما شفيقاً بالآخر والآخر معظماً له غاية التعظيم لا يتحقق بينهما إلا السلام وأنواع الإكرام
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً
قد ذكرنا أن السورة فيها تأديب للنبي عليه السلام من ربه فقوله في ابتدائها مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ اشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع ربه وقوله قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وقوله كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق وقوله تعالى شَاهِداً يحتمل وجوهاً أحدهما أنه شاهد على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقر 143 ) وعلى هذا فالنبي بعث شاهداً أي متحملاً للشهادة ويكون في الآخرة شهيداً أي مؤدياً لما تحمله ثانيها أنه شاهد أن لا إله إلا الله وعلى هذا لطيفة وهو أن الله جعل النبي شاهداً على الوحدانية والشاهد لا يكون مدعياً فالله تعالى لم يجعل النبي في مسئلة الوحدانية مدعياً لها لأن المدعى من يقول شيئاً على خلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس والنبي عليه السلام كان ادعى النبوة فجعل الله نفسه شاهداً له في مجازاة كونه شاهداً لله فقال تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ( المنافقون 1 ) وثالثها أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا بالطاعة والمعصية والصلاح والفساد وقوله وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً فيه ترتيب حسن وذلك من حيث إن النبي عليه السلام أرسل شاهداً بقوله لا إله إلا الله ويرغب في ذلك بالبشارة فإن لم يكف ذلك يرهب بالإندار ثم لا يكتفي بقولهم لا إله إلا الله بل يدعوهم إلى سبيل الله كما قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 ) وقوله وَسِرَاجاً مُّنِيراً أي مبرهناً على ما يقول مظهراً له بأوضح الحجج وهو المراد بقوله تعالى بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 )
وفيه لطائف إحداها قوله تعالى وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ حيث لم يقل وشاهداً باذنه ومبشراً وعند الدعاء قال وداعياً باذنه وذلك لأن من يقول عن ملك إنه ملك الدنيا لا غيره لا يحتاج فيه إلى إذن منه فإنه وصفه بما فيه وكذلك إذا قال من يطيعه يسعد ومن يعصه يشقى يكون مبشراً ونذيراً ولا يحتاج إلى إذن من الملك في ذلك وأما إذا قال تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه يحتاج فيه إلى إذنه فقال تعالى وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ووجه آخر وهو أن النبي يقول إني أدعو إلى الله والولي يدعو إلى الله والأول لا إذن له فيه من أحد والثاني مأذون من جهة النبي عليه السلام كما قال تعالى قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ( يوسف 108 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( رحم الله عبداً سمع مقالتي فأداها كما سمعها ) والنبي عليه السلام هو المأذون من الله في الدعاء إليه من غير واسطة
اللطيفة الثانية قال في حق النبي عليه السلام سراجاً ولم يقل إنه شمس مع أنه أشد إضاءة من السراج لفوائد منها أن الشمس نورها لا يؤخذ منه شيء والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة فإذا انطفأ الأول يبقى الذي أخذ منه وكذلك إن غاب والنبي عليه السلام كان كذلك إذ كل صحابي أخذ منه نور الهداية كما قال عليه السلام ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) وفي الخبر لطيفة وإن كانت ليست من التفسير ولكن الكلام يجر الكلام وهي أن النبي عليه السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه نور بل له في نفسه نور إذا غرب هو لا يبقى نور مستفاد منه وكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنو النبي

عليه السلام ولا يأخذ منه إلا قول النبي عليه السلام وفعله فأنوار المجتهدين كلهم من النبي عليه السلام ولم جعلهم كالسرج والنبي عليه السلام أيضاً سراج كان للمجتهد أن يستنير بمن أراد منهم ويأخذ النور ممن اختار وليس كذلك فإن مع نص النبي عليه السلام لا يعمل بقول الصحابي فيؤخذ من النبي النور ولا يؤخذ من الصحابي فلم يجعله سراجاً وهذا يوجب ضعفاً في حديث سراج الأمة والمحدثون ذكروه وفي تفسير السراج وجه آخر وهو أن المراد منه القرآن وتقديره إنا أرسلناك وسراجاً منيراً عطفاً على محل الكاف أي وأرسلنا سراجاً منيراً وعلى قولنا إنه عطف على مبشراً ونذيراً يكون معناه وذا سراج لأن الحال لا يكون إلا وصفاً للفاعل أو المفعول والسراج ليس وصفاً لأن النبي عليه السلام لم يكن سراجاً حقيقة أو يكون كقول القائل رأيته أسداً أي شجاعاً فقوله سراجاً أي هادياً مبيناً كالسراج يرى الطريق ويبين الأمر
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً
وقوله تعالى وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على مفهوم تقديره إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً فاشهد وبشر ولم يذكر فاشهد للاستغناء عنه وأما البشارة فإنها ذكرت إبانة للكرم ولأنها غير واجبة لولا الأمر وقوله تعالى بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً هو مثل قوله وَأَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً ( الأحزاب 35 ) فالعظيم والكبير متقاربان وكونه من الله كبير فكيف إذا كان مع ذلك كبارة أخرى
وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
إشارة إلى الإنذار يعني خالفهم وورد عليهم وعلى هذا فقوله تعالى وَدَعْ أَذَاهُمْ أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار ويبين هذا قوله تعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أي الله كاف عبده قال بعض المعتزلة لا يجوز تسمية الله بالوكيل لأن الوكيل أدون من الموكل وقوله تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً حجة عليه وشبهته واهية من حيث إن الوكيل قد يوكل للترفع وقد يوكل للعجز والله وكيل عباده لعجزهم عن التصرف وقوله تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً يتبين إذا نظرت في الأمور التي لأجلها لا يكفى الوكيل الواحد منها أن لا يكون قوياً قادراً على العمل كالملك الكثير الأشغال يحتاج إلى وكلاء لعجز الواحد عن القيام بحميع أشغاله ومنها أن لا يكون عالماً بما فيه التوكيل ومنها أن لا يكون غنياً والله تعالى عالم قادر وغير محتاج فكيفي وكيلاً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة ٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى في هذه السورة ذكر مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما

ذكرناه لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل فكلما ذكر للنبي مكرمة وعلمه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه فكما بدأ الله في تأديب النبي عليه الصلاة والسلام بذكر ما يتعلق بجانب الله بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) وثنى بما يتعلق بجانب من تحت يده من أزواجه بقوله بعد قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ ( الأحزاب 28 ) وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ( الأحزاب 45 ) كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ( الأحزاب 41 ) ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله وَكِيلاً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثم كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم فقال بعد هذا رَّقِيباً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ ( الأحزاب 53 ) وبقوله النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( الأحزاب 56 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إذا كان الأمر على ما ذكرت من أن هذا إرشاد إلى ما يتعلق بجانب من هو من خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بالذكر فنقول هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها وبيانه هو أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد ولهذا قال الله تعالى في حق الممسوسة وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً ( النساء 21 ) وإذا أمر الله بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما والقرآن في الحجم صغير ولكن لو استنبطت معانيه لا تفى بها الأقلام ولا تكفي لها الأوراق وهذا مثل قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ( الإسراء 23 ) لو قال لا تضربهما أو لا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم أما إذا قال لا تقل لهما أف علم منه معان كثيرة وكذلك ههنا لما أمر بالإحسان مع من لا مودة معها علم منه الإحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعد ومن ولدت عنده منه
وقوله إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ التخصيص بالذكر إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة فإنها أشد تحصيناً لدينه وقوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ يمكن التمسك به في أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن التطليق حينئذ لا يكون إلا بعد النكاح والله تعالى ذكره بكلمة ثم وهي للتراخي وقوله فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة ٍ بين أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيه من حق الله تعالى وقوله تَعْتَدُّونَهَا أي تستوفون أنتم عددها فَمَتّعُوهُنَّ قيل بأنه مختص بالمفوضة التي لم يسم لها إذا طلقت قبل المسيس وجب لها المتعة وقيل بأنه عام وعلى هذا فهو أمر وجوب أو أمر ندب اختلف العلماء فيه فمنهم من قال للوجوب فيجب مع نصف المهر المتعة أيضاً ومنهم من قال للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء وقوله تعالى وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً الجمال في التسريح أن لا يطالبها بما آتاها

ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَة ً مُّؤْمِنَة ً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى ِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِى ُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَة ً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
ذكر للنبي عليه السلام ما هو الأولى فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنها لا يدري كيف حالها ومن هاجرت من أقارب النبي عليه السلام معه أشرف ممن لم تهاجر ومن الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولاً وذلك لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها والنبي عليه السلام ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان كان حلالا لنا وكيف والنبي عليه السلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع عن المطلوب والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما يكون هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي عليه السلام من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهذا محال ولا كذلك أحدنا وقال ويؤكد هذا قوله تعالى وَامْرَأَة ً مُّؤْمِنَة ً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى ّ يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها وقوله تعالى إِنْ أَرَادَ النَّبِى ُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا إشارة إلى أن هبتها نفسها لا بد معها من قبول وقوله تعالى خَالِصَة ً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال الشافعي رضي الله عنه معناه إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك وقال أبو حنيفة تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة ومن أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبداً والترجيح يمكن أن يقال بأن على هذا فالتخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له وعلى ما ذكرنا يتبين للتخصيص فائدة وقوله قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْواجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ معناه أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك وأما حكم أمتك فعندنا علمه ونبينه لهم وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام فإن له في النكاح خصائص ليست لغيره وكذلك في السراري وقوله تعالى لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي تكون في فسحة من الأمر فلا يبقى لك شغل قلب فينزل الروح الأمين بالآيات على قلبك الفارغ وتبلغ رسالات ربك بجدك واجتهادك وقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ تَوَّاباً رَّحِيماً يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد

تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
ثم قال تعالى تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ
لما بين أنه أحل له ما ذكرنا من الأزواج بين أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن حتى يجتمع كيف يشاء ولا يجب عليه القسم وذلك لأن النبي عليه السلام بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها رق فكيف زوجات النبي عليه السلام بالنسبة إليه فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات والإرجاء التأخير والإيواء الضم وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ يعني إذا طلبت من كنت تركتها فلا جناح عليك في شيء من ذلك ومن قال بأن القسم كان واجباً مع أنه ضعيف بالنسبة إلى المفهوم من الآية قال المراد تُرْجِى مَن تَشَاء أي تؤخرهن إذا شئت إذ لا يجب القسم في الأول وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن وإن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى
ثم قال تعالى ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ
يعني إذا لم يجب عليك القسم وأنت لا تترك القسم تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ لتسويتك بينهن ولا يحزن بخلاف ما لو وجب عليك ذلك فليلة تكون عند إحداهن تقول ما جاءني لهوى قلبه إنما جاءني لأمر الله وإيجابه عليه وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ من الإرجاء والإيواء إذ ليس لهن عليك شيء حتى لا يرضين
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل
لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ رَّقِيباً
لما لم يوجب الله على نبيه القسم وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله ذكر لهن ما جازاهن به من تحريم غيرهن على النبي عليه السلام ومنعه من طلاقهن بقوله وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله لاَّ يَحِلُّ لَكَ النّسَاء مِن بَعْدُ قال المفسرون من بعدهن والأولى أن يقال لا يحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما يؤتيهن من الوصل والهجران والنقص والحرمان
المسألة الثانية قوله وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ يفيد حرمة طلاقهن إذ لو كان جائزاً لجاز أن يطلق الكل وبعدهن إما أن يتزوج بغيرهن أولا يتزوج فإن لم يتزوج يدخل في زمرة العزاب والنكاح فضيلة لا يتركها النبي وكيف وهو يقول ( النكاح سنتي ) وإن تزوج بغيرهن يكون قد تبدل بهن وهو ممنوع من التبدل

المسألة الثالثة من المفسرين من قال بأن الآية ليس فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهن بل المعنى أن لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات من بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن وقوله وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ منع من شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة فينزل أحدهم عن زوجته وبأخذ زوجة صديقه ويعطيه زوجته وعلى التفسيرين وقع خلاف في مسألتين إحداهما حرمة طلاق زوجاته والثانية حرمة تزوجه بالكتابيات فمن فسر على الأول حرم الطلاق ومن فسر على الثاني حرم التزوج بالكتابيات
المسألة الرابعة قوله وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أي حسن النساء قال الزمخشري قوله وَلَوْ أَعْجَبَكَ في معنى الحال ولا يجوز أن يكون ذو الحال قوله مِنْ أَزْوَاجٍ لغاية التنكير فيه ولكون ذي الحال لا يحسن أن يكون نكرة فإذن هو النبي عليه السلام يعني لا يحل لك النساء ولا أن تبدل بهن من أزواج وأنت معجب بحسنهن
المسألة الخامسة ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها وهذه المسألة حكمية وهي أن النبي عليه السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة تشتد عليهم برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه وتوسيعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله ثم لما استأنس بالوحي وبمن على لسانه الوحي نسخ ذلك إما لقوته عليه السلام للجمع بين الأمرين وإما أنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوف من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إحلال التزوج بمن وقع بصره عليها
المسألة السادسة اختلف العلماء في أن تحريم النساء عليه هل نسخ أم لا فقال الشافعي نسخ وقد قالت عائشة ما مات النبي إلا وأحل له النساء وعلى هذا فالناسخ قوله تعالى جَمِيلاً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ ( الأحزاب 50 ) إلى أن قال وَبَنَاتِ عَمّكَ وقال وَامْرَأَة ً مُّؤْمِنَة ً على قول من يقول لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد إذ الناسخ غير متواتر إن كان خبراً
ثم قال تعالى إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ لم يحرم عليه المملوكات لأن الإيذاء لا يحصل بالمملوكة ولهذا لم يجز للرجل أن يجمع بين ضرتين في بيت لحصول التسوية بينهما وإمكان المخاصمة ويجوز أن يجمع الزوجة وجمعاً من المملوكات لعدم التساوي بينهن ولهذا لا قسم لهن على أحد
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء رَّقِيباً أي حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه لأن الحفظ لا يحصل إلا بهما
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِى ِّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْى ِ مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً

ثم قال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ
لما ذكر الله تعالى في النداء الثالث كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ( الأحزاب 45 ) بياناً لحاله مع أمته العامة قال للمؤمنين في هذا النداء لا تدخلوا إرشاداً لهم وبياناً لحالهم مع النبي عليه السلام من الاحترام ثم إن حال الأمة مع النبي على وجهين أحدهما في حال الخلوة والواجب هناك عدم إزعاجه وبين ذلك بقوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ وثانيهما في الملأ والواجب هناك إظهار التعظيم كما قال تعالى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) وقوله إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ أي لا تدخلوا بيوت النبي إلى طعام إلا أن يؤذن لكم
ثم قال تعالى وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِى ّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ
لما بين من حال النبي أنه داع إلى الله بقوله وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ قال ههنا لا تدخلوا إلا إذا دعيتم يعني كما أنكم ما دخلتم الدين إلا بدعائه فكذلك لا تدخلوا عليه إلا بعد دعائه وقوله غَيْرَ نَاظِرِينَ منصوب على الحال والعامل فيه على ما قاله الزمخشري لا تدخلوا قال وتقديره ولا تدخلوا بيوت النبي إلا مأذونين غير ناظرين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى الطعام فإن لم يؤذن لكم إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز نقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول وأما قوله فلا يجوز إلا بالإذن الذي إلى طعام نقول قال الزمخشري الخطاب مع قوم كانوا يجيئون حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقته بغير إذن والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل وقوله إِلَى طَعَامٍ من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله إلى غير طعامه بإذنه فإن غير الطعام ممكن وجوده مع الطعام فإن من الجائز أن يتكلم معه وقتما يدعوه إلى طعام ويستقضيه في حوائجه ويعلمه مما عنده من العلوم مع زيادة الإطعام فإذا رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى الفعل فيصير من باب وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ( الإسراء 23 ) وقوله غَيْرَ نَاظِرِينَ يعني أنتم لا تنتظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يتهيأ

المسألة الثانية قوله تعالى وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فيه لطيفة وهي أن العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير إذن لا تدخلها إلا بإذن يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً لا بالدعاء ولا بالدعاء فقال لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون بل كونوا طائعين سامعين إذا قيل لكم لا تدخلوا لا تدخلوا وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا وإناه قيل وقته وقيل استواؤه وقوله إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ يفيد الجواز وقوله وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ يفيد الوجود فقوله وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ ليس تأكيداً بل هو يفيد فائدة جديدة
المسألة الثالثة لا يشترط في الإذن التصريح به بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ من غير بيان فاعل فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل جاز والنقل دال عليه حيث قال تعالى أَوْ صَدِيقِكُمْ وحد الصداقة لما ذكرنا فلو جاء أبو بكر وعلم أن لا مانع في بيت عائشة من بيوت النبي عليه السلام من تكشف أو حضور غير محرم عندها أو علم خلو الدار من الأهل أو هي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك جاز الدخول
المسألة الرابعة قوله فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ كأن بعض الصحابة أطال المكث يوم وليمة النبي عليه السلام في عرس زينب والنبي عليه السلام لم يقل له شيئاً فوردت الآية جامعة لآداب منها المنع من إطالة المكث في بيوت الناس وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته أو اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده وقوله وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ قال الزمخشري هو عطف على غَيْرَ نَاظِرِينَ مجرور ويحتمل أن يكون منصوباً عطفاً على المعنى فإن معنى قوله تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ لا تدخلوها هاجمين فعطف عليه وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ ثم إن الله تعالى بين كون ذلك أدباً وكون النبي حليماً بقوله يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى إشارة إلى أن ذلك حق وأدب وقوله كان إشارة إلى تحمل النبي عليه السلام ثم ذكر الله أدباً آخر وهو قوله يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي عليه السلام وكان في ذلك تعذر الوصول إلى الماعون بين أن ذلك غير ممنوع منه فليسأل وليطلب من وراء حجاب وقوله ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يعني العين روزنة القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب أما إن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر ثم إن الله تعالى لما علم المؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على محافظته فقال وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وكل ما منعتم عنه مؤذ فامتنعوا عنه وقوله تعالى وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً قيل سبب نزوله أن بعض الناس قيل هو طلحة بن عبيد الله قال لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة وقد ذكرنا أن اللفظ العام لا يغير معناه سبب النزول فإن المراد أن إيذاء الرسول حرام والتعرض لنسائه في حياته إيذاء فلا يجوز ثم قال لا بل ذلك غير جائز مطلقاً ثم أكد بقوله إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً أي إيذاء الرسول
إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً

يعني إن كنتم لا تؤذونه في الحال وتعزمون على إيذائه أو نكاح أزواجه بعده فالله عليم بذات الصدور
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيداً
ثم إن الله تعالى لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء أَخَواتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الحجاب أوجب السؤال من وراء الحجاب على الرجال فلم لم يستثن الرجال عن الجناح ولم يقل لا جناح على آبائهن فنقول قوله تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ ( الأحزاب 53 ) أمر بسدل الستر عليهن وذلك لا يكون إلا بكونهن مستورات محجوبات وكان الحجاب وجب عليهن ثم أمر الرجال بتركهن كذلك ونهوا عن هتك أستارهن فاستثنين عند الآباء والأبناء وفيه لطيفة وهي أن عند الحجاب أمر الله الرجل بالسؤال من وراء حجاب ويفهم منه كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى وعند الاستثناء قال تعالى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ عند رفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك
المسألة الثانية قدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهن أكثر وكيف وهم قد رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله تعالى على بني الأخوات لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم وبني الأخوة آباؤهم محارم أيضاً ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنو الإخوة
المسألة الثالثة لم يذكر الله من المحارم الأعمام والأخوال فلم يقل ولا أعمامهن ولا أخوالهن لوجهين أحدهما أن ذلك علم من بني الإخوة وبني الأخوات لأن من علم أن بني الأخ للعمات محارم علم أن بنات الأخ للأعمام محارم وكذلك الحال في أمر الخال ثانيهما أن الأعمام ربما يذكرون بنات الأخ عند أبنائهم وهم غير محارم وكذلك الحال في ابن الخال
المسألة الرابعة وَلاَ نِسَائِهِنَّ مضافة إلى المؤمنات حتى لا يجوز التكشف للكافرات في وجه
المسألة الخامسة وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ هذا بعد الكل فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة ومن الأئمة من قال المراد من كان دون البلوغ

ثم قوله تعالى وَاتَّقِينَ اللَّهَ عند المماليك دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور وقوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيداً في غاية الحسن في هذا الموضع وذلك لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله تعالى فاتقوا
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراماً كمل بيان حرمته وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين حالة خلواته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ وحالة يكون في ملأ والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى ما في الملأ الأعلى فهو محترم فإن الله وملائكته يصلون عليه وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الصلاة الدعاء يقال في اللغة صلى عليه أي دعا له وهذا المعنى غير معقول في حق الله تعالى فإنه لا يدعو له لأن الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث فقال الشافعي رضي الله عنه استعمل اللفظ بمعان وقد تقدم في تفسير قوله هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ ( الأحزاب 43 ) والذي نزيده ههنا هو أن الله تعالى قال هناك هُوَ الَّذِينَ يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ جعل الصلاة لله وعطف الملائكة على الله وههنا جمع نفسه وملائكته وأسند الصلاة إليهم فقال يَصِلُونَ وفيه تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام وهذا لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلاً للمذكور على المعطوف كما أن الملك إذا قال يدخل فلان وفلان أيضاً يفهم منه تقديم لا يفهم لو قال فلان وفلان يدخلان إذا علمت هذا فقال في حق النبي عليه السلام إنهم يصلون إشارة إلى أنه في الصلاة على النبي عليه السلام كالأصل وفي الصلاة على المؤمنين الله يرحمهم ثم إن الملائكة يوافقونه فهم في الصلاة على النبي عليه السلام يصلون بالإضافة كأنها واجبة عليهم أو مندوبة سواء صلى الله عليه أو لم يصل وفي المؤمنين ليس كذلك
المسألة الثانية هذا دليل على مذهب الشافعي لأن الأمر للوجوب فتجب الصلاة على النبي عليه السلام ولا تجب في غير التشهد فتجب في التشهد
المسألة الثالثة سئل النبي عليه السلام كيف نصلي عليك يا رسول الله فقال ( قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد )
المسألة الرابعة إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا نقول الصلاة عليه ليس لحاجته إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه وإنما هو لإظهار تعظيمه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه وإنما هو لإظهار تعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ولهذا قال عليه السلام ( من صلى علي مرة صلي الله عليه عشراً )
المسألة الخامسة لم يترك الله النبي عليه السلام تحت منة أمته بالصلاة حتى عوضهم منه بأمره بالصلاة على الأمة حيث قال وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ( التوبة 103 ) وقوله وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً أمر فيجب ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا السلام عليك أيها النبي في التشهد وهو حجة على من

قال بعدم وجوبه وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً
فصل الأشياء بتبيين بعض أضدادها فبين حال مؤذي النبي ليبين فضيلة المسلم عليه واللعن أشد المحذورات لأن البعد من الله لا يرجى معه خير بخلاف التعذيب بالنار وغيره ألا ترى أن الملك إذا تغير على مملوك إن كان تأذيه غير قوي يزجره ولا يطرده ولو خير المجرم ( بين ) أن يضرب أو يطرد عندما يكون الملك في غاية العظمة والكرم يختار الضرب على الطرد ولا سيما إذا لم يكن في الدنيا ملك غير سيده وقوله فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه لأن المبعد في الدنيا يرجو القربة في الآخرة فإذا أبعد في الآخرة فقد خاب وخسر لأن الله إذا أبعده وطرده فمن الذين يقربه يوم القيامة القيامة ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب بقوله وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر إيذاء الله وإيذاء الرسول وذكر عقيبه أمرين اللعن والتعذيب فاللعن جزاء الله لأن من آذى الملك يبعده عن بابه إذا كان لا يأمر بعذابه والتعذيب جزاء إيذاء الرسول لأن الملك إذا آذى بعض عبيده كبير يستوفي منه قصاصه لا يقال فعلى هذا من يؤذي الله ولا يؤذي الرسول لا يعذب لأنا نقول انفكاك أحدهما على هذا الوجه عن الآخر محال لأن من آذى الله فقد آذى الرسول وأما على الوجه الآخر وهو أن من يؤذي النبي عليه السلام ولا يؤذي الله كمن عصى من غير إشراك كمن فسق أو فجر من غير ارتداد وكفر فقد آذى النبي عليه السلام غير أن الله تعالى صبور غفور رحيم فيجزيه بالعذاب ولا يلعنه بكونه يبعده عن الباب
المسألة الثانية أكد العذاب بكونه مهيناً لأن من تأذى من عبده وأمر بحبسه وضربه فإن أمر بحبسه في موضع مميز أو أمر بضربه رجلاً كبيراً يدل على أن الأمر هين وإن أمر بضربه على ملأ وحبسه بين المفسدين ينبىء عن شدة الأمر فمن آذى الله ورسوله من المخلدين في النار فيعذب عذاباً مهيناً وقوله أَعَدَّ لَهُمْ للتأكيد لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما إذا أعد له قيداً وغلا فإن الأول يمكن أن يقال هذا أثر الغضب فإذا سكت الغضب يزول ولا كذلك الثاني
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
لما كان الله تعالى مصلياً على نبيه لم ينفك إيذاء الله عن إيذانه فإن من آذى الله فقد آذى الرسول فبين الله للمؤمنين أنكم إن أتيتم بما أمرتكم وصليتم على النبي كما صليت عليه لا ينفك إيذاؤكم عن إيذاء

الرسول فيأثم من يؤذيكم لكون إيذائكم إيذاء الرسول كما أن إيذائي إيذاؤه وبالجملة لما حصلت الصلاة من الله والملائكة والرسول والمؤمنين صار لا يكاد ينفك إيذاء أحد منهم عن إيذاء الآخر كما يكون حال الأصدقاء الصادقين في الصداقة وقوله بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ احتراز عن الأمر بالمعروف من غير عنف زائد فإن من جلد مائة على شرب الخمر أو حد أربعين على لعب النرد آذى بغير ما اكتسب أيضاً ومن جلد على الزنا أو حد الشرب لم يؤذ بغير ما اكتسب ويمكن أن يقال لم يؤذ أصلاً لأن ذلك إصلاح حال المضروب وقوله فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً البهتان هو الزور وهو لا يكون إلا في القول والإيذاء قد يكون بغير القول فمن آذى مؤمناً بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل بهتاناً فنقول المراد والذين يؤذون المؤمنين بالقول وهذا لأن الله تعالى أراد إظهار شرف المؤمن فلما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن وإيذاء الله بأن ينكر وجود الله بعد معرفة دلائل وجوده أو يشرك به من لا يبصر ولا يسمع أو من لا يقدر ولا يعلم أو من هو محتاج في وجوده إلى موجد وهو قول ذكر إيذاء المؤمن بالقول وعلى هذا خص الأنبياء بالقول بالذكر لأنه أعم وأتم وذلك لأن الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ ما يحتاج إليه فيؤذيه بالقول ولأن الفقير الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى والوجه الثاني في الجواب هو أن نقول قوله بعد ذلك وَإِثْماً مُّبِيناً مستدرك فكأنه قال احتمل بهتاناً إن كان بالقول وإثماً مبيناً كيفما كان الإيذاء وكيفما كان فإن الله خص الإيذاء القولي بالذكر لما بينا أنه أعم ولأنه أتم لأنه يصل إلى القلب فإن الكلام يخرج من القلب واللسان دليله ويدخل في القلب والآذان سبيله
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاًّزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
لما ذكر أن من يؤذي المؤمنين يحتمل بهتاناً وكان فيه منع المكلف عن إيذاء المؤمن أمر المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم الموجبة للتأذي لئلا يحصل الإيذاء الممنوع منه ولما كان الإيذاء القولي مختصاً بالذكر اختص بالذكر ما هو سبب الإيذاء القولي وهو النساء فإن ذكرهن بالسوء يؤذي الرجال والنساء بخلاف ذكر الرجال فإن من ذكر امرأة بالسوء تأذت وتأذى أقاربها أكثر من تأذيها ومن ذكر رجلاً بالسوء تأذى ولا يتأذى نساؤه وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفات يتبعهن الزناة وتقع التهم فأمر الله الحرائر بالتجلبب
وقوله ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ قيل يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن ويمكن أن يقال المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيعرفن أنهن مستورات

لا يمكن طلب الزنا منهن وقوله وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يغفر لكم ما قد سلف برحمته ويثيبكم على ما تأتون به راحماً عليكم
لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَة ِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً
لما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ذكر حال المسر الذي يظهر الحق ويضمر الباطل وهو المنافق ولما كان المذكور من قبل أقواماً ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة وهم المؤذون الله والمؤذون الرسول والمؤذون المؤمنين ذكر من المسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة أحدها المنافق الذي يؤذي الله سراً والثاني الذي قلبه مرض الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه والثالث المرجف الذي يؤذي النبي عليه السلام بالإرجاف بقوله غلب محمد وسيخرج من المدينة وسيؤخذ وهؤلاء وإن كانوا قوماً واحداً إلا أن لهم ثلاث اعتبارات وهذا في مقابلة قوله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 35 ) حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد فهم واحد بالشخص كثير بالاعتبار وقوله لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنسلطنك عليهم ولنخرجنهم من المدينة ثم لا يجاوزونك وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج ويحتمل أن يكون المراد لنغرينك بهم فإذا أغريناك لا يجاورونك والأول كقول القائل يخرج فلان ويقرأ إشارة إلى أمرين والثاني كقوله يخرج فلان ويدخل السوق ففي الأول يقرأ وإن لم يخرج وفي الثاني لا يدخل إلا إذا خرج والاستثناء فيه لطيفة وهي أن الله تعالى وعد النبي عليه السلام أنه يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده إظهاراً لشوكته ولو كان النفي بإرادة الله من غير واسطة النبي لأخلي المدينة عنهم في ألطف آن ( بقوله ) كن فيكون ولكن لما أراد الله أن يكون على يد النبي لا يقع ذلك إلا بزمان وإن لطف فقال ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً وهو أن يتهيؤا ويتأهبوا للخروج
مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً
أي في ذلك القليل الذي يجاورونك فيه يكونون ملعونين مطرودين من باب الله وبابك وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة ولا يجدون ملجأ بل أينما يكونون يطلبون ويؤخذون ويقتلون
سُنَّة َ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
يعني هذا ليس بدعاً بكم بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ

يَسْألُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَة ِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً
لما بين حالهم في الدنيا أنهم يلعنون ويهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها فقال يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَة ِ أي عن وقت القيامة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ لا يتبين لكم فإن الله أخفاها لحكمة هي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت
ثم قال تعالى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً إشارة إلى التخويف وذلك لأن قول القائل الله يعلم متى يكون الأمر الفلاني ينبىء عن إبطاء الأمر ألا ترى أن من يطالب مديوناً بحقه فإن استمهله شهراً أو شهرين ربما يصبر ذلك وإن قال له اصبر إلى أن يقدم فلان من سفره يقول الله يعلم متى يجىء فلان ويمكن أن يكون مجىء فلان قبل انقضاء تلك المدة فقال ههنا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً يعني هي في علم الله فلا تستبطئوها فربما تقع عن قريب والقريب فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث قال تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( الأعراف 56 ) ولهذا لم يقل لعل الساعة تكون قريبة
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً يعني كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك ملعونون عند الله وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً كما قال تعالى لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ( الأحزاب 57 ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ( المائدة 119 ) مطيلين المكث فيها مستمرين لا أمد لخروجهم
وقوله لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً لما ذكر خلودهم بين تحقيقه وذلك لأن المعذب لا يخلصه من العذاب إلا صديق يشفع له أو ناصر يدفع عنه ولا ولي لهم يشفع ولا نصير يدفع
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائهم أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة إتقاء بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه تجده يجعل يده جنة أو يطأطىء رأسه كي لا يصيب وجهه وفي الآخرة تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ فما ظنك بسائر أعضائهم التي تجعل جنة للوجه ووقاية له يَقُولُونَ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ فيتحسرون ويندمون حيث لا تغنيهم الندامة والحسرة لحصول علمهم بأن الخلاص ليس إلا للمطيع ثم يقولون إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا يعني بدل طاعة الله تعالى أطعنا السادة وبدل طاعة الرسول أطعنا الكبراء وتركنا طاعة سيد السادات وأكبر الأكابر فبدلنا الخير بالشر فلا جرم فاتنا خير الجنان وأوتينا شر النيران ثم إنهم يطلبون بعض

التشفي بتعذيب المضلين ويقولون رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي بسبب ضلالهم وإضلالهم وفي قوله تعالى ضِعْفَيْنِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَثِيراً معنى لطيف وهو أن الدعاء لا يكون إلا عند عدم حصول الأمر المدعو به والعذاب كان حاصلاً لهم واللعن كذلك فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم ضِعْفَيْنِ وزيادة اللعن بقولهم لَعْناً كَبِيراً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً
لما بين الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب وكان ذلك إشارة إلى إيذاء هو كفر أرشد المؤمنين إلى الامتناع من إيذاء هو دونه وهو لا يورث كفراً وذلك مثل من لم يرض بقسمة النبي عليه السلام وبحكمه بالفيء لبعض وغير ذلك فقال كَبِيراً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَى وحديث إيذاء موسى مختلف فيه قال بعضهم هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه وقال بعضنم ( إن ) قارون قرر مع امرأة فاحشة حتى تقول عند بني إسرائيل إن موسى زنى بي فلما جمع قارون القوم والمرأة حاضرة ألقى الله في قلبها أنها صدقت ولم تقل ما لقنت وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو أنهم قالوا له اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ( المائدة 24 ) وقولهم لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) وقولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ( البقرة 61 ) إلى غير ذلك فقال للمؤمنين لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول إلى القتال أي لا تقولوا اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه ( وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) وقوله فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر الملائكة حتى عبروا بهرون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى عليه السلام عن قتله الذي رموه به وعلى ما ذكرنا فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وبالجملة قطع الله حجتهم ثم ضرب عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم وقوله وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً أي ذا وجاهة ومعرفة والوجيه هو الرجل الذي يكون له وجه أي يكون معروفاً بالخير وكل أحد وإن كان عند الله معروفاً لكن المعرفة المجردة لا تكفي في الوجاهة فإن من عرف غيره لكونه خادماً له وأجيراً عنده لا يقال هو وجيه عند فلان وإنما الوجيه من يكون له خصال حميدة تجعل من شأنه أن يعرف ولا ينكر وكان كذلك
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً

ثم قال تعالى وَجِيهاً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأفعال والأقوال أما الأفعال فالخير وأما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله ومن قال الصدق قال قولاً سديداً ثم وعدهم على الأمرين بأمرين على الخيرات بإصلاح الأعمال فإن بتقوى الله يصلح العمل والعمل الصالح يرفع ويبقى فيبقى فاعله خالداً في الجنة وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب
ثم قال تعالى وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً فطاعة الله هي طاعة الرسول ولكن جمع بينهما لبيان شرف فعل المطيع فإنه يفعله الواحد اتخذ عند الله عهداً وعند الرسول يداً وقوله فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً جعله عظيماً من وجهين أحدهما أنه من عذاب عظيم والنجاة من العذاب تعظم بعظم العذاب حتى أن من أراد أن يضرب غيره سوطاً ثم نجا منه لا يقال فاز فوزاً عظيماً لأن العذاب الذي نجا منه لو وقع ما كان يتفاوت الأمر تفاوتاً كثيراً والثاني أنه وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي
إِنَّا عَرَضْنَا الاٌّ مَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ والأرض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
لما أرشد الله المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي عليه السلام بأحسن الآداب بين أن التكليف الذي وجهه الله إلى الإنسان أمر عظيم فقال إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ أي التكليف وهو الأمر بخلاف ما في الطبيعة واعلم أن هذا النوع من التكليف ليس في السموات ولا في الأرض لأن الأرض والجبل والسماء كلها على ما خلقت عليه الجبل لا يطلب منه السير والأرض لا يطلب منها الصعود ولا من السماء الهبوط ولا في الملائكة لأن الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء لكن ذلك لهم كالأكل والشرب لنا فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الأمانة وجوه كثيرة منها من قال هو التكليف وسمي أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن وفر فله الكرامة ومنهم من قال هو قول لا إله إلا الله وهو بعيد فإن السموات والأرض والجبال بألسنتها ناطقة بأن الله واحد لا إله إلا هو ومنهم من قال الأعضاء فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها والأذن كذلك واليد كذلك والرجل والفرج واللسان ومنهم من قال معرفة الله بما فيها والله أعلم
المسألة الثانية في العرض وجوه منهم من قال المراد العرض ومنهم من قال الحشر ومنهم من قال المقابلة أي قابلنا الأمانة على السموات فرجحت الأمانة على أهل السموات والأرض
المسألة الثالثة فِي السَّمَاوَاتِ والاْرْضِ وجهان أحدهما أن المراد هي بأعيانها والثاني المراد أهلوها ففيه إضمار تقديره إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض
المسألة الرابعة قوله فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ( الحجر 31 ) من وجهين أحدهما أن هناك السجود كان فرضاً وههنا الأمانة كانت عرضاً وثانيهما أن الإباء كان هناك استكباراً وههنا استصغاراً استصغرن أنفسهن بدليل قوله وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
المسألة الخامسة ما سبب الإشفاق نقول الأمانة لا تقبل لوجوه أحدها أن يكون عزيزاً صعب

الحفظ كالأواني من الجواهر التي تكون عزيزة سريعة الانكسار فإن العاقل يمتنع عن قبولها ولو كانت من الذهب والفضة لقبلها ولو كانت من الزجاج لقبلها في الأول لأمانه من هلاكها وفي الثاني لكونها غير عزيزة الوجود والتكليف كذلك والثاني أن يكون الوقت زمان شهب وغارة فلا يقبل العاقل في ذلك الوقت الودائع والأمر كان كذلك لأن الشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين إذ الغرض كان بعد خروج آدم من الجنة الثالث مراعاة الأمانة والإتيان بما يجب كإيداع الحيوانات التي تحتاج إلى العلف والسقي وموضع مخصوص يكون برسمها فإن العاقل يمتنع من قبولها بخلاف متاع يوضع في صندوق أو في زاوية بيت والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية
المسألة السادسة كيف حملها الإنسان ولم تحملها هذه الأشياء فيه جوابان أحدهما بسبب جهله بما فيها وعلمهن ولهذا قال تعالى إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً والثاني أن الأشياء نظرت إلى أنفسهن فرأين ضعفهن فامتنعن والإنسان نظر إلى جانب المكلف وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة 5 )
المسألة السابعة قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً فيه وجوه أحدها أن المراد منه آدم ظلم نفسه بالمخالفة ولم يعلم ما يعاقب عليه من الإخراج من الجنة ثانيها المراد الإنسان يظلم بالعصيان ويجهل ما عليه من العقاب ثالثها إنه كان ظلوماً جهولا أي كان من شأنه الظلم والجهل يقال فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنه ذلك فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه وبعضهم ترك الظلم كما قال تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام 82 ) وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وقال في حق المؤمنين عامة وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 ) وقال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) رابعها إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً في ظن الملائكة حيث قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( البقرة 30 ) وبين علمه عندهم حيث قال تعالى أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء ( البقرة 31 ) وقال بعضهم في تفسير الآية إن المخلوق على قسمين مدرك وغير مدرك والمدرك منه من يدرك الكلي والجزئي مثل الآدمي ومنه من يدرك الجزئي كالبهائم ثم تدرك الشعير الذي تأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل والبراهين ومنه من يدرك الكلي ولا يدرك الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل قالوا وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة ِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء ( البقرة 31 ) فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات والتكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين إذ له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته وأما غيره فإن كان مكلفاً يكون مكلفاً لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة ومشقة بل بمعنى الخطاب فإن المخاطب يسمى مكلفاً لما أن المكلف مخاطب فسمي المخاطب مكلفاً وفي الآية لطائف الأولى الأمانة كان عرضها على آدم فقبلها فكان أميناً عليها والقول قول الأمين فهو فائز بقي أولاده أخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن ولهذا وارث المودع لا يكون القول قوله ولم يكن له بد من تجديد عهد وائتمان فالمؤمن اتخذ عند الله عهداً فصار أميناً من الله فصار القول قوله فكان له ما كان لآدم من الفوز ولهذا قال تعالى وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 73 ) أي كما تاب على آدم في قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 ) والكافر صار آخذاً

للأمانة من المؤتمن فبقي في ضمانه ثم إن المؤمن إذا أصاب الأمانة في يده شيء بقضاء الله وقدره كان ذلك من غير تقصير منه والأمين لا يضمن ما فات بغير تقصير والكافر إذا أصاب الأمانة في يده شيء ضمن وإن كان بقضاء الله وقدره لأنه يضمن ما فات وإن لم يكن بتقصير اللطيفة الثانية خص الأشياء الثلاثة بالذكر لأنها أشد الأمور وأحملها للأثقال وأما السموات فلقوله تعالى وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ( النبأ 12 ) والأرض والجبال لا تخفى شدتها وصلابتها ثم إن هذه الأشياء لما كانت لها شدة وصلابة عرض الله تعالى الأمانة عليها واكتفى بشدتهن وقوتهن فامتنعن لأنهن وإن كن أقوياء إلا أن أمانة الله تعالى فوق قوتهن وحملها الإنسان مع ضعفه الذي قال الله تعالى فيه وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ( النساء 28 ) ولكن وعده بالإعانة على حفظ الأمانة بقوله وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( الطلاق 3 ) فإن قيل فالذي يعينه الله تعالى كيف يعذب فلم يعذب الكافر نقول قال الله تعالى ( أنا أعين من يستعين بي ويتوكل علي ) والكافر لم يرجع إلى الله تعالى فتركه مع نفسه فيبقى في عهدة الأمانة اللطيفة الثالثة قوله تعالى فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وقوله تعالى وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إشارة إلى أن فيه مشقة بخلاف ما لو قال فأبين أن يقبلنها وقبلها الإنسان ومن قال لغيره افعل هذا الفعل فإن لم يكن في الفعل تعب يقابل بأجرة فإذا فعله لا يستحق أجرة فقال تعالى وَحَمَلَهَا إشارة إلى أنه مما يستحق الأجر عليه أي على مجرد حمل الأمانة وإما على رعايتها حق الرعاية فيستحق الزيادة فإن قيل فالكل حملوها غاية ما في الباب أن الكافر لم يأت بشيء زائد على الحمل فينبغي أن يستحق الأجر على الحمل فنقول الفعل إذا كان على وفق الإذن من المالك الآمر يستحق الفاعل الأجرة ألا ترى أنه لو قال احمل هذا إلى الضيعة التي على الشمال فحمل ونقلها إلى الضيعة التي على الجنوب لا يستحق الأجرة ويلزمه ردها إلى الموضع الذي كان فيه كذلك الكافر حملها على غير وجه الإذن فغرم وزالت حسناته التي عملها بسببه
لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
أي حملها الإنسان ليقع تعذيب المنافق والمشرك فإن قال قائل لم قدم التعذيب على التوبة نقول لما سمى التكليف أمانة والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة فكان التعذيب على الخيانة كاللازم والأجر على الحفظ إحسان والعدل قبل الإحسان وفيه مسألتان
المسألة الأولى لم عطف المشرك على المنافق ولم يعد اسمه تعالى فلم يقل ويعذب الله المشركين وعند التوبة أعاد اسمه وقال ويتوب الله ولو قال ويتوب على المؤمنين كان المعنى حاصلاً نقول أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذلك الفاعل فقال وَيَتُوبَ اللَّهُ ويحقق هذا قراءة من قرأ ويتوب الله بالرفع

المسألة الثانية ذكر الله في الإنسان وصفين الظلوم والجهول وذكر من أوصافه وصفين فقال وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً أي كان غفوراً للظلوم ورحيماً على الجهول وذلك لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعاً إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وأما الوعد فقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وأما الرحمة على الجهل فلأن الجهل محل الرحمة ولذلك يعتذر المسيء بقوله ما علمت
وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى أعلم عبده بأنه غفور رحيم وبصره بنفسه فرآه ظلوماً جهولاً ثم عرض عليه الأمانة فقبلها مع ظلمه وجهله لعلمه فيما يجبرها من الغفران والرحمة والله أعلم

سورة سبأ
مكية وقيل فيها آية مدنية وهي
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ الاْيَة َ
وهي أربع وقيل خمس وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاٌّ خِرَة ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
السور المفتتحة بالحمد خمس سور سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة والخامسة وهي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله تعالى خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما يدوم فلنا حالتان الابتداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ويدل عليه قوله تعالى فيه هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ( الأنعام 2 ) إشارة إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية وهي الكهف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً ( الكهف 1 2 ) إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع ينقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ولو وقعت المنازعات في المشتبهات وأدى إلى التقاتل والتفاني ثم قال في هذه السورة الْحَمْدُ للَّهِ إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني ويدل عليه قوله تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَة ِ وقال في الملائكة الْحَمْدُ للَّهِ إشارة إلى نعمة الإبقاء ويدل عليه قوله تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلاً إلى يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين كما قال تعالى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ ( الأنبياء 103 ) وقال تعالى عنهم سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( الزمر 73 ) وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر النعمتين بقوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة ) إشارة إلى

النعمة العاجلة وقوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ إشارة إلى النعمة الآجلة قرئت في الافتتاح وفي الاختتام ثم في مسائل
المسألة الأولى الحمد شكر والشكر على النعمة والله تعالى جعل ما في السموات وما في الأرض لنفسه بقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يبين أنه لنا حتى يجب الشكر نقول جواباً عنه الحمد يفارق الشكر في معنى وهو أن الحمد أعم فيحمد من فيه صفات حميدة وإن لم ينعم على الحامد أصلاً فإن الإنسان يحسن منه أن يقول في حق عالم لم يجتمع به أصلاً أنه عالم عامل بارع كامل فيقال له إنه يحمد فلاناً ولا يقال إنه يشكره إلا إذا ذكر نعمه أو ذكره على نعمه فالله تعالى محمود في الأزل لاتصافه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال ومشكور ولا يزال على ما أبدى من الكرم وأسدى من النعم فلا يلزم ذكر النعمة للحمد بل يكفي ذكر العظمة وفي كونه مالك ما في السموات وما في الأرض عظمة كاملة فله الحمد على أنا نقول قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يوجب شكراً أتم مما يوجبه قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ وذلك لأن ما في السموات والأرض إذا كان لله ونحن المنتفعون به لا هو يوجب ذلك شكراً لا يوجبه كون ذلك لنا
المسألة الثانية قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعمة التي في الآخرة فلم ذكر الله السموات والأرض فنقول نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَة ِ ليقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها وفناء العاجلة ولهذا قال وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى أن خلق هذه الأشياء بالحكمة والخير والحكمة صفة ثابتة لله لا يمكن زوالها فيمكن منه إيجاد أمثال هذه مرة أخرى في الآخرة
المسألة الثالثة الحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له حكيم فالفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها فقوله حَكِيمٌ أي في الابتداء يخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق وما لا يصدر إلى ماذا يكون مصير كل أحد فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء
يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَة ُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ لِّيَجْزِى َ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
ثم بين الله تعالى كما أخبره بقوله يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
ما يلج في الأرض من الحبة والأموات ويخرج منها من السنابل والأحياء وما ينزل من السماء من أنواع رحمته منها المطر ومنها الملائكة ومنها القرآن وما يعرج فيها منها الكلم الطيب لقوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ومنها الأرواح ومنها الأعمال الصالحة لقوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) وفيه مسائل

المسألة الأولى قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء لأن الحبة تبذر أولاً ثم تسقى ثانياً
المسألة الثانية قال وما يعرج فيها ولم يقل يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة ومرتبة النفوس الزكية وهذا لأن كلمة إلى للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه وأما السماء فهي دنيا وفوقها المنتهى
المسألة الثالثة قال وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ رحيم بالإنزال حيث ينزل الرزق من السماء غفور عندما تعرج إليه الأرواح والأعمال فرحم أولاً بالإنزال وغفر ثانياً عند العروج
ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَة ُ ثم رد عليهم وقال قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ لّيَجْزِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
أخبر بإتيانها وأكده باليمين قال الزمخشري رحمه الله لو قال قائل كيف يصح التأكيد باليمين مع أنهم يقولون لا رب وإن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين وأجاب عنه بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في دار الدنيا في الآلام الشديدة مدة ويموت فيها فلولا دار تكون الأجزية فيها لكان الأمر على خلاف الحكمة والذي أقوله أنا هو أن الدليل المذكور في قوله عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ أظهر وذلك لأنه إذا كان عالماً بجميع الأشياء يعلم أجزاء الأحياء ويقدر على جمعها فالساعة ممكنة القيام وقد أخبر عنها الصادق فتكون واقعة وعلى هذا فقوله تعالى فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح والأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ إشارة إلى علمه بالأرواح وقوله وَلاَ فِى الاْرْضِ إشارة إلى علمه بالأجسام وإذا علم الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد وقوله وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ إشارة إلى أن ذكر مثقال الذرة ليس للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب وعلى هذا فلو قال قائل فأي حاجة إلى ذكر الأكبر فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد من أن يعلم الأكبر فنقول لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات

في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضاً مكتوب فيه ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جمع ذلك وإثباته للجزاء فقال لّيَجْزِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ذكر فيهم أمرين الإيمان والعمل الصالح وذكر لهم أمرين المغفرة والرزق الكريم فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له ويدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وقوله عليه السلام فيما أخبرنا به تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي قال أخبرني والدي عن جدي عن محيي السنة عن عبد الواحد المليجي عن أحمد بن عبد الله النعيمي عن محمد بن يوسف الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان ) والرزق الكريم من العمل الصالح وهو مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بد من أن ينعم عليه إنعاماً ويطعمه طعاماً ووصف الرزق بالكريم قد ذكرنا أنه بمعنى ذي كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه ما لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى قوله أُوْلئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون لهم ذلك جزاء فيوصله إليهم لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وثانيهما أن يكون ذلك لهم والله يجزيهم بشيء آخر لأن قوله أُوْلئِكَ لَهُمْ جملة تامة إسمية وقوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً جملة فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل ليجزي الذين آمنوا رزقاً
المسألة الثانية اللام في ليجزي للتعليل معناه الآخرة للجزاء فإن قال قائل فما وجه المناسبة فنقول الله تعالى أراد أن لا ينقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقية ليكون ثوابه واصلاً إليه دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيها الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلف مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبلها وإذا نظر إليه في نفسه
المسألة الثالثة ميز الرزق بالوصف بقوله كريم ولم يصف المغفرة واحدة هي للمؤمنين والرزق منه شجرة الزقوم والحميم ومنه الفواكه والشراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين وقوله وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءايَاتِنَا أي بالإبطال ويكون معناه الذين كذبوا بآياتنا وحينئذٍ يكون هذا في مقابلة ما تقدم لأن قوله تعالى ءامَنُواْ معناه صدقوا وهذا معناه كذبوا فإن قيل من أين علم كون سعيهم في الإبطال مع أن المذكور مطلق السعي فنقول فهم من قوله تعالى مُعَاجِزِينَ وذلك لأنه حال معناه سعوا فيها وهم يريدون التعجيز وبالسعي في التقرير والتبليغ لا يكون الساعي معاجزاً لأن القرآن وآيات الله معجزة في نفسها لا حاجة لها إلى أحد وأما المكذب فهو آت بإخفاء آيات بينات فيحتاج إلى السعي العظيم والجد البليغ ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به وقيل بأن المراد من قوله مُعَاجِزِينَ أي ظانين أنهم يفوتون الله وعلى هذا يكون كون الساعي ساعياً بالباطل في

غاية الظهور ولهم عذاب في مقابلة لهم رزق وفي الآية لطائف الأولى قال ههنا لَهُمْ عَذَابَ ولم يقل يجزيهم الله وقد تقدم القول منا أن قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يحتمل أن يكون الله يجزيهم بشيء آخر وقوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ إخبار عن مستحقهم المعد لهم وعلى الجملة فاحتمال الزيادة هناك قائم نظراً إلى قوله لِيَجْزِى َ وههنا لم يقل ليجازيهم فلم يوجد ذلك الثانية قال هناك لهم مغفرة ثم زادهم فقال وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وههنا لم يقل إلا لهم عذاب من رجز أليم والجواب تقدم في مثله الثالثة قال هناك لَّهُم مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ولم يقلله بمن التبعيضية فلم يقل لهم نصيب من رزق ولا رزق من جنس كريم وقال ههنا لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ بلفظة صالحة للتبعيض وكل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب بالنسبة إليها والرجز قيل أسوأ العذاب وعلى هذا مِنْ لبيان الجنس كقول القائل خاتم من فضة وفي الأليم قراءتان الجر والرفع فالرفع على أن الأليم وصف العذاب كأنه قال عذاب أليم من أسوأ العذاب والجر على أنه وصف للرجز والرفع أقرب نظراً إلى المعنى والجر نظراً إلى اللفظ فإن قيل فلم تنحصر الأقسام في المؤمن الصالح عمله والمكذب الساعي المعجز لجواز أن يكون أحد مؤمناً ليس له عمل صالح أو كافر متوقف فنقول إذا علم حال الفريقين المذكورين يعلم أن المؤمن قريب الدرجة ممن تقدم أمره والكافر قريب الدرجة ممن سبق ذكره وللمؤمن مغفرة ورزق كريم وإن لم يكن في الكرامة مثل رزق الذي عمل صالحاً وللكافر غير المعاند عذاب وإن لم يكن من أسوأ الأنواع التي للمكذبين المعاندين
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
لما بين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سعيه باطل فإن من أوتي علماً لا يغتر بتكذيبه ويعلم أن ما أنزل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حق وصدق وقوله هو الحق يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأما قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خصمان والنزاع لفظي فيكون قول كل واحد حقاً في المعنى وقوله تعالى وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يحتمل أن يكون بياناً لكونه هو الحق فإنه هاد إلى هذا الصراط ويحتمل أن يكون بياناً لفائدة أخرى وهي أنه مع كونه حقاً هادياً والحق واجب القبول فكيف إذا كان فيه فائدة في الاستقبال وهي الوصول إلى الله وقوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يفيد رغبة ورهبة فإنه إذا كان عزيزاً يكون ذا انتقام ينتقم من الذي يسعى في التكذيب وإذا كان حميداً يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحاً فإن قيل كيف قدم الصفة التي للهيبة على الصفة التي للرحمة مع أنك أبداً تسعى في بيان تقديم جانب الرحمة نقول كونه عزيزاً تام الهيبة شديد الانتقام يقوي جانب الرغبة لأن رضا الجبار العزيز أعز وأكرم من رضا من لا يكون كذلك فالعزة كما تخوف ترجى أيضاً وكما ترغب عن التكذيب ترغب في

التصديق ليحصل القرب من العزيز
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ
وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما بين أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم بقوله قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ( سبأ 3 ) وبين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات بين حال المؤمن والكافر بعد قوله قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ فقال المؤمن هو الذي يقول الذي أنزل إليك الحق وهو يهدي وقال الكافر هو الذي يقول هو باطل ومن غاية اعتقادهم وعنادهم في إبطال ذلك قالوا على سبيل التعجب هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( سبأ 7 ) وهذا كقول القائل في الاستبعاد جاء رجل يقول إن الشمس تطلع من المغرب إلى غير ذلك من المحالات
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّة ٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ
ثم قال تعالى أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّة ٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تمام قول الذين كفروا أولاً أعني هو من كلام من قال هَلْ نَدُلُّكُمْ ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال هَلْ نَدُلُّكُمْ كأن السامع لما سمع قول القائل هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ قال له أهو يفتري على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه أم به جنة ( أي ) جنون إن كان لا يعتقد خلافه وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لا يرضى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفتر بل قال مفتر أو مجنون احترازاً من أن يقول قائل كيف يقول بأنه مفتر مع أنه جائز أن يظن أن الحق ذلك فظن الصدق يمنع تسمية القائل مفترياً وكاذباً في بعض المواضع ألا ترى أن من يقول جاء زيد فإذا تبين أنه لم يجىء وقيل له كذبت يقول ما كذبت وإنما سمعت من فلان أنه جاء فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم احترزوا عن تبين كذبهم فكل عاقل ينبغي أن يحترز عن ظهور كذبه عند الناس ولا يكون العاقل أدنى درجة من الكافر ثم إنه تعالى أجابهم مرة أخرى وقال بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ فِى الْعَذَابِ في مقابلة قولهم افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وقوله وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ في مقابلة قولهم بِهِ جِنَّة ٌ وكلاهما مناسب أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤذية لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوه إلى الكذب وأما الجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء لأنه لا يشهد عليه بأنه يعذب ولكن ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنهم هم الضالون ثم وصف ضلالهم بالبعد لأن من يسمي المهتدي ضالاً يكون هو الضال فمن يسمي الهادي ضالاً يكون أضل

والنبي عليه الصلاة والسلام كان هادي كل مهتد
أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَة ً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
ثم قال تعالى أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر وذكر فيه تهديداً أما الدليل فقوله مّنَ السَّمَاء والاْرْضِ فإنهما يدلان على الوحدانية كما بيناه مراراً وكما قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) ويدلان على الحشر لأنهما يدلان على كمال قدرته ومنها الإعادة وقد ذكرناه مراراً وقال تعالى أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( ي س 81 ) وأما التهديد فبقوله إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ يعني نجعل عين نافعهم ضارهم بالخسف والكسف
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَة ً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب ثم إن الله تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم داود كما قال تعالى عنه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( ص 24 ) وبين ما أتاه الله على إنابته فقال
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى مِنَّا إشارة إلى بيان فضيلة داود عليه السلام وتقريره هو أن قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل آتي الملك زيداً خلعة فإذا قال القائل آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاص ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ومثل هذا قوله تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ ( التوبة 21 ) فإن رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد في الدنيا لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه فقال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ
المسألة الثانية في قوله فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ قال الزمخشري مِن جِبَالٍ بدل من قوله فَضْلاً معناه آتيناه فضلاً قولنا يا جبال أو من آتينا ومعناه قلنا يا جبال
المسألة الثالثة قرىء أوبي بتشديد الواو من التأويب وبسكونها وضم الهمزة أوبي من الأوب وهو الرجوع والتأويب الترجيع وقيل بأن معناه سيرى معه وفي قوله يُسَبّحْنَ قالوا هو من السباحة وهي الحركة المخصوصة
المسألة الرابعة قرىء وَالطَّيْرُ بالنصب حملاً على محل المنادى والطير بالرفع حملاً على لفظه
المسألة الخامسة لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الجبال والطير ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور تستبعد منهما الموافقة فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة
المسألة السادسة قوله وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ عطف والمعطوف عليه يحتمل أن يكون قلنا المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا مِن جِبَالٍ أوبي وألنا ويحتمل أن يكون عطفاً على آتينا تقديره آتيناه فضلاً وألنا له

المسألة السابعة ألان الله له الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير فإنه يلين بالنار وينحل حتى يصير كالمداد الذي يكتب به فأي عاقل يستبعد ذلك من قدرة الله قيل إنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي الدروع وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وسعى في حفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل فالزراد خير من القواس والسياف وغيرهما
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
قيل إن أن ههنا للتفسير فهي مفسرة بمعنى أي اعمل سابغات وهو تفسير ألنا وتحقيقه لأن يعمل يعني ألنا له الحديد ليعمل سابغات ويمكن أن يقال ألهمناه أن اعمل وأن مع الفعل المستقبل للمصدر فيكون معناه ألنا له الحديد وألهمناه عمل سابغات وهي الدروع الواسعة ذكر الصفة ويعلم منها الموصوف وقدر في السرد قال المفسرون أي لا تغلظ المسامير فيتسع الثقب ولا توسع الثقب فتقلقل المسامير فيها ويحتمل أن يقال السرد هو عمل الزرد وقوله سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ أي الزرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب ويدل عليه قوله تعالى وَاعْمَلُواْ صَالِحاً أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه والكسب قدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وقد ذكرنا مراراً أن من يعمل لملك شغلاً ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيباً آخر وهو سليمان كما قال تعالى وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ ( ص 34 )
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
وذكر ما استفاد هو بالإنابة فقال وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ بالرفع وبالنصب وجه الرفع وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ مسخرة أو سخرت لِسْلَيْمَانَ الرّيحَ ووجه النصب وَلِسُلَيْمَانَ سخرنا الرّيحَ وللرفع وجه آخر وهو أن يقال معناه وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ كما يقال لزيد الدار وذلك لأن الريح كانت له كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد
المسألة الثانية الواو للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً لجملة إسمية على جملة فعلية وهو لا يجوز أولا يحسن فكيف هذا فنقول لما بين حال داود كأنه تعالى قال ما ذكرنا لداود ولسليمان الريح وأما على

النصب فعلى قولنا وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ كأنه قال وألنا لداود الحديد وسخرنا لسليمان الريح
المسألة الثالثة المسخر لسليمان كانت ريحاً مخصوصة لا هذه الرياح فإنها المنافع عامة في أوقات الحاجات ويدل عليه أنه لم يقرأ إلا على التوحيد فما قرأ أحد الرياح
المسألة الرابعة قال بعض الناس المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح ومن تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح وقوله غُدُوُّهَا شَهْرٌ ثلاثون فرسخاً لأن من يخرج للتفرج في أكثر الأمر لا يسير أكثر من فرسخ ويرجع كذلك وقوله في حق داود وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وقوله في حق سليمان وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أنهم استخرجوا تذويب الحديد والنحاس بالنار واستعمال الآلات منهما والشياطين أي أناساً أقوياء وهذا كله فاسد حمله على هذا ضعف اعتقاده ( و ) عدم اعتماده على قدرة الله والله قادر على كل ممكن وهذه أشياء ممكنة
المسألة الخامسة أقول قوله تعالى وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالُ ( الأنبياء 79 ) وقوله وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَة ً لو قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى قال في الأنبياء وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالُ وفي هذه السورة قال فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ ( سبأ 10 ) وقال في الريح هناك وههنا وَلِسُلَيْمَانَ تقول الجبال لما سبحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحف والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة له وهذا حسن وفيه أمر آخر معقول يظهر لي وهو أن على قولنا أَوّبِى مَعَهُ سيري فالجبل في السير ليس أصلاً بل هو يتحرك معه تبعاً والريح لا تتحرك معه سليمان بل تحرك سليمان مع نفسها فلم يقل الريح مع سليمان بل سليمان كان مع الريح وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس وَمِنَ الْجِنّ أي سخرنا له من الجن وهذا ينبىء عن أن جميعهم ما كانوا تحت أمره وهو الظاهر
واعلم أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان عليهما الصلاة والسلام فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان وذلك لأن الثقيل مع ما هو أخف منه إذا تحركا يسبق الخفيف الثقيل ويبقى الثقيل مكانه لكن الجبال كانت أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح فقدر الله أن سار الثقيل مع الخفيف أي الجبال مع داود على ما قلنا أَوّبِى أي سيري وسليمان وجنوده مع الريح الثقيل مع الخفيف أيضاً والطير من جنس تسخير الجن لأنهما لا يجتمعان مع الإنسان الطير لنفوره من الإنس والإنس لنفوره من الجن فإن الإنسان يتقي مواضع الجن والجن يطلب أبداً اصطياد الإنسان والإنسان يطلب اصطياد الطير فقدر الله أن صار الطير لا ينفر من داود بل يستأنس به ويطلبه وسليمان لا ينفر من الجن بل يسخره ويستخدمه وأما القطر والحديد فتجاذبهما غير خفي وههنا لطيفة وهي أن الآدمي ينبغي أن يتقي الجن ويجتنبه والاجتماع به يفضي إلى المفسدة ولهذا قال تعالى أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ ( المؤمنون 97 98 ) فكيف طلب سليمان الاجتماع بهم فنقول قوله تعالى مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ إشارة إلى أن ذلك الحضور لم يكن فيه مفسدة ولطيفة أخرى وهي أن الله تعالى قال ههنا بِإِذْنِ رَبّهِ بلفظ الرب وقال وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ولم يقل عن أمر ربه وذلك لأن الرب لفظ ينبىء عن الرحمة فعندما كانت الإشارة إلى حفظ سليمان عليه السلام قال رَبَّهُ وعندما كانت الإشارة إلى

التالي هو ج25.وج26. بمشيئته وحده

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...